انتهيت في مقالي السابق إلى أن الذكاء الاصطناعي- الذي يمثل ذروة التكنولوجيا في يومنا هذا- أصبح فتنة تُبهر العامة وتشغل اهتمام المتخصصين، وهي ما يجعلنا نبالغ في أهمية هذا الذكاء وقدراته في كل مجال، بما في ذلك مجالات الترجمة والتأليف والإبداع الفني. وحيث إنني ليس في وسعي إلقاء الضوء على دور الذكاء الاصطناعي في كل هذه المجالات أو بعضها في مقال واحد، فسوف اكتفي هنا بتناول دوره في مجال الترجمة.
لقد اطلعت على برامج الترجمة من خلال الذكاء الاصطناعي بهدف التحقق من قدراتها على الترجمة الدقيقة والأمينة على الأقل، أي التي ينبغي أن تتحقق فيها أبسط شروط الترجمة، وليس كل متطلباتها؛ ولكني فوجئت بأن هذه الترجمات لا تتحقق فيها هذه الشروط الأساسية: فلا هي دقيقة ولا هي أمينة، وتقع في الأخطاء نفسها التي يرتكبها المترجم الرديء. وفيما يلي أمثلة على أنماط عديدة من هذه الأخطاء:
من الأمثلة على هذه الأخطاء: ترجمة كلمة أو عبارة في نص قديم بناء على دلالتها في سياق عصر المترجم، من دون تمحيص لدلالتها في عصر المؤلف، أو- على العكس من ذلك- ترجمة كلمة ما ترجمة حَرفية أو صوتية كما هي مستخدمة في عصرها من دون ترجمة، ومن ثم من دون فهم لمعناها، وبالتالي من دون قدرة على رفع معنى الكلمة إلى حالة حضور، بحيث يبقى معناها مكافئًا لدلالتها المستخدمة في عصرنا، أعني عصر المترجم (سواء أكان هو المترجم البشري أو المترجم الآلي). والحقيقة أن هذا الشرط يعني أن الترجمة تقتضي عملية رفع النص إلى حالة حضور أو «تعاصر»، وهو ما يُعرف «بعصرنة النص».
وهناك نوع آخر من الأخطاء وهو الترجمة الحرفية لدلالات الألفاظ والعبارات وتراكيب اللغة، من دون وعي باختلاف طبيعة اللغة المنقول عنها (في كل هذه المستويات) عن طبيعة اللغة المنقول إليها. فاللفظ لا يمكن ترجمته في ذاته وبمفرده ترجمة قاموسية؛ ببساطة لأن اللفظ في أية لغة ليس له معنى واحد مستقل بذاته، وإنما يتأسس معناه على علاقته بالكلمات الأخرى في سياق النص المنقول عنه، وهي علاقات تختلف في تراكيبها عندما يُراد صياغتها في اللغة المنقول إليها. ولكن هذا النمط وغيره من الأخطاء -للأسف- هو ما نجده في كثير من الترجمات العربية الشائعة والشهيرة.
وهناك نوع ثالث من الأخطاء التي لا تتوخى الدقة حينما لا تراعي السياق المتخصص للنص (إذا كان متخصصًا)؛ وبالتالي ترتكب أخطاءً فادحة. وعلى سبيل المثال: نجد أن كلمة truth، عادةً ما تتم ترجمتها إلى كلمة «الحقيقة»، دون مراعاة للمجال التخصصي الذي ترد فيه هذه الكلمة. فلا يكفي هنا مراعاة المجال التخصصي العام الذي ترد فيه هذه الكلمة، وإنما يجب أيضًا مراعاة الجانب التخصصي الدقيق: فالكلمة يمكن ترجمتها على النحو السابق إذا كانت تقع في مجال الميتافيزيقا أو الأنطولوجيا، ولكنها تصبح غير دقيقة إذا كان النص المنقول عنه يقع في مجال المنطق أو فلسفة تحليل اللغة؛ لأنها في هذه الحالة سوف تعني «الصدق» وليس «الحقيقة»؛ تمامًا مثلما أن كلمة true في هذا السياق أو المجال لا يجب ترجمتها إلى «صحيح»، وإنما إلى كلمة «صادق»؛ لأن الصدق يختلف عن الصحة في المنطق.
