تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
تحناوت- لا يمكن أن توجد بالقرب من مطعم بإحدى قرى أو بلدات جبال الأطلس المغربية من دون أن يهمس في أذنك أحدهم بضرورة أن تبادر لتذوق "تَفَرْنُوتْ" قبل مغادرة المكان.
إنه ليس مجرد خبز يشبع البطون الجائعة -يحرص هؤلاء القرويون الذين يعيشون بمنطقة الحوز على التوضيح- بل هو أيضا جسر يربط الحاضر بالماضي، يذكّر الناس بآبائهم وأجدادهم، وبجلسات غابرة جمعت أفراد العائلة حول كؤوس الشاي المنعنع وتفرنوت مع حبات الزيتون وزيت الزيتون، أو الطاجين، قبل أن يفرقهم الزمن.
و"رائحة الخبز في الفجر" هي من الأشياء الغالية على قلوب سكان هذه الجبال، ومن الأشياء التي تستحق الحياة على هذه الأرض.
وهذا الخبز الذي يعجن يدويا يتكون أساسا من القمح الكامل أو مخلوطا بنسبة قليلة من الطحين الأبيض، ويجب أن تحترم العجينة شروطا معينة أبرزها ألا تكون صلبة أو طرية كثيرا، وبعد أن تتخمر توضع في الفرن الطيني لتصبح جاهزة مشبعة للعيون قبل البطون.
والفرن يجب أن يكون طينيا، ووسطه مملوء بحجارة ملساء تتشبع بحرارة الحطب المشتعل في الأجناب، توضع عليها العجينة فتنضج في دقائق، وتتناولها اليد دافئة مقرمشة تملؤها حفر هي آثار الحجارة التي نضجت عليها.
ومن الشروط الأساسية لتفرنوت جلب تلك الحجارة الملساء من أحد الوديان الجافة والتي تعج بها المنطقة، ويفضل أن تكون من الأحجار الصغيرة.
إعلانوفي مناطق جنوبي المغرب، وبينها مدينة تيزنيت بالقرب من الأطلسي (نحو 650 كيلومترا جنوب العاصمة الرباط)، تشتهر طريقة أخرى لتجهيز تفرنوت، إذ يصنع الفرن الطيني بطريقة طولية، حيث يبلغ طوله نحو المتر، وعرضه نصف المسافة تقريبا، وتسعر النار وسط هذا الفرن الصغير، في حين يلصق العجينة على الجوانب لتنضج بعد أن تبلل بالماء.
واسم تفرنوت في الأصل يعود للفرن الطيني، لكن اشتهر به اسم الخبز الذي كان يسيطر ذات زمن في هذه المنطقة، قبل أن تغزوها أنواع الخبز الحديثة.
دلفنا إلى مطعم صغير ببلدة تحناوت، وأذن لنا مسيره بزيارة ذلك المكان السحري الذي يأتي منه هذا الخبز اللذيذ.
بدا العامل نشيطا وهو يدخل بلوح خشبي عجائن تفرنوت الواحدة تلو الأخرى إلى الفرن الطيني، وسرعان ما بدأ يشرح لنا بهمة ونشاط كيف أن هذا الخبز التقليدي يحظى بإقبال شديد من طرف زوار المطعم.
فعجينته صحية عندما يكون مكونها الأساسي القمح الكامل، وطهيها يتم داخل فرن طيني على حجارة ملساء تعج بها وديان المنطقة، والحرارة أصلها الأخشاب، وبالتالي لا أثر لحضارة الإسمنت والكيمياء في هذا الخبز الجبلي الأصيل.
وتجاوزت سمعة وشهرة تفرنوت حدود جبال الأطلس ومنطقة سوس في الجنوب، وباتت تغزو مطاعم باقي مدن المغرب، إذ كثيرا ما تفاجأ بإعلانات مطاعم متنوعة بأنها بدأت توفر خبز تفرنوت للزبائن، في محاولة منها لاستقطاب عشاق هذا الخبز التقليدي الأصيل.
