في الساعات الأولى لوصول الثورة السورية مظفرة إلى دمشق وهروب الأسد، قام الكيان بحملة تدمير منهجية لما تبقى من أسلحة النظام الساقط بدعوى خشيته من وقوعها في يد الإرهابيين، وهو توصيف الثورة السورية منذ انطلاقتها سنة 2011، والتقي فيه الصهيوني مع العربي الرسمي. وسمعنا موقفا مزايدا من أيتام البعث ونظامه في كل الرقعة العربية، بل حتى من أبواق السيسي الذي يحاصر غزة ويقتل الكيان مواطنيه بلا شفقة قبل أن ينعطف ويناور، يصف قادة الثورة السورية بأنهم عملاء للكيان وأنهم إخوان مسلمون صنعتهم مخابرات غربية.
السؤال برسم المستقبل: كيف سيكون موقف سوريا الجديدة من الكيان الذي يحتل جزءا من أرضها وزاد فتوسع في أكثر مما تم الوقوف عنده ذات هدنة؟ للإجابة سنحاول العودة إلى التاريخ وصولا إلى سوريا الجديدة التي سيحكمها إسلاميون بشراكة غالبا أو بمفردهم احتمالا.
كم كتب المثقفون القوميون واليسار من كتب ومن مقالات وكم نظّروا ووضعوا الخطط للمعركة؟ إنها مكتبة ثقيلة الوزن لم تعد تستحق بقاءها في مكتبات الجيل القادم، وقد حل زمن حرقها أو أرشفتها للشفقة؛ لوضع سردية تحرير أخرى. لقد سقط الخطاب القومي مع سقوط آخر نظام قومي في دمشق، انكشفت الخديعة الكبرى، لم تكن فلسطين إلا ذريعة حكم طاغ دمر الشعوب المحيطة
حرب طويلة وجولات
انطلقت المقاومة الفلسطينية من الداخل عربية مسلمة سنية، ولم تسأل عن الطوائف والأيديولوجيات. كانت تلك جولة أولى أشارت إلى الطريق ولم تصل إلى غايتها، حتى تولت الأنظمة العربية الناشئة مهمة التحرير ففشلت وكانت النكبة الكبرى.
الجولة الثانية من الحديث باسم فلسطين ستتولاها الأنظمة القومية التي أدمنت الانقلابات العسكرية تحت مظلة تحرير فلسطين. واستمر ذلك من 1952 إلى 2024، تاريخ سقوط آخر نظام قومي منقلب يزعم التحرير. في هذه الجولة الطويلة غاب حديث الدين والمذاهب وحلت الأيديولوجيات اليسارية والقومية والليبرالية، وقتلت الأنظمة فيها من الفلسطينيين أكثر مما قتل الكيان المحتل، وأُهدر فيها البشر والثروات الطائلة وشارك حتى الفلسطيني العلماني في خيانة معركته وشعبه بتحالفاته مع الأنظمة.
ظهرت إيران الشيعية في الطريق وتولت مهمة التحرير وزايدت على الأنظمة العربية نفسها (أو سرقت منها القضية)، وكان الحديث أكثر من الفعل حتى اكتشف العرب أنهم تحت احتلال إيراني باسم فلسطين. وكانت الثورة السورية خاتمة للادعاء الإيراني الذي اندحر لتعود القضية إلى أهلها العرب السنة. والقضية الآن على طاولة الثورة السورية وبقية التيار الإسلامي السني الممتد من تركيا إلى المغرب، وعاموده الفقري حركة الإخوان المسلمين بتسمياتهم المختلفة. فكيف سيسلكون وقد شهدوا انطلاق مقاومة عربية سنية من غزة في حرب الطوفان؟
مكتبة للحرق
كم كتب المثقفون القوميون واليسار من كتب ومن مقالات وكم نظّروا ووضعوا الخطط للمعركة؟ إنها مكتبة ثقيلة الوزن لم تعد تستحق بقاءها في مكتبات الجيل القادم، وقد حل زمن حرقها أو أرشفتها للشفقة؛ لوضع سردية تحرير أخرى. لقد سقط الخطاب القومي مع سقوط آخر نظام قومي في دمشق، انكشفت الخديعة الكبرى، لم تكن فلسطين إلا ذريعة حكم طاغ دمر الشعوب المحيطة (والبعيدة) ومنع وصولها إلى المعركة. وإلا ما معنى أن يقتل نظام قومي عربي نحو مليون مواطن باسم التوازن الاستراتيجي مع العدو ولا يخوض معركة واحدة حتى لتحرير جزء محتل من قُطره؟ (من تكملة الحساب إحصاء القتلى باسم فلسطين من ليبيا إلى العراق مرورا بمصر واليمن).
