شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: الحلم يعود من جديد
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
ـ قبيل صدور صحيفة الأسبوع تلقينا تهديدات حتى لا نعود مجددا للساحة
ـ كنا نريد صوتًا صحفيا يعبر عن أهلنا الغلابة وعن قيمنا وثوابتنا وعن أمة تحاصرها المؤمرات
ـ رفضنا استدعاء عملاء الأمريكان لاستضافتهم على صفحاتنا نكاية فى النظام
ـ شهادة الراحل الكبير محمد حسنين هيكل وسام على صدر الأسبوع
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتِها وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صنَّاع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتُها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثِها.
1 - الحلمكان حلم إصدار صحيفة مستقلة يراودني كثيرًا… قررت المضي فى تنفيذ الفكرة، حصلت على وعد بحزمة إعلانات مسبقة من عدد من رجال الأعمال، وبعض المؤسسات الحكومية ممن تعاطفوا معنا فى أزمتنا الأخيرة.
قبيل صدور الصحيفة، تلقينا التهديدات بأن هناك من سوف يبذل المستحيل، حتى لا نعود مجددا للساحة، لدرجة أن البعض نصحنا بالبحث عن ترخيص أجنبي، نعود من خلاله إلى ساحة الصحافة، وكان الكثير من المسئولين يتخوفون من حملاتنا الصحفية القوية، ومواقفنا الثابتة، والتي لا تعرف لغة المهادنة فى قضايا الناس والوطن.. راح هؤلاء يضعون العراقيل، ويحاولون بكل السبل منعنا من الحصول على ترخيص للصحيفة، ولكننا قبلنا التحدي، ورحنا نخوض غمار مواجهة حادة، لإصدار صحيفة، فأسسنا «شركة الأسبوع للصحافة والطباعة والنشر» وفقا لقانون الصحافة الجديد رقم 96 لسنة 1996.
مضينا فى تجهيز الأوراق والإجراءات المطلوبة، وخضنا جولات فى مصلحة الشركات، وهيئة سوق المال، والمجلس الأعلى للصحافة، والجهات المسئولة الأخرى، حيث وافق المحلس الأعلى للصحافة، برئاسة الدكتور مصطفى كمال حلمي، فى ذلك الوقت، على صدور صحيفة «الأسبوع» صحيفة مصرية مستقلة، وتخضع لقانون سلطة الصحافة، وتلقينا فى يوم 21 يناير 1997 خطابا من الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة، الراحل «جلال عيسي»، يؤكد حقنا فى إصدار الصحيفة.
لقد أكد لنا البعض منذ البداية صعوبة الموافقة على ترخيص مستقل، لشخص يوصف لدى بعض الجهات بأنه «مشاغب» وخرج من جريدة «الأحرار» بمؤامرة، شارك فيها الكثيرون، ولكن «الأسبوع» انتصرت على كل الرهانات الخاسرة، وصدرت وتلقفها القارئ المصري والعربي منذ فجر صدورها فى السابع عشر من فبراير من العام 1997، ولاتزال تواصل مسيرتها، رافعة ذات الرايات التي حملتها يوم انطلاقتها الأولى.
كنا نريد صوتًا يعبر عن أهلنا الغلابة، عن قيمنا وثوابتنا، عن مصر العروبة، عن أمة تحاصرها المؤامرات، والمخططات، عن فلسطين السليبة، عن وطن يبحث عن الخلاص من أزمات تحاصره من كل اتجاه، كنا قد خرجنا للتو من تجربة «الأحرار» اليومية، جلسنا سويا، تعاهدنا على مواصلة الطريق، لم يكن أمامنا خيار آخر فى البداية، سألني بعض الزملاء، هل سيكون مصير «الأسبوع» كغيرها؟.. أى، هل ستغلقها سريعًا بالضبة والمفتاح؟.. أم ستترك لنا فرصة هذه المرة؟
2- الإيمان بالرسالة
كان شعوري آنذاك أن الزملاء يحملونني مسئولية التجارب السابقة التي عاشوها على مدار ثماني سنوات.. دار بيننا نقاش طويل، تعاهدنا سويا على أن نبذل كل الجهد، وأن نلتزم بالثوابت، وأن ننطلق دفاعا عن كل قيمة شريفة على أرض هذا الوطن.. تعاهدنا على ديمقراطية القرار، والمكاشفة، والتعامل بشفافية مع كل القضايا.. تعاهدنا على أن تبقى «الأسبوع» بعيدة عن الإثارة السياسية، والغرائزية.. ترفض المبالغة، ولاتلجأ إلى سياسة الأكاذيب والادعاءات دون سند أو دليل.. قررنا أن ندخل بيت كل مصري وعربي، وأن نكون جسرا للتواصل، والدفاع عن القيم.
كان القرار أن تكون صحيفة وطنية لها بعدها القومي، تضع التجربة الناصرية فى القلب، لكنها لا تسد الباب أمام الأفكار والرؤى المختلفة.. حلفاؤنا هم أنصار الفقراء، وأعداء الفساد، والمناضلون من أجل الحرية، والذين يقفون فى مواجهة المشروع "الأمريكي - الصهيوني"، الذى يستهدف الهيمنة على المنطقة، واحتلالها، وأعداؤنا الذين يقفون على النقيض.
كنا ندرك عن يقين أن تجربة الإصدار والاستمرار والنجاح، ليست سهلة.. لكننا سعينا، بإصرار ودأب.. كان زملاؤنا لايزالون يبذلون الجهد لاعتلاء القمة، وكانت إدارة الإعلانات تمضى فى مهمتها بنجاح، من أجل أن تبقى «الأسبوع» مستمرة، لا تمد يدها لأحد، ولن تمد يدها لأحد.
كان الإيمان بالرسالة، والانحياز إلى مصالح الوطن، والأمة، هما الحاكم الضميرى لأداء كافة الزملاء، ولذلك شعروا جميعا أنهم، وإلى جانب رسالتهم المهنية، هناك مهمة نضالية، يحملونها على عاتقهم.. قلنا إننا لا نستطيع أن نقذف بكرسي فى الكلوب، ونقول أننا أبطال هذا الزمان، فنحن ندرك أن الموضوعية هي التي ستبقى، وأن أزمات الوطن متعددة، لكننا نسعى من أجل عبور آمن، يضمن لمصر وحدتها ونهضتها.
