مأساة ثقافية تتحدى الزمن.. آثار بلاد ما بين النهرين تحت أنقاض حرب العراق
تاريخ النشر: 13th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تتمتع بلاد ما بين النهرين، التي يُنظَر إليها غالبًا باعتبارها مهد الحضارة، بتاريخ عريق كمهد للزراعة والكتابة والمدن والابتكارات التي لا حصر لها والتي كانت أساسية للتقدم البشري. واليوم، تضم دولة العراق الحديثة هذه المنطقة القديمة، موطن نهري دجلة والفرات.
ومع ذلك، كانت حرب العراق المدمرة في عام 2003 بمثابة نقطة تحول لمواقعها الأثرية التي لا تقدر بثمن، والتي عانت من أضرار غير مسبوقة ونهب وإهمال.
فى تصريحات لموقع «أوديسا الكتاب المقدس- Bible Odyssey»، يسلط فرانسيس ديبلاو، وهو باحث بارز في بلاد ما بين النهرين القديمة، الضوء على كيف عرّض الصراع التراث الثقافي لهذه المنطقة للخطر، والذي يشمل اتصالات بقصص توراتية مثل جنة عدن وبرج بابل. ويؤكد التأثير الفوري للحرب على الثروة الأثرية في العراق على المسئولية العالمية لحماية هذا التراث الذي لا يمكن تعويضه.
حالة نهب مأساوية
كانت عملية نهب المتحف الوطني العراقي في بغداد واحدة من أكثر حلقات الحرب شهرة. وكان المتحف، الذي يضم أكبر مجموعة من التحف الأثرية التي تعود إلى بلاد ما بين النهرين، ضحية للمخربين واللصوص خلال الأيام الأولى للغزو الأمريكي في أبريل 2003. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها أجهزة إنفاذ القانون العراقية والدولية لاستعادة القطع المسروقة، لم يتم استرداد سوى حوالي 5000 قطعة أثرية، وما زال أكثر من 10000 قطعة مفقودة.
توضح هذه المأساة الثقافية مدى ضعف المواقع التراثية في أوقات الحرب، وخاصة عندما تُترك مثل هذه المؤسسات دون حماية. ورغم أن المتحف أصبح آمنًا الآن، إلا أن ندوب تلك الأيام تظل تذكيرًا صارخًا بهشاشة الكنوز التاريخية.
تدمير السياقات الأثرية
وراء جدران المتحف، واجهت عشرات الآلاف من المواقع الأثرية في جميع أنحاء العراق نهبًا ممنهجًا. ولقد كان الضرر الذي لحق بجنوب العراق، والذي يشار إليه غالباً باسم «مهد الحضارة السومرية»، شديداً بشكل خاص. ويصف ديبلاو هذه المواقع بأنها تحولت إلى «مناظر طبيعية تشبه القمر»، حيث تحولت تلال المدن بأكملها، أو التلال، إلى حقول مليئة بالحفر من قبل اللصوص الباحثين عن القطع الأثرية القيمة.
إن هذه الخسارة تمتد إلى ما هو أبعد من القطع الأثرية نفسها. ففي علم الآثار، يشكل السياق أهمية بالغة. فالقطع الأثرية التي تم العثور عليها في مواقعها الأصلية، بالاقتران بأشياء أخرى، توفر رؤى حول ثقافة وتاريخ الحضارات القديمة. وبمجرد إزالتها دون توثيق، فإن قيمتها العلمية تتضاءل بشكل كبير.
تطوير البنية الأساسية
كان تأثير النشاط العسكري عميقاً أيضاً. على سبيل المثال، تجنبت مدينة أور القديمة، التي اشتهرت بزقورتها، عمليات النهب المكثفة بسبب وجود قاعدة جوية قريبة. ومع ذلك، فإن توسع المنشآت العسكرية تعدى على البقايا الأثرية، مما أدى إلى أضرار لا يمكن إصلاحها. وعلى نحو مماثل، تسبب إنشاء قاعدة عسكرية في بابل القديمة في إحداث اضطرابات في التربة والتحف الأثرية، الأمر الذي زاد من تعريض سلامة هذه المواقع للخطر.