لقد سقطت الأيديولوجيات أيضا؛ بدءا من تنظيرات اليسار التي بنت على الصراع الطبقي أو وحدة الطبقة العاملة العربية واليهودية في مواجهة الصهيونية؛ أعلى مراحل الإمبريالية. لدينا ما يكفي من الإثباتات أن اليسار العربي كان أقرب إلى التطبيع الفكري والثقافي مع العدو من أجل مقاومة الرجعية العربية، وهي التسمية التي يعوم بها عداءه للتيار الإسلامي السني المسيس والذي وضع قبل غيره فلسطين على أجندته. وقد كان لحرب الطوفان مزيّة كشف هذا الموقف فحركة حماس عند اليسار العربي حركة إخوانية رجعية أضرت بالقضية.
على أبواب جولة جديدة
انتمت حركة حماس إلى عز الدين القسام، أول مجاهد/ مقاوم عربي مسلم سني، كأنها تستعيد نقطة البداية الحقيقية للمقاومة، وأغلقت قوس الأنظمة العربية والتحالفات المزيفة معها كما أغلقت قوس الأيديولوجيين العرب.
يظهر الآن في الأفق المحيط بفلسطين قوس إسلام سياسي سني يمتد من شمال أفريقيا إلى تركيا. هذا القوس مفكك تنظيميا لكنه موحد فكريا وتحل فلسطين في مكان مكين من أجندته، وقد ارتبط جغرافيا بعد إسقاط نظام البعث الذي كان يفصل بين مكوناته، لكن ما تزال هناك حواجز عالية يعسر تذليلها لربط جبهة واحدة متماسكة. ولهذا القوس رأس حربة أو سهم متقدم في الأرض المحتلة في غزة والضفة، فهل سيعيد فتح معركة التحرير بعقل عز الدين القسام؟
بناء هذا القوس الآن أقرب إلى الأحلام الكبرى منه إلى حقيقة قابلة للتنفيذ، وذلك لوجود عوائق ذاتية وأخرى موضوعية.
العوائق الذاتية في كل قُطر هي الثورة المضادة التي ستعبّر لمدة طويلة عن الأنظمة والتيارات التي فشلت في كل مهمة أعلنتها من التنمية في الأقطار إلى تحرير فلسطين. ما زال أمامنا زمن طويل نسمع فيه خطاب الوصم بالرجعية والخيانة، وسيتحالف المهزومون مع الكيان وقوى الهيمنة باسم مقاومة الإرهاب الإسلامي والدعوشة.. الخ.
ومن العوائق الكبرى في تقديرنا أن التيار الإسلامي نفسه يحمل عقدة نقص أمام التيارات الأيديولوجية، وقد تجلت العقدة في عقد الربيع العربي الفاشل. العنصر الإسلامي خارج غزة يرتبك أمام اليساري والقومي ويهرب من مواجهته، وهذه ذلة غير مفهومة. ولا سبيل إلى الشفاء من هذه العقدة إلا بمواجهات فكرية شجاعة، لركن هذه التيارات في حجمها الميكروسكوبي وفضحها بجرها إلى معارك الديمقراطية حيث ستموت بلا صلاة.