قلنا منذ البداية، لا نستطيع أن نستدعى عملاء الأمريكان، والممولين من الخارج، ونستضيفهم على صفحاتنا نكاية فى النظام، فهؤلاء أخطر على الوطن من كل الأزمات.. إنها ذات الوجوه التى اعتلت الدبابات الأمريكية فى غزوها للعراق، ونحن نعرف، من معنا، ومن ضدنا، وندرك أن أي خلاف مع النظام، ورجالاته لن يجعلنا نكفر بهذا الوطن ونلقى بأنفسنا فى أحضان الآخرين، فنحن نعشق تراب هذا الوطن، ونحن معنيون بفضح كل مخططات الداخل والخارج، من الفاسدين، إلى المستبدين، إلى العملاء.
يحكمنا فى ذلك ضميرنا الوطني، بعيدا عن الأيدي التي تحرك من خلف ستار.. نحن لا نتردد فى أن نقول «لا» لرئيس الدولة، ولكل رجالات الحكم فى مواجهة أي موقف نختلف معه، ولكننا بنفس القدر، مستعدون أن نقف مع كل بادرة إيجابية تنطلق من هذا المسئول الحكومي، أو ذاك إذا كانت بالفعل تمثل نقطة ضوء وسط الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد.
ومن كوكبة الكتاب الذين انخرطوا فى الكتابة فى «الأسبوع» سناء السعيد، وإبراهيم مسعود، وعبد القادر يس، ومحمد سليم العوا، وكمال حافظ وفاروق أباظة، وكمال سعد، وفوزية مهران، وأسامة أنور عكاشة وفتحي خطاب، ومحمود بكرى، وجمال سليم وأحمد عز الدين، والسيد الغضبان، وعمرو ناصف، ومحمد عبد القدوس، وعواطف الكيلاني، وحمدي أحمد، وأسامة عفيفي، وزينب منتصر، وعمرو الليثي، وجمال الغيطانى، ويوسف القعيد، ومحمد عودة، وعبد الرحمن الأبنودي، ود.يحيى الجمل، ومحمد مستجاب وزينب منتصر، والسيد حسين الشافعي، وأسامة أيوب، وسليمان نمر، والمستشار طارق البشرى وحمدين صباحى، ود.محمد عباس، ود.محمد الباجس، ودعبد الله الأشعل، والمستشار لبيب حليم لبيب والسفير وفاء حجازى، وعبد الحميد قريطم، والمستشار على فاضل، والمستشار مدحت سعد الدين، وفريدة الشوباشى، ود.صفوت حاتم، والدكتورة حكمت أبوزيد، وحسنين كروم، وغيرهم.
3- شهادة الأستاذ هيكل
كانت «الأسبوع» ومنذ انطلاقتها، تجربة ناجحة بكل المعاني، وقد جاءت الشهادة للصحيفة من أستاذ الأجيال، الراحل «محمد حسنين هيكل» ففي لقاء له مع أسرة تحرير «الأسبوع»، نشر فى العدد «39» الصادر بتاريخ 10/ 11/ 1997.
أشاد الأستاذ بتجربة صحيفة «الأسبوع»، وقال موجها كلامه إلىّ، وإلى أسرة التحرير «لقد أصدرتم صحيفة ناجحة وتلقى الاحترام.. لقد أكدتم من خلال الأسبوع أن سوق القراءة فى مصر بخير.. البعض كان يتصور أن السوق مغلقة.. هذا عكس رأيى، إن لدينا يوميًا ما يعادل ثلاثة ملايين قارئ، وهناك قراء احتياطيون أكثر، فالنسخة يقرأها أكثر من 8 قراء فى الصحيفة اليومية، والأمر أكثر من ذلك بالنسبة لقراء المجلات، والصحف الأسبوعية، وهذا يعنى أن هناك 15 مليونًا على استعداد ليقرأوا لك إذا أعجبتهم».. ومضى الراحل الكبير يقول: «لقد أثبتم فى الأسبوع عمل صحيفة ومشروع ناجحًا، وأن هناك قراء مستعدين للشراء، طالما أعجبتهم، ووصولكم وتجاوزكم رقم الـ 150 ألف نسخة - دى حاجة هايلة - أنتم شبان، وعملتوا حاجة كويسة، والمطلوب هو الاستمرار، والتوسع، خاصة أن العالم يسير باتجاه تطورات مهمة، وهو ما سيؤدى حتما إلى اشتداد المنافسة».
كانت كلمات الراحل الكبير «محمد حسنين هيكل» وسامًا على صدر «الأسبوع» وكتيبتها المقاتلة فى بلاط صاحبة الجلالة، والتي استمرت فى الصعود، حتى بلغ معدل توزيعها أكثر من 300 ألف نسخة، وهو رقم لم تصل إليه الغالبية العظمى من الصحف الأسبوعية.
ظلت «الأسبوع» تمضى عبر هذا الطريق، تعرضت لأزمات عديدة، مشاكل متعددة، لكنها حتى الآن تبقى ثابتة على مواقفها، تنطلق كل اثنين تحمل هموم الوطن والمواطن، ورغم تغير الأحوال فى طول البلاد وعرضها لكن «الأسبوع» ماتزال تصدر بنفس ثوابتها، وانضم إلى صفوفها العديد من الزملاء الأخرين، بينما انتقل البعض من مؤسسيها إلى صحف ومؤسسات أخرى، لكن تجربة «الأسبوع» تبقى دومًا أجمل ذكرى بالنسبة لهم، لأنهم صنعوا شيئا من لا شيء، صحيفة صمدت من 1997 حتى عام 2024 ولازالت صامدة حتى الآن.
جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة من كل أسبوع، ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.
اقرأ أيضاًشهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: السيول تجتاح بلدتي
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: نتنياهو يشكوني للرئيس
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: انتخابات وأزمات في حلوان
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: مصطفى بكري النائب مصطفى بكري محمد حسنين هيكل شهادات مصطفى بكري یرویها مصطفى بکری محمد حسنین هیکل شهادات وذکریات
إقرأ أيضاً:
الحرب كما يرويها الأدباء العرب
حسن عبد الموجود
الحرب كانت ولا تزال ثيمة رئيسية في الأدب العربي؛ فبعض الكتَّاب العرب عاشوا حياتهم كلَّها وسط دويِّ الرصاص والدانات، خائفين إما على أنفسهم، أو ذويهم، متألِّمين بسبب الفظاعات حولهم، لائذين بأقلامهم، يحاولون بها النفاذ إلى عمق المأساة.