كانت النساء قديما تقضين ساعات طوالا في طحن القمح داخل رحى تقليدية بسيطة بالبيت، وبعدها يعجنّ تفرنوت ويطهينه داخل الفرن الطيني الذي كانت البيوت القروية لا تكاد تخلو منه، والذي يملأ بحجارة ملساء يتنافس الأطفال في جلبها من الوديان الجافة القريبة، ويجب أن تغسل جيدا وتدهن بالزيت عند استخدامها لأول مرة.
إعلانأما الآن، فقد تغيرت أحوال كثيرة، واقتحمت الآلات الحديثة تفرنوت، ابتداء من العجانات الكهربائية التي عوضت أيادي الأمهات اللواتي لطالما قاومن صباحات الشتاء الباردة ليعجنّ الخبز لأطفالهن، وانتهاء بالأفران الكهربائية بدلا من تلك الطينية التي كانت تشيد بعرق الآباء والأبناء.
ومع ذلك، فالأجيال الجديدة من النساء يرين أن عدم التخلي عن تفرنوت في حد ذاته انتصار على دوامة الزمن واقتحام الآلة للحياة الشخصية.
فيستمر بعضهن في عجن تفرنوت -داخل بيوتهن- بالآلة الكهربائية وطهيه داخل فرن كهربائي، لكن بعد أن يوضع داخل "صينية" مليئة بالحجارة الملساء التي جلبت من واد جاف، والتي تبقى المكون الوحيد الباقي من الطريقة التقليدية لطهي تفرنوت القروي الأمازيغي.
قد تبدو للرائي مجرد حجارة، بيد أن من الحجارة لما تتفجر منها ذكريات آباء وأمهات وأسر وعائلات جمعتها ذات يوم "صينية" الشاي، وخبز تفرنوت وقطرات زيت الزيتون وتلك الضحكات البريئة التي لا شك أن صداها لا يزال يتردد بين قلوب تقاوم -بحرص وقوة- جفاف حضارة الإسمنت.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
صرخات من غزة تلخص مأساة الجوع في القطاع المحاصر
في مخيم مترب قرب الجندي المجهول وسط مدينة غزة، وقف أبو علاء الستيني، يضع بقايا الخبز اليابس بعناية فوق سطح خيمته المهترئة، تحت أشعة الشمس الحارقة. لم تكن تلك طقوسًا بدوية ولا عادة ريفية، بل محاولة يائسة لتحويل ما تبقى من طعام إلى لقمة قابلة للمضغ، تواسي بطونًا لم تذق شيئًا منذ أيام.
الخبز اليابس على سطح الخيمة «أضع بقايا الخبز الناشف على سطح الخيمة في الشمس لكي يصبح طريا ولينا، نعرف نأكله»، قالها الرجل بصوت متقطع ونظرة لا تخلو من خجل الكرامة الجائعة. ثم أردف خلال حديثه لـ«عُمان»: «لا يوجد خبز يا عمي، المخابز كلها أغلقت، وانقطع الطحين أيضًا، والموجود فاسد، وسعر الكيس منه 300 دولار. من أين نأتي بهذا المبلغ؟».
كانت الخيمة المحيطة به تأوي أسرته المكونة من سبعة أفراد، بينهم ثلاثة أطفال. الخبز اليابس هو وجبة الإفطار والعشاء، أما الغداء، فقد غاب منذ زمن، أو أتى في صورة «دقة» وزيت قلي، إن وُجد الزيت أصلًا.
«والله حينما نأكل هذا الخبز اليابس تتوجع بطوننا، ويجيب للعيال إسهال، لكن شو نعمل؟ يا هو يا نموت من الجوع»، أكمل بنبرة فيها استسلام وقهر، كما لو أن الحصار قد قضى على آخر محاولاته للصمود.
تأملنا وجه أبي علاء المكسو بالتجاعيد، ليس بفعل الزمن وحده، بل بفعل القهر المزمن، والسهر على بطون أطفاله الفارغة. لا دواء هنا، ولا غذاء، ولا أفق، فقط خبز يابس وشمس حارقة، وأمل باهت في أن تفتح المعابر يومًا ما.