جراحات سوريا عسيرة على المداواة في المدى المنظور، فتركة البعث ثقيلة والحصار مفروض والثورة المضادة نشطة وأي طلب لخوض معركة قومية في هذا الظرف هو نوع من المزايدة على المواطن السوري المكلوم، لكننا نذكّر بأنها معارك أجيال لا معارك مرحلة
أما العوائق الموضوعية فواضحة، ونجزم أن قوى الهيمنة والكيان منها في القلب أكثر إدراكا لقوة هذا التيار. وقد حاربته منذ عز الدين القسام وكانت الانقلابات القومية جزء من أدوات الهيمنة الخارجية على الداخل القطري والنتيجة واضحة لكل ذي نظر. لن تسمح قوى الهيمنة للتيار الإسلامي بالتوحد في معركة تحرير ولا في معركة تنمية اقتصادية للاستقواء، لذلك فالمعركة ذات وجهين: أولا، معارك فكرية وميدانية ضد الداخل الخياني المهزوم الآن والذي لن يترك الساحة مهما كان حجم خسائره، وثانيا معارك استقلال سياسي وسيادة اقتصادية وسياسية على الأقطار بالتوازي مع معارك توحيد التيار نضاليا عبر أجندة واضحة لا ترتبك بوصم الإرهاب أو اللاسامية. المعارك ضد قوى الهيمنة تنطلق في تقديرنا بتجاوز الخوف الذاتي بما يكلفه من أثمان، بعضها دُفع في غزة الطوفان.
هنا ستحل سوريا في قلب المعركة، وهي مهمة تاريخية يؤهلها لها التاريخ والجغرافيا، فهي همزة الوصل بين الشرق والغرب ومعبر القوة البشرية والقتالية نحو القدس. هكذا كان في زمن أمية وفي زمن صلاح الدين وفي زمن التحرر من الاحتلال المباشر المغدور بالانقلابات العسكرية.
نعم جراحات سوريا عسيرة على المداواة في المدى المنظور، فتركة البعث ثقيلة والحصار مفروض والثورة المضادة نشطة وأي طلب لخوض معركة قومية في هذا الظرف هو نوع من المزايدة على المواطن السوري المكلوم، لكننا نذكّر بأنها معارك أجيال لا معارك مرحلة، ولا مستقبل لسوريا للأسف والكيان مرابط بجوارها واحتلاله لجزء من أرضها يشكل طعنة في شرفها السياسي.
نختم جازمين بأن المعارك المزيفة انتهت بسقوط البعث واندحار إيران، والمناضلون المزيفون اندحروا ويتلاشون هباءات في الريح. مازال نظام وادي عربة يقف في طريق وحدة الحزام السني وما زال عسكر كامب ديفيد في السلطة ولهم سجون مليئة بالإخوان المسلمين، ولكننا نرى مرحلة مؤذنة بنهاية من جنس نهاية نظام البعث.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا المقاومة الفلسطينية القومية سوريا فلسطين مقاومة قومية اسلامي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة السوریة
إقرأ أيضاً:
عربات جدعون: معركة الوجود والهوية
(عربات جدعون) توراتية الاسم والمضمون وعنصرية القتل، ليست إلا فصلًا إضافيًا للإبادة في محرقة غزة، يراد منها التهجير وكسر الإرادة. لكن غزة، كما عهدناها، عصيّة على الانكسار. بشعبها المقاوم، ووعيها المتجذر، تسدّ ثغرة الأمة في الدفاع عن فلسطين ومقدساتها. الأرض تُحمى بالوجود، والوجود يُصان بالصمود. نتنياهو، بتطرّفه اليميني، نسف أي مسار تفاوضي وضحى بأسراه، وعليه أن يترقب اشتعال الضفة والقدس والداخل، فضلًا عن انتفاضات أحرار العالم. إنها معركة هوية وأرض، وغزة وفق تاريخها، شوكة دائمة في حلق المشروع الصهيوني، وجسر عبور إلى التحرير الشامل (ولتعلمن نبأه بعد حين).