صحيح أن مَن يعيش المأساة ليس كمَن يكتب عنها من الأرشيف، إلا أن الحرب تظل هي الحرب، وجروحها قد لا تندمل لمئات السنين. هناك كتَّاب لا يزالون مشدودين إلى معارك الماضي، وآخرون يكتبون بينما يشاهدون القصف من نوافذهم أو في بث مباشر على هواتفهم، فما هي حكاية الأدب العربي مع الحرب، سواء في الماضي أو في اللحظة الراهنة؟
أبدأ بمناقشة كتَّاب عمانيين اهتموا بالكتابة عن الحرب، مثل: الروائي الدكتور محمد اليحيائي، صاحب رواية «حوض الشهوات» وهي عن حرب الجبل الأخضر، وكذلك رواية «الحرب» وهي عن حرب ظفار.
أسأله ما الذي وجدته مختلفًا في كتابة الحرب مقارنة بالموضوعات الأخرى؟
لكنه قبل أن يجيب يمنحنا تصورًا شاملًا عن الحرب في الأدب: «قارب الأدب، الرواية تحديدًا الحرب، ليس بوصفها حدثًا مأساويًّا - والحرب أكثر الأحداث مأساوية في التاريخ- ولكن بوصفها قصة الإنسان على الأرض، حكاية صراعه الممتدة مع الشيطان -إبليس في المبتدأ، وحكاية صراعه مع نفسه في اقتتال الأخوين قابيل وهابيل، ثم قصة صراعه مع الطبيعة والكوارث والوحوش، وكأن الإنسان خلق وبين عينيه الحرب؛ قدرًا حاضرًا أو مؤجلًا، لكن هذه المقاربة للحرب، ليست تصويرًا أو استعادة للمأساة، ولا توثيقًا لها باعتبارها تاريخًا ماضيًا، إنما رسم صور للحياة وللعلاقات، الحب والإحباط والأمل والأحلام والتذكر، وحتى الفكاهة على هامش وفي داخل الحدث المأساوي».
تُحدِث الحروب، بحسب اليحيائي، تشوهاتٍ عميقة في روح الإنسان وعقله، ولكنها تحدث أيضًا تحولات وثورات كبرى في تاريخ الدول والمجتمعات، وكأن الحروب هي المقدمات الضرورية للانتقالات التاريخية الكبرى، منذ غزوات سرجون الأكادي (2300 ق.م)، مرورًا بحرب طروادة (1184 ق.م) والتي تكتنفها الأسطورة أكثر من الواقع، كما صورها هوميروس في (الإلياذة والأوديسة)، ثم حرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين عامًا، وحروب الإسلام الكبرى؛ (بدر) و(القادسية) و(نهاوند) ومعركة (فتح القسطنطينية)، وانتهاء بالحروب الكبرى في العصر الحديث، الحربيين العالميتين الأولى والثانية، وما تلاها من حروب وصراعات إقليمية كبرى، حروب العرب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948 حتى اليوم. جميع هذه الحروب نقلت الإنسان من حالة إلى أخرى، وأعادت صياغة الأفكار والفلسفات، وفي القلب منها الأدب والفن عمومًا.
من منظور الأدب، كما يذهب اليحيائي، الحرب ليست مجرد صراع عنيف ودموي بهدف السيطرة والنفوذ وإعادة رسم الخرائط والحدود الجغرافية، ولكنها، غابة متشابكة من العلاقات بين البشر، الذين على هذه الجبهة، والذين على الجبهة المقابلة، والجبهتان تتقاطعان، وتغيِّر الأطراف المتحاربة مواقعها، تلتقي وتفترق. هذا ما وجدناه في رحلة أخيل للظفر بقلب عشيقة أغاممنون؛ بريسييسس في «الإلياذة»، وما قرأناه في «الحرب والسلام» لتولستوي من تشابك للعلاقات والصراع الطبقي أثناء غزو نابليون لروسيا القيصرية، والحال ذاته لدى همنغواي في «لمن تقرع الأجراس» حيث هواجس روبرت جوردان تغلبت على مهامه القتالية، وما قرأناه من تذكر ليلى سليمان وسالم مطر لحرب الجبل الأخضر في رواية «حوض الشهوات» ومن استعادات كريستينا سعيد وسعيد قيصر لحروب المائة عام الماضية، حرب ظفار، تحديدًا في عُمان، في رواية «الحرب».
ومن المنظور ذاته، منظور الأدب، لا تحضر الحروب في الرواية كوثيقة تاريخية وإنما كمحاولة لفهم الحرب وإعادة كتابة تاريخها؛ كصيرورة وكقدر مؤجل.
يتابع: «أنا أنتمي إلى جيل تشكل وعيه، وصيغت حساسيته المعرفية والسياسية على الحرب، ليس الحرب التي في التاريخ والكتاب، وإنما الحرب التي في أخبار اليوم وكل يوم؛ حرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان (1979)، وحرب السنوات الثماني بين العراق وإيران (1980- 1988) وحرب اجتياح إسرائيل للبنان (1982)، وحرب الانفصال بين جنوب وشمال اليمن (1994)، وحرب احتلال العراق للكويت (1990)، ثم حرب تحرير الكويت، وحرب احتلال العراق (2003)، والحرب على غزة منذ أكتوبر 2023، وتشعباتها التي لم تنته بعد. الأحداث الكبرى التي تُعاش لا تُكتب، تأتي الكتابة في مرحلة تالية، مرحلة التذكر والاستعادة، ولكنها أيضا لا تأتي، بالضرورة، كاختيار مسبق أو مخطط له، أقلها بالنسبة لي».
ويضيف: «عندما كتبت رواية «حوض الشهوات» لم تكن حرب الجبل الأخضر هي الموضوع. كان الموضوع هو الحب والحنين، حب بين رجل وامرأة (سالم مطر وليلى سليمان)، وحنين جيل إلى حلم صعب عليه تحقيقه، ثم حضرت الحرب كخلفية في تاريخ الشخصيتين، والحال ذاته في رواية «الحرب» التي لم تكن الحرب موضوعها في البداية، إنما هواجس وهلوسات رجل موشومة ذاكرته بالفقد، قبل أن تتطور الأحداث فتصبح حرب ظفار، وحروب السلطنة والإمامة منذ 1913 إلى 1959، الخيط الناظم للحكاية والعلاقات؛ حيث يبدأ النص من حالة أو صورة أو عبارة ولا يمكن التنبؤ بمساره ومآلاته، فثمة دومًا حرب في النص وأخرى في الأفق».
حدود الخيال
الروائي العماني محمد الشحري لديه تجربة كذلك مع الحرب، فروايته «الأحقافي الأخير» تدور حول حرب ظفار.