حصار المعابر والمخازن الخاوية منذ إغلاق المعابر في الثاني من مارس 2025، لم تدخل إلى غزة أي مساعدات غذائية كافية، سوى شحنات محدودة ومتناثرة لا تفي بحاجات مليونين ونصف من البشر، نصفهم من الأطفال. ومع دخول الأسبوع العاشر من الإغلاق، بدت المجاعة أكثر قسوة ووضوحًا، لا في التحليلات الأممية، بل في وجوه الأمهات وأجساد الأطفال الهزيلة.
قال مكتب «المطبخ العالمي المركزي»، الذي يدير مئات التكايا ونقاط التغذية في القطاع: إن مخزونه من المواد الغذائية نفد بالكامل منذ منتصف أبريل، وإن أكثر من 85% من مطاعمه الخيرية أغلقت أبوابها، لعدم توفر الطحين والزيت والبقوليات.
«كنا نوزع أكثر من 100 ألف وجبة يوميًا، الآن بالكاد نُعدّ 5 آلاف، ولا تكفي سوى لجزء صغير من العائلات»، قال أحد مسؤولي المنظمة الدولية لـ«عُمان»، مؤكدًا أن استئناف توزيع الطعام مرهون بفتح المعابر البرية، لا سيما معبر كرم أبو سالم.
أما التكايا المحلية، التي طالما شكلت طوق نجاة لأفقر العائلات، فقد توقفت هي الأخرى عن العمل في غالبية المخيمات. «نحاول أن نُبقي الأمل حيًا، نطبخ ما تبقى من العدس أو الأرز، لكن حتى هذه المواد لم تعد موجودة»، قال عبدالهادي سرور مسؤول إحدى التكايا في منطقة النصيرات.
قمامة الطحين المدود في مشهد يلخص حجم الانهيار الإنساني، روت أم شروق شاهين، نازحة من خزاعة إلى خان يونس، كيف وجدت كيس طحين في مكب النفايات القريب، فأخذته إلى خيمتها، ونخلته علّها تُخرج منه ما يصلح للعجن.
«نخلت لأبنائي البنات، كيس طحين والله العظيم مدود، عثرت عليه في القمامة، مسكت الطحين والدود والسوس والصراصير والفئران يسرح فيه»، قالت وهي تغالب دموعها، مشيرة إلى صحن من البرغل بجوار الخيمة.
وتضيف بانكسار خلال حديثها لـ«عُمان»: «مش لاقية رغيف الخبز أطعمه لبناتي. استيقظوا جائعين، مش لاقيين اللقمة، حطيت لهم صحن برغل».
الحكاية ليست نادرة. فكثير من العائلات باتت تفتش في القمامة عن كيس من العدس أو علبة طماطم منتهية الصلاحية. في أحد المخيمات قرب الزوايدة، شاهدنا أطفالًا يقلبون الحاويات، ويبتسمون عند العثور على قطعة معلبة أو كسرات خبز يابسة.
بقايا الطعام على الأرض في أحد أزقة مخيم البريج، وقف طفل في العاشرة من عمره، يحمل كيسًا بلاستيكيًا، يجمع فيه ما يتساقط من أرز وعدس على الأرض أمام أحد مراكز التوزيع. كان الأطفال يتدافعون بين الأرجل، يلقطون ما يمكن التقاطه، ولا يبالون بالتراب أو الذباب.
«وجدنا شوية رز سقط على الأرض، ولقينا مغرفة فيها عدس قديم، ووضعناهم في الكيس»، قال حسن أحمد، الذي فقد والده في القصف على المغراقة، ويعيش مع أمه وثلاثة إخوة. مضيفًا لـ«عُمان»: «أمي بتسلقهم بالليل، لكي نأكل الصبح».