ويشير ديبلو إلى أن بعض الأضرار تعود إلى ما قبل الحرب، مثل تجفيف صدام حسين للأهوار بالقرب من ملتقى نهري دجلة والفرات. وقد تغيرت هذه المناطق، التي ربما كانت مرتبطة بجنة عدن التوراتية، أثناء الحملات العسكرية التي شنها صدام حسين ضد القبائل المحلية. كما لعب التوسع الحضري والزراعة دوراً في التدهور البطيء للمواقع القديمة.
التقدم في الحفاظ والاستعادة
على الرغم من هذه التحديات، فقد قطع المجتمع الدولي والسلطات العراقية خطوات واسعة في معالجة الأزمة. ففي أعقاب عمليات النهب الواسعة النطاق في عام 2003، نجح العلماء في الدعوة إلى قوانين أكثر صرامة لحماية التراث في الولايات المتحدة وسويسرا ودول أخرى. واستأنفت هيئة الآثار والتراث الحكومية أعمال الحفر الخاضعة للرقابة، وخاصة في المناطق المهددة، مع استقرار الوضع السياسي.
وظهرت عدة مبادرات للحفاظ على تراث العراق وتوثيقه. ومن بين هذه المبادرات قاعدة بيانات الكنوز المفقودة من العراق، ومشروع معلومات الحرب والآثار في العراق، ومبادرة المكتبة الرقمية المسمارية، التي جعلت النصوص السومرية والأكادية القديمة متاحة عبر الإنترنت. وتعكس هذه الجهود اعترافاً متزايداً بالحاجة إلى حماية ودراسة التاريخ الثقافي الذي لا مثيل له في العراق.
المسئولية العالمية
تؤكد ديبلاوي أن الحفاظ المستدام يبدأ بتمكين المجتمعات المحلية. ويجب أن يشارك السكان القريبون من المواقع الأثرية بنشاط في إدارتها وحمايتها. ويمكن أن تعمل السياحة كبديل اقتصادي قابل للتطبيق، مما يحفز السكان المحليين على حماية هذه الكنوز بدلاً من استغلالها.
على المستوى الدولي، فإن مكافحة تجارة الآثار غير القانونية أمر بالغ الأهمية. وطالما يستفيد المشترون والوسطاء الأثرياء من القطع الأثرية المنهوبة، فإن هذه السوق السوداء ستستمر. وتشكل آليات الإنفاذ المعززة والعقوبات المفروضة على الاتجار بالآثار ضرورة أساسية للحد من هذه المشكلة العالمية.
إن محنة التراث الأثري العراقي تشكل حكاية تحذيرية حول التكاليف الثقافية للحرب. ورغم إحراز بعض التقدم، فإن حجم الضرر يتطلب بذل جهود مستمرة للحفاظ على ما تبقى. إن حماية المواقع الأثرية في بلاد ما بين النهرين ليست مسؤولية عراقية فحسب، بل إنها ضرورة عالمية.
وكما يشير ديبلاوي بشكل مؤثر، فإن هذه الآثار تقدم رؤى عميقة للتاريخ المشترك للإنسانية. إن تدميرها يحرم الأجيال القادمة من فهم أصولها ويقلل من الثروة الثقافية للعالم. ويتمثل التحدي الآن في ضمان بقاء هذه الآثار الحضارية كشهادة على ماضينا الجماعي.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: التراث الثقافي الحضارات الكتاب المقدس العراق القطع الأثریة
إقرأ أيضاً:
مدن وبلدات تتحدى حكوماتها وتقطع علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي.. تعرف عليها؟
في ظل عجز حكومات الدول الغربية عن اتخاذ مواقف حازمة تجاه الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة، اتجهت العديد من المدن والبلدات حول العالم إلى اتخاذ إجراءات مستقلة، تمثلت في قطع علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي، ووقف اتفاقيات التوأمة، وإنهاء التعاون الاقتصادي والعسكري والثقافي مع مؤسسات إسرائيلية رسمية أو شركات متورطة في جرائم الاحتلال.