أسأله: هل التزمت بوقائع التاريخ؟ وما حدود الخيال في الرواية؟
فقال: «لنتفق على أننا حين نتحدث عن روايات الحرب فنحن بالضرورة نتحدث عن الرواية التاريخية، والتي تفرض شروطها الخاصة على الروائي الذي يكتب في حقل الألغام، بين الحقيقة والخيال، بين التوثيق التاريخي والسرد الأدبي، لذلك فمن الطبيعي ألا أخضع لوقائع الأحداث لأدونها؛ لأني لو فعلت ذلك حينها فسألبس جبّة المؤرخ أو المدوِّن اليومي والراصد للأحداث ونتائجها؛ لأن القارئ حين يقرأ عن أعداد القتلى فربما لن يتأثر بالأعداد، لكن سيتأثر حتمًا إذا عرف طريقة مقتلهم سواء بالقصف الصاروخي أو القتل من مسافة الصفر، واللحظة الأخيرة بين القاتل والمقتول. وهنا يأتي دور الخيال السردي في اختلاق الأحداث ومحاولة التأثير على الضمير الإنساني للتوقف عن الهمجية والركون إلى العقلانية، ومدى تأثير الأذى على حياة الإنسان في كل الأطراف المتصارعة. والتركيز على الفئة المحايدة من الطرفين والتي تجد نفسها في أتون الصراع بلا حول منها أو قوة. لذلك الخيال هنا معين على تصور النتائج القاسية للحرب».
ويضيف: «في رواية (الأحقافي الأخير) كتبتُ التاريخ الذي أحاول فهمه، تاريخ القهر والإهانات والقمع وإنهاء حياة الآخرين دون إبداء أي أسباب، والآن أشعر بالطمأنينة؛ لأنني وثقت حياة المقهورين والمهمشين ولا يهمني أن أي عدالة يمكنها إنصافهم».
أسأله: وهل يمكن أن تكون الحروب الحالية ذات تأثير عليك وتدفعك إلى التفكير في كتابة رواية جديدة عن الحرب؟
يقول: «لا أظن أنني سأكتب عن الحرب مرة أخرى أو عن النزاعات المسلحة؛ لأن الكتابة عن القتل ووصفه ومعايشته هو قتل مؤلم وإن كان متخيلًا، فالكاتب الروائي يعيش ضمن أجواء عمله الروائي، وكل كلمة يكتبها تُعبر عن مشاعر الأبطال، تلك المشاعر يتمثلها الكاتب شعوريًا قبل تدوينها، لهذا أقول إنها مؤلمة؛ لأن الإنسان عجز عن منع الأذى عن أخيه الإنسان، ولم يقدم الجناة إلى العدالة».
وينهي كلامه بسرد قصة شخصية: «ذات مرة قرأت رواية (مسيح دارفور) للكاتب السوداني الصديق عبدالعزيز بركة ساكن، أهداني إياها في مدينة برلين، وأثناء ذهابي بالقطار إلى مدينة هايدلبيرغ أتممت الرواية ومباشرة اتصلت به، سائلًا إياه عن تحمُّله للأذى الذي كتب به روايته، وتأثير الألم المتخيل عليه. فرد عليَّ قائلًا: آلام الواقع أكثر إيلامًا من الآلام المتخيلة».
ثلاثية البيرق
الكاتبة العمانية شريفة التوبي لديها ثلاثية بعنوان البيرق. تسرد تاريخ عمان في القرن العشرين بما في ذلك حرب الجبل الأخضر، فما الصورة التي أردتِ إيصالها عن الحرب؟
تقول شريفة: إن كتابة ثلاثية البيرق لم تأتِ كفكرة عابرة أو لحظية، بل كانت مترسخة في داخلها لسنوات، وظلت كذلك حتى آن أوان كتابتها وخروجها إلى النور، وتضيف: «لم أتعمد الكتابة عن الحرب، قدر ما كنت معنية بما عايشه المجتمع أثناء تلك الحرب وآثارها عليه، وقد وجدت أن التاريخ لم يكن منصفًا لهذه الفترة، وغالبًا التاريخ غير منصف لتركيزه على الكفة الراجحة في ميزان النصر والهزيمة، ولا يكتبه سوى الحكام وقادة الجيوش. ولأن ما قرأته في كتب التاريخ القليلة جدًا عن حرب الجبل وحرب ظفار لم يكن كافيًا، ولم تكن الصورة واضحة، كتبت هذه الرواية عن حرب غير مروية لتاريخ مغيب وحكاية منسية، والحكايات المنسية والمغيبة مغرية بالكتابة؛ لأنها تتيح للأديب فرصة التخيُّل وصياغة الأحداث بما يتناسب والصنعة الأدبية. بهذه الرواية دخلت الحارة القديمة التي أسميتها حارة الوادي، جلست تحت ظلال نخيلها، فتحت أبوابها، وأشرعت نوافذها، واغتسلت بماء فلجها البارد العذب، وأسندت كفي على جدران بيوتها المندثرة، وتحدثت مع الحجر والشجر، ونبشت ذاكرة الأحياء، كبار السن منهم، الذين عاشوا تلك الفترة وشارك بعضهم في الحرب، حتى انفتحت أمامي مغاليق حكاية الحرب في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. أردت بهذه الثلاثية أن يرى القارئ الوجه الآخر لتلك الحرب، المتمثلة في البسطاء الذين لم يذكرهم التاريخ رغم أنهم كانوا رصاصة الحرب ووقودها».
***
ماذا إذن عن الكتَّاب الذين عايشوا الحروب في بلدانهم؟
يقول الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس: «كتابتي في مجملها ولدت في الحرب، خصوصًا التجارب الأولى منها التي جمعت قصصها القصيرة في مجموعة «على دراجة في الليل» الصادرة عام 1997 ومجموعتي الثانية «العبيد» 2000، وقد انشغلت قصصهما بما تشيعه الحرب من أجواء وما تخلِّفه من حالات، لكنها لم تكن تنتمي لما سُمي وقتها بالأدب التعبوي، أدب الدولة وأيدلوجيتها، في ذلك الوقت أيضًا كتبت «كتاب المراحيض» محاولة في تدوين واحدة من أقسى تجارب الحياة العراقية، أطولها وأشدها مرارة، تجربة السقوط في حرب الثمانينيات المريرة العابثة، هذه الحرب التي وجدت نفسي في أتونها ولم أكن قد تجاوزت العشرين من عمري، وقتها تملكني هوس تدوين ما يقع حولي، وأعظمه الموت وأفاعيله، أرعبتني حقًا المجانية التي يتحول الجسد الإنساني فيها، في لحظة، إلى نتانة مرمية في الأرض الحرام، وشغلتني معادلة جنونية يقابل الإنسان فيها ما يخرج منه، الحرب بوجهها العدمي أرتني ذلك عن قرب، فدونت كل شي تقريبًا من دون أن أحدد هدفًا لمدوناتي، التي كانت أقرب لشذرات يومية، وجَّهتُ جل عنايتها لتسريب ما يعيشه الصبي الجندي من رعب وما يتملكه من جنون، وشيئًا فشيئًا وجدت المدونات تتوافق في كشفها عن الجانب المعتم من الحياة، أتذكر أن أول فصول كتاب «مراحيض الحروب»، كُتب دفعة واحدة لأنني كنت مسكونًا بقسوة الحرب، هنا يمكن أن نشير إلى ما لم يُشر له النقد العراقي، ففي الوقت الذي كانت تتواصل فيه عطايا أدب الحرب، كان ثمة أدب غير نوعي يتنفس على الجبهات، أفكر الآن بمخطوطات المحاربين التي لم يقدر لها أن ترى النور، وأُدرك أن الطريق الذي قطعته مخطوطة كتاب المراحيض ليس سهلًا، أكتب ذلك وقد دخل صبي الحرب عامه الستين وصارت الحرب ذكرى ثقيلة ننوء بحملها».
وأضاف: «ما بين أيدينا الآن جبال من مخلفات الأدب الرسمي مدفوع الثمن الذي مجَّد بطولات متوهمة لمقاتلين أشاوس لا يعرفون الخوف ولا الجوع ولا يقلقهم الموت العابث في كل حين، لا يعجزون ولا يتهاوون ولا يخطئون أهدافهم، تقابل جبال الأدب الرسمي شظايا من مدونات أدب الهامش الذي رأى أهوال الحرب بعد أن خاضها وجهًا لوجه حتى آخر قطرة من الألم، سيهيم الفتى الجندي في دوامة الحرب، من موقع إلى آخر، سنوات بين ملاجئ التراب، في كل ملجأ له حكاية، وسيسمع في هدأة ليل الجبهة، مع التوقف الجزئي للقتال، أصوات الجنود على الجانب الآخر، هتافات بعيدة وأصداء غير مفهومة ومقاطع من أغنيات حزينة شاردة، أصوات إنسانية مبهمة تحرك مشاعر الصداقة بين جنود الجبهتين التي لا مكان لها في ليل الحروب، كانت الحياة تتغير، تتحرك في أعماقها كائنات الحرب وتلتهم زهرة روحها، فتتحول طبيعتها وتنمسخ طبائعها، حتى كأن العراق نفسه يتبدد على سواتر القتال، على كل ساتر يتهاوى بعض من روحه وفتوة أبنائه. لا تغيِّر الحرب يوميات الإنسان ولا تبدِّل سلوكه فحسب، بل تحفر عميقًا في نفسه، تلتهم لبَّه وتهشِّم روحه، ترفع الحدود وتلغي المسافات وتجعل المجتمع امتدادًا معتمًا لها، في «كتاب المراحيض» كتبتُ عن حربي الخاصة، حرب الجندي المغلوب على أمره، وقد رأيتها كومًا من النتانة التي لوثت أعمارنا على جبهتي النار، ولم أكن أُدرك وقتها أن بلاغة الموت تكتب سرديتها وتعيد كتابتها مرة بعد مرة، وأنني سأحيا لأستعيد ذلك بعد أكثر من أربعين عامًا. كتابتي لك تساعدني اليوم على استعادة ما حدث بالطريقة التي تخيلته فيها».
مفتتح اللعنة
«أظن أنني دفعت فاتورة الحرب كاملة، ولا رغبة لديَّ بأن أخوض في هذا المستنقع مجددًا»، بهذه الكلمات الغاضبة يبدأ الروائي السوري خليل صويلح كلامه مضيفًا: «فعدا السنوات التي عشتها في البلاد وسط الدمار والخراب والخوف، أنجزت خمس روايات عن الحرب وبجوارها. كانت «جنة البرابرة» (2014) مفتتح هذه اللعنة، مرورًا بروايات «اختبار الندم»، و«عزلة الحلزون»، و«احتضار الفرس»، وصولًا إلى روايتي الأخيرة «ماء العروس» مطلع هذا العام. الآن وقد انتهى زمن الديكتاتورية، أرغب أن ألتفت إلى ثيمات أخرى بعيدة عن الحطام الروحي الذي أثقل عمرنا. أقول أرغب، ولكن الشكوك قائمة بأن تقتحم الحرب شاشة كمبيوتري فجأة، إذ ليس سهلًا أن تخلع عن جلدك الحراشف السميكة للحرب في بلاد القبور الجماعية، ومشهديات الفزع، وسرديات الضحايا. هكذا قلبت المشهد من الداخل ومن الخارج، أفقيًا وعموديًا إلى حد الإنهاك، حتى أنني في روايتي الأخيرة «ماء العروس» أنشأت قصة حب عبثية تشتعل بين الراوي ورسامة خلال حضورهما جنازة، وليس في مكانٍ آخر، فالجنائز هي حدائق عمرنا أكثر من أشجار السرو أو الياسمين، كما سيتعرض أحدهم إلى صفعة من دركي سوف تطارده طوال نصف قرن بطرقٍ مختلفة، وستلتهم الحرائق أرشيف مركز الوثائق التاريخية، وإذا بالبلاد بلا أرشيف. لا أرغب أيضًا بمنح الديكتاتور الأجوف صفات لا يستحقها لفرط هزلية المرحلة. ربما أشعر بالعار حيال ربع قرن من الصمت والإهانات، بصرف النظر عن محاولة هتك ما جرى. هذه خريطة ضبابية يصعب اكتشاف مراياها بسهولة، لذلك علينا تأمل المشهد طويلًا قبل الانخراط بحيثياته سرديًا.
ويقول: «أريد أن أتنفس هواء حرية مشتهاة، لكنها أمنية عسيرة، سواء على مستوى العيش أم لجهة الكتابة عنها، ففي جغرافيا منكوبة تاريخيًا يصعب رسم خرائط واضحة للغد، سنكتفي بفحص التضاريس الناتئة هنا وهناك، من دون أن نطمئن لنص مختلف. الآن، أنا في نقاهة، ربما ستستمر طويلًا»!