ناهيك عن شرط آخر للترجمة يتمثل فيما يمكن أن نسميه «جمال الترجمة»، وهو شرط لا يتحقق إلا في قدر ضئيل للغاية من الترجمات البشرية، وتفتقر إليه تمامًا برامج الذكاء الاصطناعي في الترجمة؛ ببساطة لأنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأساليب شخصية وإبداعية لدى المترجم (وهذا الطابع الشخصي يغيب عن البرامج الاصطناعية للمترجم الآلي). هذا الطابع الشخصي الإبداعي في الفهم والتأويل - ومن ثم في الأسلوب- يشهد عليه المثال التالي: يمكن أن نجد ترجمتين لنص واحد، وقد تكون كلاهما دقيقة وموثوقة، ومع ذلك فإننا نفضل إحداها على الأخرى، باعتبارها أكثر جمالًا منها، للسبب سابق الذكر. فالترجمة لا تخلو من طابع إبداعي بمعنى ما.
كل هذه الأخطاء التي قد يقع فيها المترجم البشري عادةً ما تقع فيها برامج الترجمة وفقًا للذكاء الاصطناعي، الذي نسميه على سبيل التبسيط: «المترجم الاصطناعي أو الآلي»؟ لماذا؟ يمكن القول ببساطة إن هذه الأنماط من أخطاء المترجم البشري ترجع إلى نقص أو قصور في قدرات معرفية خاصة، وهو قصور لا يمكن مداواته من خلال المترجم الاصطناعي؛ لأنه يفترض نوعًا من الخبرات المعرفية الخاصة، وقدرة على الترجمة في ضوء روح العصر والسياق الثقافي والاجتماعي السائد فيه. بل إنه قد يفترض معرفة وثيقة بخصوصية تفكير كاتب ما وأسلوبه في الكتابة والتعبير عن هذا الفكر، وهو أسلوب قد يتميز بالتجهم والجدية والصرامة أو بالرشاقة واللغة الموسيقية أو بالدعابة أو بالسخرية. بل قد يفترض معرفة مؤسسة على نوع من الألفة أو «الفهم المتعاطف» (إذا استخدمنا لغة هيدجر) مع كاتب النص، بل مع شخصيته ذاتها التي تنعكس في الكتابة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی من دون
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي يساعد زوجين في تحقيق حلم الإنجاب بعد 18 عامًا من الانتظار
خاص
انتهت رحلة شاقة امتدت لثمانية عشر عاماً من المحاولات المستمرة للإنجاب، بانتظار زوجان أمريكيان وصول طفلهما الأول نهاية هذا العام، بعدما أسهم الذكاء الاصطناعي في تحويل حلمهما إلى واقع داخل مركز كولومبيا الجامعي للخصوبة.
وخاض الزوجان، جولات عديدة من عمليات التلقيح الاصطناعي حول العالم، لكن كل المحاولات باءت بالفشل بسبب حالة طبية نادرة تعرف بـ”انعدام النطاف”، حيث لا يظهر أي حيوان منوي في السائل المنوي للرجل.
وتجعل هذه الحالة فرص الحمل شبه مستحيلة، إذ أن عينة السائل المنوي المعتادة تحتوي على مئات الملايين من الحيوانات المنوية، بينما عينة الزوج لم تكشف عن أي خلية حية، رغم ساعات من التدقيق تحت المجهر.
وقصد الزوجان مركز كولومبيا الجامعي، الذي طور فريقه الطبي بقيادة الدكتور زيف ويليامز أسلوباً مبتكراً يعتمد على الذكاء الاصطناعي تحت اسم STAR، اختصاراً لـ “تتبع واستعادة الحيوانات المنوية”، بحسب شبكة “CNN”.
وتمكن الفريق الطبي بفضل “STAR” من رصد ثلاث خلايا حية فقط، جرى عزلها بدقة وإخصاب بويضات الزوجة بها عبر التلقيح الاصطناعي، ومع نجاح العملية، أصبحت الزوجة حاملاً لأول مرة، وينتظران مولودهما في ديسمبر المقبل.