وتعكس هذه المبادرات اتجاهاً متصاعداً لدى السلطات المحلية للاضطلاع بمسؤولياتها الأخلاقية والقانونية، عبر سحب الاستثمارات من الكيانات والشركات المتواطئة في نظام الاحتلال العسكري والفصل العنصري، أو المتورطة في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية الإبادة الجماعية، كما نصّت عليه قرارات صادرة عن محكمة العدل الدولية.
برشلونة تقطع العلاقات مع تل أبيب
في خطوة بالغة الدلالة، صوت مجلس بلدية برشلونة، يوم الجمعة الماضي، لصالح قطع العلاقات المؤسسية مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وتعليق اتفاق الصداقة الموقع مع مدينة تل أبيب منذ عام 1998، وذلك "حتى يتم احترام القانون الدولي وضمان الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني"، وفق ما ورد في القرار.
وحظي القرار بتأييد الحزب الاشتراكي الحاكم وأحزاب يسارية واستقلالية، مشيراً إلى أن هجمات الاحتلال الإسرائيلي الأخيرة على قطاع غزة، وسقوط آلاف الضحايا المدنيين، تجعل من غير الممكن الاستمرار في العلاقات بين المدينتين.
كما تضمن القرار دعوة صريحة لمجلس إدارة معرض برشلونة بعدم استضافة أجنحة إسرائيلية أو شركات أسلحة تستفيد من العدوان، إضافة إلى توصية بمنع دخول السفن المتورطة في نقل السلاح إلى ميناء برشلونة، ووقف التعاون مع أي شركة تنتهك القانون الإنساني الدولي.
حماس ترحب
رحبت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بقرار برشلونة، واعتبرته "انتصاراً للعدالة والضمير الإنساني"، داعية مزيداً من المدن حول العالم إلى اتخاذ خطوات مماثلة "لعزل إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها"، وخصوصاً جريمة التجويع والإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان غزة.
إسبانية.. إرث متجدد من المقاطعة
ولا تُعد هذه المرة الأولى التي تقدم فيها بلدية برشلونة على تعليق علاقاتها مع حكومة بنيامين نتنياهو؛ إذ سبق أن اتخذت رئيسة البلدية السابقة، آدا كولاو، قراراً مشابهاً عام 2023، قبل أن يُلغى لاحقاً بعد تغير القيادة المحلية.
إلا أن قرار العام الجاري يعيد تثبيت موقف المدينة التاريخي المناهض للفصل العنصري الإسرائيلي، ويأتي متزامناً مع اعتراف الحكومة الإسبانية، برئاسة بيدرو سانشيز، رسمياً بدولة فلسطين، إلى جانب كل من النرويج وأيرلندا.
إيطاليا.. حاكم إقليم يقطع العلاقات
في جنوب إيطاليا، أعلن حاكم إقليم أبوليا، ميكيلي إميليانو، قطع كافة أشكال العلاقات مع حكومة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الصادرة بحقه مذكرة توقيف دولية، معتبراً أن ما يجري في غزة "إبادة جماعية ممنهجة".
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
ودعا إميليانو موظفي الإقليم ومؤسساته إلى مقاطعة جميع ممثلي الحكومة الإسرائيلية ما لم يُظهروا رفضاً واضحاً للعدوان. وأكد أن القرار موجه ضد الحكومة الإسرائيلية لا الشعب الإسرائيلي، مشيداً بمواقف يهود وإسرائيليين معارضين للمجزرة.
وفي سياق متصل، طالبت أحزاب المعارضة الإيطالية الحكومة بفرض عقوبات على الاحتلال الإسرائيلي والاعتراف بدولة فلسطين، بينما دعت إلى تنظيم مظاهرة كبرى في روما يوم 7 حزيران/يونيو المقبل.
بلديات إيطالية كبرى تنضم
وكانت عدة بلديات إيطالية، مثل نابولي وتورينو وفلورنسا وبولونيا وبيزا، قد أصدرت قرارات تطالب بوقف أو تعليق التجارة العسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي، وتحث على محاسبة الاحتلال استجابةً لنداء حركة المقاطعة (BDS).