تفاصيل هامشية
وبدوره ارتبطت تجربة الكتابة لدى الروائي السوري سومر شحادة بالحرب. يعلق: «يعني أنا لم أعرف شكل الحياة خارج تصوراتها، إلا في زمن الطفولة البعيدة، ومراحل المراهقة وجزء من المرحلة الجامعية. حتى إني عشت الحرب وظروفها، بصورة لم أطلق عليها حربًا. كنا نقول إنها أحداث -مع إدراكي للسياق الأبعد الذي جعل الثورة تتحول إلى شكل من أشكال الاقتتال الأهلي- إلا أني وطوال 14 سنة، عشتها بصفتها أحداثًا، لا حربًا».
ويستدرك: «هذه المقدمة، كي أقول، ما يشغل في الحرب، ليست العناوين الكبيرة، ليست الشعارات، والأهداف التي تظهر لدى السياسيين، وفي نشرات الأخبار. إنما تفاصيل أكثر هامشية، ترتبط بحياة البشر أنفسهم تحت ظرف الحرب، وكيف خربت يومياتهم، كيف انهارت علاقاتهم وقيمهم القديمة. وكيف ترسم الحرب تصوراتهم الجديدة عن الصداقة والحب وفكرة «الوطن» أصلًا. أجد أن واقع الحرب يعزز في الأدب، حضور هذه التفاصيل الصغيرة الهامشية التي لا يكترث لها الطيار، ولا تؤثر في القناص، إلا كي ينفيها، كي يقتص منها، كي يلغيها ويقتلها».
سؤال مزمن!
أما الشاعر السوري حسين بن حمزة فيرى أن السؤال عن الأدب والحرب، هو في الحقيقة جزء من سؤال مزمن حول الكتابة عن القضايا الكبرى والمشكلات الضاغطة والساخنة للواقع. وداخل هذا السؤال تنطوي أطروحة أساسية وهي: هل يمكن الكتابة عن الحرب والقضايا الكبرى من دون أن تخسر الكتابة نفسها شيئًا من جودتها؟
يخلص بن حمزة إلى أن الجودة إذن هي غاية هذا السؤال، باعتبار أنها أول ما يمكن أن يُضحَّى به إذا جرَّب الكاتب أو الشاعر أن يستجيب بشكل عاجل لما يجري. الكثير من الكتَّاب قالوا ويقولون إنهم يفضلون التأني ريثما يخف ضغط الحدث أو حتى تبرد الصور الفظيعة والمباشرة التي تنبعث من أهوال الحروب. الاستجابة السريعة هنا يتم ربطها فورًا بالرداءة رغم أن مواضيع أخرى، الحب أو الغزل مثلًا، تُكتب فيها مئات القصائد الرديئة، ولكن خطر الوقوع في الرداءة ظل مرتبطًا بالقضايا الكبرى!
ويقول: «أتذكر هنا مقالة شهيرة كتبها الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان في زمن انتفاضة الحجارة، حملت عنوانًا استفزازيًا: «أيها الشعراء.. اكتبوا شعرًا رديئًا»، دعا فيها الشعراء إلى الانضمام للمواجهة وإلى الكتابة كيفما اتفق. الغريب أن هذا السؤال يُطرح غالبًا على الشعراء على أساس أن كتابة قصيدة عن الحرب لا تتطلب زمنًا طويلًا، كما أن الشعر يمكنه أن يشعل حماس الجماهير وأن يواكب الحدث ويصبح جزءًا منه، بينما يُعفى الروائيون مثلًا من هذا الإلحاح الفوري. والحقيقة أن تأريخ أثر الحروب والقضايا الكبرى يمكن أن يحدث بشكل أفضل وبجودة معقولة أكثر في الرواية أو في الأعمال السردية، أو حتى في المقالات. الشاعر نفسه لا يحظى بـ«رفاهية» أن يواكب ما يجري بمقالة أو رأي. إنه أول من يُسأل لماذا لا يكتب عن الحرب أو عن قضايا وأزمات كبرى. الشعراء متهمون دومًا بالفردية والابتعاد عن هموم الجماهير والشعوب، وهذا صحيح طبعًا، إذْ أن كتابة الشعر في العقود الأخيرة -وخاصة قصيدة النثر- باتت مسألة شخصية تقريبًا».
بالنسبة لحسين بن حمزة، ظهرت مفردة «الحرب» في قصيدتين قصيرتين، ويظن أن ذلك حدث بدون قصد، خصوصًا أن القصيدتين مكتوبتان عن الحب أو في مديح امرأة ما أو عن تفاصيل تخص ما يمكن أن نسميه شعرية الحب. يعلق: «مفردة الحرب جاءت هنا لتخدم سياقًا لا يتعلق بها، وظهرت بشكل عَرَضي، ولم يكن مقصودًا منها أن تحتل النص كله أو أن يكون النص مواكبًا لها كحدث كبير. في النهاية لستُ ضد الكتابة عن الحرب أو أي قضية أخرى، المهم بالنسبة لي هو: كيف كُتبت هذه القصيدة وليس عن الأسباب الداعية لكتابتها».
جاءت لتبقى!
الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب ولدتْ في الحرب اللبنانية التي استمرت 15 عامًا، وحين بدأت النشر كانت الحرب قد انتهت قبل عقد ونصف ولكن أشباحها بقيت تهوم في حياتها وكتابتها.
تقول: «لم أعرف مدى سيطرتها عليَّ آنذاك، ولكن، حين زرت الجامعة الكاثوليكية في ميلانو وفي جلسة نقاش مع طلبة الأدب العربي أشار أستاذهم البروفيسور وائل فاروق إلى تأثير الحرب على ثيمتي الموت والخراب المتكررتين في قصصي وروايتي، ويبدو أنه وطلبته حللوا هذا في دراستهم في وقت سابق. أدهشني هذا بالفعل! بالتأكيد دراسة أثر الحرب على الأدب يحتاج إلى أدوات الباحثين والأكاديميين، نحن ككتاب لا نحلل، بل يحدث أن نُفاجأ بالتحليلات التي تنير أعمالنا وطريقنا. كان كثيرون يسألونني: لمَ ثيمة الموت في كل نص لي؟ لم تكن لديَّ إجابة ولا كنت أتعمد أن أضع الموت في كتاباتي. المختلف في حالتي ككاتبة لبنانية أن الحرب ما انفكت تعود، عشت هدنات متقطعة، ولكن الشعور بالسلام والسكينة لم أعرفه يومًا. أشار إلى هذا من درسوا مجموعتي القصصية الأخيرة «نحر الغزال»، تحديدًا في قصة «الزهرية» حيث المرأة التقليدية التي تستمع إلى فيروز كل صباح وتزرع الحبق عند نافذتها وترمي زهريتها بين يوم وآخر وتلتقط أجزاءها المكسورة وتلصقها كل مرة، وفي قصة «القبو» حين يدخل الأب ذات يوم ويقول لأولاده: إن الحرب عادت، فيدخل على قبو البيت ليجلب مصباح الجاز الذي استعمله في الحرب السابقة ولكنه لا يخرج أبدًا من القبو بل يصير جزءًا من ظلمته وعمقه الدفين. إذن حتى حين تنتهي الحرب نبقى نحن أبناءها أسرى هاجس عودتها. الأمر بالنسبة لي ككاتبة لبنانية أن الحرب أتت مرة لتبقى أبدًا».
***
ماذا إذن عن الرأي الأكاديمي؟ حرصت على استطلاع رأي النقاد، وبعضهم لديه أعمال مهمة عن الأدب والحرب.
الناقدة المصرية الدكتورة أماني فؤاد لديها مثلًا كتاب مهم بعنوان «سرديات الحروب والنزاعات»، فكرت في إنجازه بعد أن وجدت النصوص السردية - التي تعالج تجربة الثورات والحرب، وما تسفر عنه من نزاعات ومآسٍ إنسانية - هي الكتابة الأكثر حضورًا وتأثيرًا على لحظة السرد الراهنة، في الإقليم العربي وشمال إفريقيا، خاصة بعد الثورات التي سُميت بالربيع العربي، الثورات التي لم تُخلف ربيعًا في كثير من تجلياتها، بحسب تعبيرها، بل أوجدت أنواعًا متعددة من جحيم الانقسامات، والفوضى، والطائفية، والدمار، والفقر، والشتات بلا أوطان، الانتفاضات التي كان ظاهرها حُلمًا للرومانسيين، وباطنها تخطيطًا، واستهداف تغييرٍ شاملٍ لشكل وأنظمة حُكم المنطقة.
باتت الحروب والنزاعات إذن، بالنسبة للدكتورة أماني، عنصرًا مهيمنًا على النسق العام لمعظم النصوص الروائية، سواء كانت هي محور دراما النص، أو أحد المَحاوِر الفرعية، أو المضمَرة في الظلال، وعلى أثرها وفاعليتها تتشكل أحداث النصوص، ومصائر الشخوص في السرديات.
لماذا انشغل الأدباء العرب بفكرة الحروب؟ أسأل وتجيب: «لأن في الحرب يعاد تقييم الوجود على مَحاوِر متعددة، من خلالها يتحرى المعنيون بنَسَقها الثقافي والأدبي السردي تأمل مأزق الحياة في تلك البقعة الجغرافية المتوترة دائمًا، في ظِل صراعات اشتعلت بعد الثورات والنزاعات والحروب الأخيرة، ثنائية الحرب والفَناء، في مواجهة الرغبة في الحياة، والحفاظ عليها، مع ضمان الأمن والحريات والحاجة للتنمية بصوَرها المختلفة، فنحن بحاجة ماسة إلى ثورة حقيقية، لكنها في المقام الأكثر عمقًا( ثورة ثقافية)، توقظ الوعي العام للشعوب، وتدفعه لمراجعة كثير من الأفكار والعادات الاجتماعية الثقافية التي تتحكم في تقييمنا لمواضع الحياة من حولنا، إعادة النظر في مقولات رسخت في الوعي الجمعي واختبارها».
وما القواسم المشتركة لهذه الأعمال؟ تقول: «حملت الثورات والحروب - التي اجتاحت المنطقة - في عمقها الإنساني مستويات متعددة من الرفض الشامل لكثير من منظومة مقومات الحياة وقِيَمها الاجتماعية ــ الثقافية، والاستنكار للظلم الواقع على الإنسان في مناحٍ مختلفة: الرجُل والمرأة، تكشَف هذا بعمق في السرديات الروائية عما بدا عليه ظاهر أهداف هذه الثورات وشعاراتها، التي ترددت على الألسن، تجلى الرفض على ما استقر على أنه من مسلمات الحياة، التي يعيشها الإنسان العربي، لم تكن ثورة الجموع - في الحقيقة - على الأنظمة السياسية فقط؛ بل كانت في عمقها ثورة على أفكار ومظاهر كثيرة، انتقادات لمعطيات ومعتقدات تتحكم في حياة الإنسان، أدركتها النخَب وعبرت عنها».
تضيف: «تجسد هدف بحثي في رصْد التحولات الجديدة في اثنتين وخمسين رواية، وأحسب أن ريادة الكتاب، في رصد هذه التحولات، وعلى مر سبْع سنوات استطعت معايشة هذه التغيرات، حتى إنني أتذكر أن قراءتي لروايتَين بصورة خاصة قبل نشر الكتاب؛ جعلتني أعيد تشكيل البحث وفصوله. تحريت الشمول في هذه الدراسة، أو المشهد العام، بمعنى تقصى سرديات الحروب تحليلًا ونقدًا للمنتَج الروائي العربي في تنوعه الجغرافي والثقافي والاجتماعي في الأقطار العربية المختلفة (مصر، سوريا، العراق، فلسطين، الأردن، لبنان، تونس، الجزائر، المغرب... إلخ) تلك البلدان التي عانت -ولا تزال- من الحروب والنزاعات وآثارهما، سواء مع المحتَل الدخيل، أو بين الفِرَق والطوائف والمذهبيات المختلفة بين أبناء الوطن الواحد».
المعارك الجديدة
الناقد المصري الدكتور حسين حمودة يقول بدوره: إن الأدب قارب الوقائع الكبرى، ومنها الحروب والثورات والكوارث، بطرائق شتى.. سواء بالكتابة عن الوقائع الحالية، أم تأثيراتها الممتدة والبعيدة على الحياة الإنسانية.
وفيما يتصل بالحروب الجديدة، فمن المؤكد أن تأثيرها على الأدباء العرب سيكون واضحًا، خلال أزمنة قريبة أو بعيدة. والحقيقة أن هذه الحروب الجديدة اتسمت بسمات ميَّزتها عن بعض الحروب «القديمة»، منها أنها اقترنت بتغطيات إعلامية واضحة ومباشرة، ووصلت مشاهدها تقريبًا إلى كل بيت، واتصلت أيضًا بإثارة مشاعر واضحة إزاء أطرافها المتحاربة، ووجهات نظر وربما «استقطابات» حولها، وحول «سردياتها» المتعددة.. وكل هذه السمات تجعل «المادة» المتاحة حول هذه الحروب، والتي يمكن للأدب أن ينطلق منها ويتفاعل معها، أكثر سهولة على مستوى إمكانات الحصول عليها (بالقياس للحروب السابقة)، كما يمكن أن تتيح هذه المادة للأدباء فرصًا أوفر على مستوى كيفيات تمثلها في الأدب الذي لا يقف، بالطبع، عند حدود رصد الوقائع المشهودة للجميع، وإنما يضيف إلى هذه الوقائع أبعادًا أخرى، تخييلية، فضلًا عن تقصي تأثير هذه الوقائع على أوجه الحياة الإنسانية بوجه عام.
شعر الحرب
الناقد الدكتور عيسى بن محمد السليماني لديه كتاب بعنوان «شعر الحرب» يدور حول القصيدة العمانية أيام دولة اليعاربة.
أسأله: ما خصاص الشعر المكتوب عن الحرب بشكل عام؟ وما التأثير الذي يمكن أن تتركه الحروب الحديثة على الشعر الآن؟
فيقول: «الشعر العربي كانت من ضمن مثيراته الحروب، والشجاعة والاعتداد بالذات ساعة المعركة، ولو رجعت إلى مفردات الشعر الجاهلي؛ خاصة عند عنترة وأقرانه الشجعان، تلمس لغة أخرى تعيش داخل النص. فعنترة عندما كان يخاطب محبوبته عبلة: «هلا سألت الخيل يا ابنة منذر، إن كنت جاهلة بما لم تعلم» تشعر بأن اللغة الذاتية تجلت بكل قوتها، وأبرزت جلجلة إيقاعية أخرى، فإيقاعية الخطاب هنا بهذه اللغة يختلف عن بقية الشعراء الغزليين الآخرين الذين لم تصاحب نبرتهم لغة عسكرية: «أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل» وهذا اللطف المشعب بالمفردات هنا لم يكن بعيدًا عن مفردات عنترة، إلا أن النبرة القوية هي ما ميَّزت بين النبرتين في سياق واحد».
ويضيف: «الحرب مثير قوي عند الشعراء العرب؛ خاصة مَن ينتمون للقضية التي يعيشونها، ويتفاعلون معها، وما نراه من مشاهد موجعة، ووقائع مؤلمة، لجديرة في إثارة المبدع الشاعر أو الكاتب. فالقصيدة العربية اليوم خرجت بأبعاد جديدة؛ نتيجة الواقعة الأليمة التي يشاهدونها؛ بل بعضهم يعيشها؛ والخصائص الشعرية تختلف من شاعر يعيش الحدث وشاعر يشاهد الحدث وشاعر سمع عن الحدث، فالأول لغته جاءت مدوية؛ كونها عاشت الحدث وتفاعلت معه، بينما الثاني كتب من خلال المشهد وكانت مفرداته أقوى من الثالث الذي سمع بالحدث. الحروب الحديثة جعلت الشعراء يبدعون في مفرداتهم، وصورهم الشعرية التي اختلفت عن الصور القديمة، لاختلاف الآلية الحربية، وقد برزت موازين جديدة في الشعر الحديث في وصف الحروب، فلم تأتِ مفرداتها ذات بُعدٍ وصفي عام، أو مشهد عابر، مثلما عاشت القصيدة القديمة في أغلبها؛ لأن النص اليوم سلك أبعادًا جديدة في وصف المشهد، حيث يفضح المعتدي، ويحفز على الاستمرار في صده، ويلهب مشاعر المجاهدين، ويرثي شهداءهم، وليس معنى حديثي هذا بأن النص اليعربي العماني؛ خلا من هذه الصفات، وخلاصة القول فإن الشعر له دور بارز في إبراز الحدث متى ما كان الشاعر ينتمي إلى جانب، وإلا أصبح النص نظمًا».
الشعر والمأساة
وبمناسبة الشعر، فإن الشاعر اليمني محمد سلطان اليوسفي لديه ديوان بعنوان «قبضة من أثر الحرب» قصائده تنتصر للإنسان اليمني الذي أرهقته الحرب.. فكيف استطاع أن يخلق من المأساة نصوصًا شعرية؟ وهل الشعر يستطيع التعبير أكثر من الفنون الأخرى عن الحرب؟
يقول: «عندما تطال الحرب كل شيء جميل وتسرق أروح الأبرياء والعزل، وتغتال أحلام الوطن وآماله وتطلعاته، تأتي الكلمة مكتوبة بمداد الألم، وبشكل عام كلما كان الفنان قريبًا من همِّ مجتمعه وقضاياه كلما كان أصدق في تجسيد تلك القضايا، ولا أزعم هنا أن ديوان «قبضة من أثر الحرب» قد قال كل شيء عن مأساة الإنسان اليمني جراء ما شهدته وتشهده اليمن من حرب وصراعات أثقلت كاهل المواطن. فالوضع في اليمن على كافة الأصعدة مُزرٍ. وكان لهذا الصراع أثره البالغ وانعكاساته في خلق المعاناة وتأزم الحياة، وجل قصائد الديوان كُتِبت تفاعلًا وتجاوبًا مع ما يعيشه المواطن اليمني من مأساة. ويبقى الشعر من أهم الفنون التي تجسد المعاناة وأكثرها نفوذًا وتأثيرًا في نفس المتلقي، بجمالياته ولغته التي تكتنز صورًا بديعة وأساليب وتراكيب تجعل منه فنًا معبرًا ومؤثرًا.
وينهي كلامه قائلًا: «حجم معاناة الإنسان اليمني خلال تسع سنوات من عمر الحرب يفوق كل وصف وتعبير. فالكثير من الأسر تشردت ونزحت والكثير من الأمهات فقدن أبناءهن وأزواجهن والكثير من المدن عانت جراء محاصرتها وانقطاع الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والغذاء. كل هذا خلق وضعًا قاسيًا وأليمًا، واستمرار التوترات والصراعات في اليمن وتفاقم الأوضاع وتزايد المعاناة يحتِّم على المبدع اليمني أن يكون حاضرًا بقلمه، والشعر في هذه الحالة ينبغي أن يكون مجسِّدًا بصدق لتلك المأساة».
***
كلمات الكتَّاب والنقاد المشاركين في هذا التحقيق فيها الكثير من الألم والصدق، فمعظمهم اكتوى ولا يزال بنيران الحرب، ويبدو أن العلاقة بينهم وبينها ستمتد لسنوات أخرى، فلا شيء يشير في الأفق إلى أن الحرب قد تضع أوزارها قريبًا.
حسن عبدالموجود صحفي وقاص مصري