قرب تكية خيرية في خانيونس، شاهدنا أطفالًا يتجهون إلى أواني الطبخ الفارغة، يمسحون بقايا الطعام بأيديهم، ويلعقونها، وبعضهم يضعها في قطعة ورق أو كيس نايلون. «بقعد انتظر لما يخلصوا الأكل، وأشوف شو يبقى على القدر، مرات بلاقي عدس، مرات بلاقي رز، مرات أجد...»، قالت طفلة تُدعى هديل (8 أعوام)، ترتدي عباءة بالية وممزقة عند الأطراف.
شهادات البطون الخاوية أم محمد بدوان، نازحة خمسينية من الشجاعية، تقول إن الناس كانت تعيش على أطعمة التكايا، لكن حتى هذا الخيار لم يعد متاحًا. «الناس هنا وضعهم صعب كثير. لولا التكيات الخيرية لماتوا جوعًا. حتى التكية أيضًا بتساعدش معاهم؛ لأنه في عندك أطفال في عندك مرضى كبار في السن بدهم أكل صحي».
وتضيف لـ«عُمان»: «أنا ابني مريض سكري، شو أطعمه؟ ما في حليب، ما في فواكه، ما في خبز، حتى الخضار ما شفناها من أسابيع. بنطبخ كل أسبوع مرة عدس، والباقي خبز ناشف وملح».
أما أم تامر لبد، نازحة أربعينية في النصيرات، فكانت أكثر صراحة: «بين المغرب والعصر نأكل طعمية، أو ما نستطيع عليه، فاكهة مقطوعة، خضار مقطوعة، حليب غير موجود، لا يوجد أي حاجة تسد».
تشير لـ«عُمان»: «نأكل على الغداء دقة وخبز ناشف، إذا تواجد الخبز أيضًا، ولما بنلاقيش خبز نأكل دقة وزعتر، ويبقى يوم عيد لما نلاقي شوية أرز وعدس عند الجيران».
وفي الشمال، حيث القصف لا يهدأ، تقول أم رامي بارود، نازحة من بيت لاهيا، إنها كانت تطبخ لأطفالها من الطحين الفاسد الذي حصلت عليه من إحدى الجمعيات. «فيه ريحة عفن، بس شو نعمل؟ نغربله، ونشيله من الدود، ونخبز على الطابون».
الأطفال في قلب المجاعة ليست وجوه الأطفال وحدها من نحلت، بل ضحكاتهم، وألعابهم، وأحلامهم الصغيرة. في مخيمات الوسطى، أصبح جمع بقايا الطعام لعبة جديدة، تشبه البحث عن الكنز. يحملون أكياسهم الصغيرة، ويتجولون بين الخيام، يسألون: «عندكم أكل زايد؟».
إبراهيم نصار، طفل في التاسعة من دير البلح، قال لـ«عُمان»: «أنا بجمع بواقي الخبز من الناس، أمي بتطحنهم وبتسويهم شوربة». فيما كانت أخته سارة (6 سنوات) تحضّر علبة معدنية فيها بقايا أرز: «هذا من دار خالتي، ما أكلوه كله».
وحين سألنا أحد الأطفال: «شو نفسك تأكل؟»، أجاب بصوت خافت: «تفاحة... بدي تفاحة حمراء، متل اللي كنت أشوفها بالروضة».
جوعٌ يتوحش وأبوابٌ مغلقة في تقريرها الأخير، قالت منظمة الصحة العالمية: إن هناك مؤشرات واضحة على تفشي سوء التغذية الحاد بين أطفال غزة، وإن الآلاف منهم مهددون بالموت إن لم تُفتح المعابر فورًا، وتُستأنف المساعدات الغذائية والطبية بشكل آمن ومنتظم.
المعابر مغلقة، والمجتمع الدولي يكتفي بالإدانات والقلق. أما الواقع، فهو عائلات تحرق أثاثها لطهي العدس، وأطفال يقتاتون الأرز والعدس من مكبات القمامة، وشيوخ يتحايلون على يُبس الخبز في عين الشمس.
في هذه الأرض المحاصرة، صار الجوع سلاحًا جديدًا، يُستخدم بلا ضجيج، ويقتل بصمت. لا نيران، لا دخان، فقط بكاء خافت في الخيام، وأنين بطون تأكل بعضها بعضًا.