بلجيكا: لييج وبروكسل تعلقان التوأمة
في بلجيكا، صوت مجلس مدينة لييج على قرار بإنهاء العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي إلى حين "إنهاء نظام الفصل العنصري واحترام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة"، مع دعوة واضحة لمقاطعة البضائع المنتجة في الأراضي المحتلة.
The Belgian city of Liège has voted to end all ties with Israel citing its regime of “apartheid, colonization and military occupation” against Palestinians. Liège now joins Oslo and Barcelona municipalities in ending complicity in Israel’s grave human rights violations. pic.twitter.com/Ztrxhn4je4 — BDS movement (@BDSmovement) April 25, 2023
وفي بروكسل، علقت بلدية إيكسيل، التابعة للعاصمة، اتفاقية التوأمة مع بلدة مجيدو الإسرائيلية، بناء على احتجاجات شعبية واسعة نظمتها منظمات يسارية، وبدعم من مواطنين بلجيكيين من أصول عربية.
وأوضحت الناشطة مليكة حمري، التي قادت المبادرة، أن "مجيدو" تضم سجناً سيئ السمعة متورطاً في تعذيب الفلسطينيين، وهو ما يجعل أي شراكة معها أمراً مرفوضاً أخلاقياً.
✊28.05.2025 La commune d'#Anderlecht à #Bruxelles ????????a hissé le drapeau #palestinien ????????❤️
✊28.05.2025 The municipality of #Anderlecht in #Brussels ???????? raised the #Palestinian ????????flag ❤️#Brussel #Belgium #Belgique #Belgica #Palestine #Palestina #Gaza ???????? pic.twitter.com/ukZCitOvXR — vero ???????????? (@veroveronique1) May 30, 2025
النرويج تحظر منتجات المستوطنات
من جهتها، قررت بلدية أوسلو، العاصمة النرويجية، حظر استيراد منتجات الشركات المتورطة في الاستيطان الإسرائيلي، في خطوة جديدة لدعم حقوق الفلسطينيين، وهي التي سبق أن أعلنت التزامها بمبادئ العدالة الدولية.
People took to the streets in Oslo, in solidarity with Gaza ???????? pic.twitter.com/zyG84a5sDz — PALESTINE ONLINE ???????? (@OnlinePalEng) May 10, 2025
الولايات المتحدة.. مدن تتحدى سياسة ترامب
رغم الدعم التقليدي الذي يحظى به الاحتلال الإسرائيلي في الأوساط الفيدرالية الأمريكية، شهدت ولايات مثل فيرمونت وماين وميشيغان قرارات جريئة من مجالس بلدية تعلن مقاطعة الاحتلال وسحب الاستثمارات منه.
ولاية ماين
ففي ولاية ماين، أعلن مجلس مدينة بورتلاند قطع علاقاته الاقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي، وسحب استثمارات من شركات متواطئة مثل بوينغ وكاتربيلر وفولفو وإنتل، استجابة لتحركات منظمات يهودية وفلسطينية محلية.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة مقاطعة (@boycott4pal)
ولاية فيرمونت
أما في ولاية فيرمونت، فقد مررت تسع بلديات، منها براتلبورو ووينوسكي وثيتفورد، قرارات تعلن نفسها "مجتمعات خالية من الفصل العنصري"، وتدعو إلى إنهاء أي علاقة اقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي.
ولاية ميشيغان
وفي ولاية ميشيغان، أصبحت مدينة هامترامك أول مدينة تعتمد رسمياً قراراً يدعم حركة المقاطعة BDS، مؤكدة سحب الاستثمارات من شركات تدعم الاحتلال العسكري الإسرائيلي.
اتساع رقعة المقاطعة
تعكس هذه التحركات الشعبية والمؤسساتية في المدن الغربية اتجاهاً عالمياً متصاعداً ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي، في ظل ما يوصف بـ"شلل دولي" رسمي تجاه المجازر المستمرة في قطاع غزة.
وباتت البلديات والمجالس المحلية في طليعة الدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان، في وقت يتزايد فيه الضغط على الحكومات لاتخاذ خطوات أكثر جدية تجاه الاحتلال الإسرائيلي.