بين ركام البيوت في غزة، وتحت قصف لم يعرف هدنة منذ سبعة أشهر، أعلنت إسرائيل عن بدء عملية “عربات جدعون” كحلقة جديدة في مشروع الإبادة والتهجير القسري، بإسناد أمريكي مباشر وتواطؤ إقليمي، في محاولة لإعادة إنتاج النكبة بصيغة أشد بشاعة، تطال البشر والحجر والوعي. ليست “عربات جدعون” مجرد عنوان عسكري لعملية اجتياح، بل هي جزء من خطة استراتيجية لإخضاع غزة وإفراغها، والتمهيد لفرض سيناريوهات الوطن البديل وخرائط جديدة للمنطقة.
هذه العملية، التي تأتي في ظل عنجهية (نتنياهو) بإغلاق المسار التفاوضي، وانكشاف هشاشة الجيش الإسرائيلي أمام صمود المقاومة، لا يمكن فصلها عن السياق الإقليمي والدولي العام. فالدور الأمريكي، ومن خلفه تحالفات النفط والتطبيع، أعاد تشكيل أجندته تحت لافتات “الاستقرار” و”إعادة الإعمار”، بينما الهدف الحقيقي هو سحق الإرادة الفلسطينية، وفرض وقائع تقسيمية ونهائية، تتجاوز حدود غزة إلى الضفة والقدس والداخل.
في المقابل، تقف غزة، كما عهدناها، عصية على الانكسار. بالمقاومة، بالإيمان، بالوعي العميق بأن هذه الأرض لا تُحمى إلا بالوجود، ولا يُصان الوجود إلا بالصمود. فالشعب الفلسطيني، في وجه هذه العربة الحديدية التي يقودها نتنياهو بعنجهية التطرف، يدرك أن الثمن كبير، لكن التراجع مستحيل، لأن البديل هو الاجتثاث.
وفيما يلهث الاحتلال نحو تصدير نصر مزيف عبر اجتياح بري متهور، تبدو الضفة والقدس والداخل المحتل على صفيح ساخن، وقد تشتعل في أية لحظة. فهذه المعركة لم تعد تخص غزة وحدها، بل باتت معركة هوية ووجود لكل فلسطين، بل وللمنطقة بأسرها. هي معركة إعادة تعريف “العدو”، وكشف زيف المشاريع التي تُطرح بلغة الإنسانية لكنها تُنفذ بأدوات التطهير العرقي.
ومع تصاعد العزلة الدولية لإسرائيل، وتراجع ثقة جمهورها بجيشها، وظهور ملامح نظام عالمي متعدد الأقطاب بقيادة الصين وروسيا، فإن ثمة نافذة استراتيجية بدأت بالتشكل. لكنها تحتاج لإرادة فلسطينية سياسية موحدة، ورؤية عربية جريئة تخرج من مربع الصمت إلى الفعل.
إن مواجهة “عربات جدعون” تتطلب تحركًا على مستويين:
1. الوطني الفلسطيني: عبر تثبيت الرؤية الجامعة، وإعادة بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية، واستعادة القرار الوطني المستقل، ورفض مشاريع الانقسام السياسي والجغرافي.
2. الإقليمي والدولي: من خلال رفض أي صيغ للتطبيع مع الاحتلال، وتعزيز الاصطفاف مع القوى المناهضة للهيمنة الأمريكية، واستثمار التحولات في الرأي العام العالمي، وتوسيع الجبهة الداعمة لفلسطين شعبيًا ورسميًا.
ما يجري اليوم في غزة ليس معركة عابرة، بل فصل مفصلي في مشروع “إسرائيل الكبرى”، التي تسعى لفرض واقع جديد بالقوة، تحت غطاء دبلوماسي مموّه. لكنها، كما التاريخ يُثبت، ستصطدم دومًا بجدار غزة: الإنسان، والكرامة، والإيمان بأن الأرض لا تُؤخذ إلا من شعب خانع، وشعبنا ليس كذلك.
ستبقى غزة الجسر، لا الممر. والسد، لا الثغرة. وستبقى، كما كانت، قبرًا لكل مشاريع الإبادة، وشرارة لكل مشروع تحرير.
* رئيس مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات