يشهد العالم العربي مآسي وأزمات خطيرة تنذر بتفكيك أوطاننا وتوزيعها أشلاء بين بعض الدول الأوروبية والإقليمية، الصورة جلية وواضحة في معظم الأقطار الغربية، ابتداء من المغرب العربي، الصراع الجزائري المغربي، والصراع التونسي الليبي على الحدود، وأزمات ليبيا التي انقسمت إلى دولتين، وانقسام الشعب الليبي إلى دويلات وقبائل، الصراع السوداني السوداني الذي أحال هذا البلد الكبير إلى حروب طاحنة حصدت أرواح عشرات الآلاف وهجّرت الملايين من أبناء هذا البلد الكريم والكبير، بعد أن رحنا نقول إنه سلة غذاء للعالم العربي كله، أما عن اليمن فإن قلوبنا تنفطر على الحالة التي آل إليها هذا البلد العظيم والقديم جدا، الذي خرجت منه العروبة لغة وجنسا، وقد أصبح حال اليمن كما نشاهده بلدا مثخنا بجراحاته، بعد أن انقسم إلى يمنين وربما ثلاثة، كل هذا والقلوب منفطرة على العراق الكبير بشعبه واقتصاده، الذي بقي طوال قرون مصدرا للثقافة وفخرا للعروبة، فها هو العراق وقد توزعت ولاءات سكانه ما بين العشائرية والمذهبية والطائفية التي لم يعرفها العراق عبر تاريخه، ثم تأتي سوريا التي سيطرت على المشهد، حينما سقط نظامها الهش، بعد أن كان قادرا على قمع الشعب في زمن لم يعد القمع كافيا لشيوع الأمن والتنمية، بل كان من الواجب أن يتحصن المجتمع بالعدل وإعمال القانون، وقد ذهبت سوريا إلى طريق لا نعرف نهايته، فقد راح يتنازع عليه كل أعدائه، وقد أحالوه إلى ساحة من الصراعات التي تُنذر بذهاب سوريا إلى غير رجعة.
نحن الجيل الذي عاش في زمن جمال عبد الناصر، وعايشنا قدرته الفائقة على مخاطبة الشعوب، وتبشيرهم بمستقبل يجمع كل الأقطار العربية من المغرب العربي إلى مشرقه، وراح يخوض نضالا متواصلا لمحاربة الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، والاستعمار البريطاني في اليمن والخليج والعراق، بل تجاوز ذلك إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما كان يشكل خطرا كبيرا على كل القوى الاستعمارية في العالم، ولم يكن جمال عبد الناصر يملك إلا الرهان على الشعوب المغلوبة على أمرها، لكن قوى الاستعمار وأدواته كانت أقوى بكثير، فقد راحت أمريكا ومِن ورائها الدول الأوروبية تخطط له بليل للإجهاز عليه، ابتداء من حرب السويس ١٩٥٦، ووصولا إلى حرب يونيو ١٩٦٧، بعدها انكفأ جمال عبد الناصر على جروحه ومراراته، التي تجاوزت شخصه إلى الشعوب التي كان يراهن عليها، لكي تنتهي حياته١٩٧٠، بعد أن تكالبت عليه سيوف أعدائه، القريب منها قبل البعيد، لذا انهار مشروع جمال عبد الناصر ودخلت أوطاننا في حقبة من الاستقطابات والمساومات عقب حرب أكتوبر ١٩٧٣، بعد أن أطلت علينا القوى المعادية لمشروع جمال عبد الناصر، وقد اعتبر الرئيس أنور السادات أن ٩٩٪ من اللعبة في يد أمريكا، التي أطلت علينا باعتبارها داعية للسلام ووسيطا محايدا في الصراع العربي الإسرائيلي، لكي تنتهي القضية بخروج مصر من الصراع والانفراد بمن بقوا متشبثين بمشروع جمال عبد الناصر.
على الرغم من أن اتفاقية كامب ديفيد قد أعادت إلى مصر معظم سيادتها على الأرض التي احتلتها إسرائيل في حرب يونيو ١٩٦٧، لكن راحت السياسة الأمريكية والأوروبية تنفرد بكل قطر عربي على حدة، بعد أن اكتفت الدول النفطية بالثروة الهائلة التي جنتها من عائدات النفط، بإشراف ودعم أمريكي، والتي أحالت هذه الدول إلى حياة رغدة ينعم الناس فيها برفاهية اجتماعية واقتصادية، لذا نسيت هذه الدول القضية الفلسطينية في شقها السياسي، بعد أن اكتفوا بمجرد إصدار البيانات وبعض الدعم الاقتصادي لكي يبقى الفلسطينيون على قيد الحياة، بعدها راحت القضية تدخل في متاهات السياسة وألاعيب التوازنات التي تصب جميعها في مصلحة إسرائيل، وزادت الفجوة بشكل لافت بين الأقطار الغنية والأقطار الفقيرة، التي انكفأت على نفسها تلعق جراحاتها تحت حكم شمولي أهدر كثيرا من إنسانية هذه الشعوب، التي استسلمت لمستقبل بائس، ولم يبق من العروبة إلا شعارات راح يرددها الإعلام وجماعات المثقفين الذين انضوى غالبيتهم تحت سطوة الأنظمة التي راحت تمارس قوتها وبطشها، وقد انزوى كل قطر عربي على مشاكله، وتبدد مشروع جمال عبد الناصر الداعي إلى الوحدة والعزة والكرامة، وقد سخر منه البعض، بل اعتبروه نوعا من المراهقة السياسية التي لا جدوى من ورائها، نتذكر جمال عبد الناصر وسط خيباتنا وهزائمنا، بعد أن انقسم العالم العربي إلى دويلات لا تملك شيئا نحو تحديد مستقبلها.
نتابع هذه الأيام ما يحدث في عالمنا العربي من المشرق إلى المغرب، وقد ظهرت الصورة جلية وواضحة، بعد أن نزلت بنا الهزائم في معظم أوطاننا، صراعات إقليمية إقليمية، قوى خفية تتحكم في مصائرنا، أوطان مُزقت وذهبت إلى غير رجعة، لعل سوريا تعد نموذجا لوطن كان كبيرا، بل كان في طليعة الدول التي تبشر بالعروبة فكرة ولغة وهوية، وها هي الآن قد أحالها أعداؤها إلى ساحة من الصراعات بعد أن كفر الناس بالعروبة، وراحت تتكالب عليها قوى إقليمية وأجنبية طامعة في أن تأخذ بسوريا بعيدا عن أهداف أمتها، ولعل المؤلم في المشهد أن أقطارنا العربية قد تركت هذا البلد الكبير وتخلت عنه لكي يتنازع عليه الأغراب، وقد خلا المشهد تماما من موقف عربي داعم لسوريا، بل شاركت بعض الدول العربية في سقوط هذا البلد العربي الكبير، وذهابه إلى طريق يُنذر بضياعه إلى غير رجعة، ولم يستوعب العرب الدروس بعد، ولم يستفيقوا من غفوتهم، ولم يشيروا بإصبع الاتهام إلى عدوهم الحقيقي الغربي والأمريكي والإسرائيلي، وتصور الجميع أنهم آمنون على أوطانهم وأموالهم، بينما الولايات المتحدة الأمريكية تخطط في وضح النهار لمستقبل إسرائيل، بهدف توسعة أراضيها على حساب الأراضي العربية، ليس في فلسطين فقط وإنما في لبنان وسوريا وربما تأتي دول عربية أخرى في الطريق.
لا أفهم أبدا أن يبقى زعماؤنا وقد اكتفوا بالمشاهدة، وهم يرون إبادة الفلسطينيين على أرضهم وداخل بيوتهم في حرب غير متكافئة، يستشهد فيها الأطفال والشيوخ والأبرياء، وما يحدث في لبنان من إبادة وتهجير الناس من منازلهم، وقصف المنازل على ساكنيها، ليس في الجنوب اللبناني فقط وإنما في كل أنحاء لبنان، وسط صمت مخز، بل والتشفي أحيانا تحت دعاوى مذهبية مقيتة، وتتضاعف خسة ونذالة العدو الإسرائيلي وهو يشاهد سوريا تتداعى تحت جحافل الثائرين، ورغم ذلك تتجاوز حدودها لاحتلال الأرض السورية دون رقيب أو حسيب، لدرجة أن الأمم المتحدة لم تتمكن من إصدار بيان، مجرد بيان يدين الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية.
أوطاننا تنزف تحت معاول أعدائها، بينما العرب صامتون وربما متآمرون، وكل يقول (انج بنفسك) لكن لا نجاة لأحد ما بقي الضعف والخذلان، فنحن في زمن الهزائم والعوز والضعف.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جمال عبد الناصر هذا البلد بعد أن
إقرأ أيضاً:
ماذا نعرف عن أداة الدفاع الأوروبية الضخمة SAFE؟
الاتحاد الأوروبي يوافق على أداة دفاعية بقيمة 150 مليار يورو لتعزيز قدراته الصناعية العسكرية. اعلان
وافق سفراء دول الاتحاد الأوروبي، يوم الأربعاء، على إطلاق أداة مالية استراتيجية جديدة تحمل اسم SAFE، بقيمة 150 مليار يورو، تهدف إلى دعم الإنتاج الدفاعي داخل التكتل، مع ترسيخ ما يُعرف بـ"التفضيل الأوروبي" بنسبة 65% مقابل 35% لصالح المكونات الأوروبية.
أبرز ملامح الخطةوتندرج الأداة ضمن مشروع تشريعي اقترحته المفوضية في بروكسل يسمح بتجاوز التصويت في البرلمان الأوروبي، ويُتوقع أن يُعتمد رسميًا من قِبل الدول الأعضاء في اجتماع مجلس الشؤون العامة المرتقب في 27 مايو.
نصّت الخطة على ضرورة أن يكون 65% على الأقل من مكونات أي نظام تسليحي مموّل من هذه الأداة مصنوعًا داخل الاتحاد الأوروبي، أو أوكرانيا، أو إحدى دول المنطقة الاقتصادية الأوروبية/رابطة التجارة الحرة الأوروبية (EFTA).
أما الـ 35% المتبقية، فيمكن أن تُورّد من دول ثالثة، لكن مع إمكانية رفع هذه النسبة في حال وجود شراكة أمنية ودفاعية مع الاتحاد، وهو ما يفتح المجال لدول مثل النرويج، المملكة المتحدة، اليابان، وكوريا الجنوبية.
وحرص الاتحاد الأوروبي على تضمين شرط يمنح الشركات الأوروبية سلطة التصميم على المكونات المستوردة، لتفادي أي تهديد مستقبلي مثل "مفاتيح الإيقاف" أو قيود على إعادة تصدير أنظمة التسليح.
تهدف هذه المبادرة إلى تمكين الاتحاد من الاعتماد على ذاته دفاعيًا، خاصة في ظل الحرب الروسية في أوكرانيا، وما أبرزته من هشاشة في البنية الدفاعية الأوروبية، إلى جانب التهديدات المتكررة من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسحب الدعم أو تقليص القوات الأمريكية في أوروبا، ما أعاد طرح ضرورة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.
خطة "الجاهزية 2030"تشكل SAFE أحد الأركان الأساسية لخطة "الجاهزية 2030" التي وضعتها المفوضية، والرامية إلى توحيد الطلبات الدفاعية، تأمين سلاسل التوريد، وتحفيز الإنتاج الصناعي. وتشمل الأولويات: الذخائر، الطائرات المسيّرة، أنظمة الدفاع الجوي، الحرب الإلكترونية والتنقل العسكري.
آلية التمويل:
بمجرد إقرار الخطة، سيكون أمام الدول الأعضاء شهران لتقديم مشاريع مؤهلة للحصول على التمويل، بشرط أن تشارك دولتان على الأقل في كل مشروع.
تأخذ المفوضية حتى أربعة أشهر لتحليل المشاريع، وعند الموافقة، يمكن للدول طلب 15% كدفعة أولى من تكلفة المشروع. تليها مراجعات نصف سنوية قد تؤدي إلى صرف دفعات إضافية، مع إمكانية استمرار التمويل حتى 31 ديسمبر 2030.
Relatedماكرون يدعو إلى إنشاء دفاع أوروبي موثوق يشمل النووي الفرنسيهل لدى فرنسا ما يلزم من مقدّرات عسكرية لتقود مبادرة دفاعية مشتركة في أوروبا؟بروكسل تطرح استراتيجيتها الدفاعية التي طال انتظارها.. ولكن من أين سيأتي التمويل؟المستفيدون ومزايا الاقتراض من SAFEتوفر هذه الخطة مزايا مختلفة للمقترضين، منها التصنيف الائتماني AAA لدى وكالات كبرى مثل فيتش وموديز وسكوب، وقروض طويلة الأجل تصل إلى 45 عامًا مع فترة سماح مدتها 10 سنوات، إلى جانب تلقي دعم من ميزانية الاتحاد الأوروبي، ما يقلل المخاطر المالية على الدول الأعضاء، وإعفاء من ضريبة القيمة المضافة على المشتريات الدفاعية.
وستكون الدول ذات التصنيف الائتماني المرتفع، مثل ألمانيا وهولندا والسويد، في موقع أفضل للاستفادة من الأداة. ولكن حتى الدول ذات تصنيفات أدنى، كإيطاليا واليونان ولاتفيا، أعربت عن اهتمامها باستخدام SAFE.
كما أعلنت لاتفيا، التي تخطط لرفع إنفاقها الدفاعي إلى 4% من الناتج المحلي العام المقبل، نيتها الاستفادة من التمويل.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة