2025: بقعة ضوء في النفق الفلسطيني المعتم
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
يكاد المرء يعجز عن حصر عدد الخسائر الاستراتيجية التي مني بها الأمن القومي العربي منذ فجر الأول من أغسطس ٢٠٢٤ وحتى الآن.
بعد اغتيال رمزَي المقاومة اللبنانية والفلسطينية حسن نصر الله ويحيى السنوار وانكسار محور المقاومة سيطر حلف الناتو بقيادته الأمريكية وجناحيه الإسرائيلي والتركي على مقاليد المشرق العربي كله فيتصرف هوكستاين وكأنه بريمر جديد ولكن على لبنان وليس العراق ويتصرف الرئيس أردوغان كأنه الخليفة الذي يعين الوالي المحلي في دمشق.
لكن إذا كان «لا بد مما ليس منه بد»؛ أي إحصاء الخسائر التي منيت بها القضية الفلسطينية فنبدأ بأنها كانت مخيفة لدرجة أنه يمكن القول إنها دخلت بعد تغيرات المشهد السوري إلى نفق معتم هو الأسوأ منذ خروج المنظمة من لبنان عام ١٩٨٢ بما عناه من إغلاق آخر منفذ عربي أمام المقاومة الفلسطينية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
فتخلي فتح رائدة الكفاح المسلح وصاحبة الطلقة الأولى ضد إسرائيل عن هذا الكفاح باتفاقات أوسلو ١٩٩٣ عوضه قيام حركة الجهاد الإسلامي ١٩٨١ وحزب الله اللبناني ١٩٨٤ وحركة حماس ١٩٨٧ لينسقوا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي اختارت أن تواجه الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل لا أن تعمل كخادمة لهما كما كان الأمر مع نظام الشاه السابق. هنا تكون محور المقاومة الذي دخل كل المواجهات مع إسرائيل خلال الأربعين سنة مستفيدا من موافقة النظام السوري السابق على جعل بلاده مقرا للمقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة والأهم من ذلك جعل أراضيه منفذا لنقل الأسلحة للمقاومة اللبنانية والإسرائيلية وجعل منها أيضا مراكز ومعسكرات تدريب على السلاح وعلى تصنيعه ما كان لإنجاز عسكري تاريخي مثل طوفان الأقصى -أكبر هزيمة عسكرية واستخبارية لإسرائيل منذ إنشائها- أن يتم.
يسيطر على دمشق الآن نظام سياسي تعهد بعدم دخول صراع من أي نوع مع إسرائيل وتعهد بعدم جعل أراضيه منفذا لنقل أسلحة أو تدريب مقاومين للهجوم عليها. فقدت المقاومة الفلسطينية إذن ولأجل غير معروف مصدر وممر السلاح الذي كانت تقاتل به بعد أن تخلى عنها أشقاؤها العرب.
الخسارة الثانية جيواستراتيجية إذا لم تكتف قيادة الخارج في حركة حماس كبرى حركات المقاومة الفلسطينية بهذه الخسارة العسكرية لمصدري التسليح والتدريب بل ضاعفتها بالانجراف لتأييد قادة دمشق الجدد.. والتباري في وصف دخولهم للعاصمة السورية بانتصار على الخطر الإيراني والسلاح الإيراني وكان مذهلا خروج محسوبين على إعلام حماس ليعتبروا أن جبهة تحرير الشام «السنية» إنما انتصرت على عملاء إيران الشيعة من عناصر حزب الله وقوة الرضوان الذين كانوا حتى ليلة سقوط دمشق دون قتال في ٨ ديسمبر الماضي هم حلفاء محور المقاومة وأصحاب البندقية الواحدة المصوبة نحو نفس الوجهة أي وجهة الاحتلال الإسرائيلي!
يعَد هذا في نظر البعض انقلابا على إرث ثلاثي السنوار وهنية والعاروري الذين تعهدوا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وأعادوا العلاقات مع محور المقاومة بعد ٢٠١٩ وحتى طوفان الأقصى إلى أعلى مستويات التعاون. لكن الأخطر هو أنه تطور قد يفجر الصراعات الفلسطينية - الفلسطينية من جديد. وإذا انتقلنا لهذا التهديد من المستوى الأصغر إلى المستوى الأكبر فإننا قد نشهد ما يلي:
قد يفجر هذا الانقلاب على محور المقاومة بل الشماتة في انكساره الراهن الذي ظهر في بيانات حماس بشأن سوريا تناقضا داخل حماس بين قيادة الخارج السياسية وقيادة الداخل الميدانية في غزة والضفة. وقد يعزز هذا من النظرية التي تطرحها دوائر أمريكية وغربية عن وجود صراع مكتوم بين جناح ثوري مرتبط بحزب الله وإيران يقوم على تصعيد المقاومة مع إسرائيل كلما كان ذلك ممكنا وبين جناح تركي/ خليجي محافظ يقوم على التفاهمات السياسية. سيضعف هذا التطور حماس كمنظمة في تفاوضها الراهن حول غزة والرهائن ووقف الحرب والانسحاب وقد يخلق للمرة الأولى مواقف تهدد التماسك والانضباط السياسي الذي اشتهرت به حماس، مواقف قد لا تستجيب فيها قيادة غزة التي تحتفظ بالأسرى لتفاهمات تتوصل إليها قيادة الخارج مع الإسرائيليين عبر الوسطاء القطريين والمصريين. البعض يقول، أيضا، إن الشرخ «الذي صنعه المشهد السوري الجديد» قد يمتد إلى قيادة الخارج نفسها فهم يضعون خليل الحية وزاهر جبارين وأسامة حمدان في معسكر وإرث السنوار وليس في معسكر مقابل عاد بقوة إلى الجذور الأيديولوجية الإخوانية في طبعتها السلفية ويقال إن المصطفين فيه هما رئيسا الحركة السابقان خالد مشعل وموسى أبو مرزوق.
تفتت الوحدة بين الجهاد وحماس: سمح طوفان الأقصى للمنظمتين المقاومتين بتجاوز خلافات تاريخية أيديولوجية وسياسية وتعززت وحدتهما في حرب غزة مع فصائل أخرى في غرفة المقاومة المشتركة.. لكن الجهاد التي لم تتزحزح طول تاريخها عن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية أو الانخراط في محاورها والملتزمة فقط بمحور المقاومة ضد إسرائيل انزعجت من انجراف حماس الخارج مع المشهد السوري الجديد إلى العداء مع إيران وحزب الله وقد يكسر ذلك موقفهما الموحد في مفاوضات غزة وفي تصورات اليوم التالي خاصة وأن الجهاد ينظر إليها من قطاعات عريضة في الشعب الفلسطيني على أنها صاحبة الموقف الأكثر أخلاقية الخالي من التذبذب من بين كل المنظمات الفلسطينية ذات الجذر الإسلامي.
إطلاق الحرب الأهلية الفلسطينية من عقالها: لقد تشجعت السلطة الفلسطينية بانكسار محور المقاومة وانتقلت من مرحلة التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي وتزويده بالمعلومات عن خلايا المقاومة فيقوم الاحتلال بمهاجمة هذه الخلايا واقتحام مخيمات الضفة إلى مرحلة قيام السلطة الفلسطينية بنفسها باقتحام المخيمات وإطلاق النار على المقاومين مثلما هو حادث في جنين حاليا. حسب مراقبين فإن السلطة الفلسطينية وهي تتطلع لحل أمريكي/ إسرائيلي/ عربي يمكنها من حكم غزة ويلقي بكعكة إعادة الإعمار في حجرها تتخلى هنا عن المكابح لتقديم نفسها باعتبارها ليس فقط الحليف الفلسطيني الشرعي دوليا الذي يحمل «شارة الشرعية الدولية ولكن أيضا الحليف الأمني القادر على وأد خيار المقاومة في الضفة وغزة في كل مرة يفكر فيها في رفع رأسه. هل هذا النفق الفلسطيني المعتم في مطلع ٢٠٢٥ مسدود لا تنفذ منه بقعة ضوء واحدة؟ الجواب هنا بالنفي فهناك بقعتا ضوء قد تتمددان مع الوقت. المفاجأة أن بقعة الضوء الأولى تأتي ميدانيا من غزة المحاصرة عربيا إسرائيليا والتي يشهد شمالها خصوصا حرب إبادة وتهجير غير مسبوقة. فالمقاومة في القطاع ما زالت تكبد الاحتلال خسائر فادحة رغم كل الاختلال في موازين القوى بل وعادت لإطلاق الصواريخ على إسرائيل. وتمكنت من تعويض خسائرها في القوات بتجنيد آلاف من المقاتلين الشبان الذين تفوق رغبتهم في الثأر من إسرائيل أي جيل سابق. بقعة الضوء الأخرى سياسية وليست ميدانية وهي مركزة على حركة الجهاد وتحالفها الواسع مع الشعبية وقوى اليسار الفلسطيني المعتمد لخيار المقاومة فهذا التحالف لديه هذا الموقف المبدئي والاستقلالي الذي قد يصبح القاطرة الأخلاقية التي تشد همة خيار المقاومة وتعيد فرضه على الساحة الفلسطينية في المستقبل.
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محور المقاومة قیادة الخارج
إقرأ أيضاً:
الجدل حول هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر.. وحسم الجدل قانونيًا
السفير د. عبدالله الأشعل
في صباح السابع من أكتوبر 2023 شنت قوات حماس هجومًا شاملًا وكاسحًا على منطقة غلاف غزة، وهي منطقة تابعة لغزة احتلها المستوطنون الذين رحلوا عن غزة عام 2005 تحت ضربات المقاومة. وكان هجوم حماس على القواعد والقوات الإسرائيلية برًا وبحرًا وجوًا. ولم تُفاجأ إسرائيل بالهجوم، ولكن فُوجئت بحجم الهجوم الذي لم تكن مستعدة له أمنيًا وعسكريًا. وأخذت المقاومة معها عددًا من المدنيين والعسكريين رهائن. وقد انقسم الموقف من الأطراف المختلفة من هذا الهجوم وتشعّب المواقف إلى ثلاثة:
الموقف الأول: منطق حماس من الهجوم.. الموقف الثاني: موقف إسرائيل وأمريكا ومعظم الدول العربية وأولها السلطة.. الموقف الثالث: موقفنا من الحادث ووضعه في القانون الدولي.
أولًا: دوافع حماس ومنطقها في الهجوم
تسوق حماس سبعة دوافع لهجومها على القوات المعادية:
الأول: إن إسرائيل تعمدت إهانة الفلسطينيين منذ قيامها. الثاني: إن صبر حماس على جرائم إسرائيل خلال نحو سبعة عقود قد نُقِض، وتأكدت حماس أن السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ليست مؤقتة وعابرة، بل هي أساس المشروع الصهيوني. الثالث: تأكد لحماس أن إسرائيل خارج حدودها ليست مجرد سلطة احتلال وإنما تريد الأرض ولا تريد السكان.
الرابع: لاحظت حماس أن إسرائيل تقوم على الغضب والقوة، وأن المقاومة المسلحة هي أنسب رد على إسرائيل. الخامس: لاحظت حماس أن آليات النظام الدولي تحتال عليها إسرائيل، وأنها تفلت من العقاب، ولذلك توحشت. ورأت المقاومة أن الحلول عن طريق التفاوض غير مجدية. السادس: إن إسرائيل مصرّة على تفريغ فلسطين من أهلها.
وقدّرت حماس أن الجمهور الذي تُسيئ إسرائيل إليه سوف يعتبر المقاومة غير ذات جدوى، خاصةً وأن السلطة تعاديها وتعتبرها ذراع إيران في المنطقة قبل طوفان الأقصى، كما أن هجمات المستوطنين على المرابطين في المسجد الأقصى لا تتوقف. وسابعًا: تعتقد حماس أن من حقها الدفاع عن الشعب الفلسطيني، خاصة أن السلطة لا تحمي الفلسطينيين وليس لها جيش.
ثانيًا: موقف إسرائيل وأمريكا ومعظم الدول العربية
موقف إسرائيل: فوجئت إسرائيل بحجم وخطورة العملية، وشمولها البر والبحر والجو، وفوجئت بجرأة المقاومة وعدم خوفها من إسرائيل، ولأول مرة تأخذ رهائن، وهي محقة في ذلك بموجب المادة 12 من اتفاقية نيويورك لأخذ الرهائن عام 1979، وتعتبر إسرائيل أن المقاومة وسّعت هدفها من مجرد مقاومة الاحتلال إلى هدف تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وهذه فرضية لاحظناها في رد إسرائيل، ولذلك بدأت إسرائيل حرب إبادة منظمة ضد غزة، مقدّمة لإبادة الشعب كلما حانت الفرصة.ولما كانت المقاومة تمثّل الحق، وإسرائيل تمثل الباطل، فقد أظهرت إسرائيل بإبادتها للشعب بكافة الطرق غلًا وعقدًا وانتقامًا من تجرؤ غزة على توحش إسرائيل. وكلما نجحت المقاومة في كسر شوكة الجيش الصهيوني، ازداد حقده على المدنيين، أي كلما نجحت المقاومة في ساحات القتال، توحشت إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
موقف أمريكا والاتحاد الأوروبي: نفس وجهة النظر الإسرائيلية تبنّتها أمريكا ومعظم الحلفاء الأوروبيين.موقف معظم الدول العربية: تابعت بألم البيانات الرسمية التي أصدرتها وزارات الخارجية العربية في معظم الدول، وتتضمن أمرين، الأول: إدانة هجوم حماس باعتباره عدوانًا على إسرائيل، ومبررًا لدفاع إسرائيل عن نفسها، على أساس أن الفعل مستحدث ورد الفعل مستحدث أيضًا، والثاني: إن بيانات الخارجية العربية أدانت هجمات حماس على المستوطنين، على أساس أن المستوطنين مدنيون كالفلسطينيين، ودعت هذه البيانات إلى المساواة بين المدنيين الفلسطينيين والمدنيين المستوطنين.
لعل هذه المقالة تبدّد الجهل بهذه الحقائق لدى من أصدر بيانات بهذا المعنى. أما من أصدر بيانات الإدانة على أساس التحالف مع أمريكا وإسرائيل، فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا.
رأينا في وضع الحادث في القانون الدولي الحق أن الاحتلال طويل الأجل، خاصة إذا كان يستخدم الاحتلال ستارًا لإفراغ فلسطين من أهلها بل وإبادتهم، ليس له حقوق في القانون الدولي، بل للمقاومة أن تستخدم كل الوسائل، بما فيها أخذ الرهائن، أما الموقف الأمريكي، فقد تماهى مع الموقف الإسرائيلي، واقتربت منهما مواقف معظم الدول العربية، خاصة وأن الدول العربية اتخذت موقفًا معاديًا للمقاومة قبل الحادث بعام تقريبًا، عندما قررت الجامعة العربية أن المقاومة العربية بكل أجنحتها من قبيل "الإرهاب"، وهو موقف إسرائيل وأمريكا ومعظم الدول الغربية،
ولاحظنا أن الحكومات العربية وحدها تعادي المقاومة بسبب الضغوط الأمريكية، أما الشعوب العربية فكلها مجمعة على مساندة المقاومة ومساندة إيران ضد إسرائيل.
الخلاصة أن ضربة المقاومة ليست منقطعة الصلة عمّا قبلها من جرائم إسرائيل، ويكفي أن محكمة العدل الدولية أكدت في آرائها الاستشارية منذ عام 2004، وآخرها عام 2024، أن علاقة إسرائيل بأرض فلسطين خارج قرار التقسيم هي مجرد علاقة احتلال ويجب أن تنتهي، وأما ما تدّعيه إسرائيل بأن المقاومة اعتدت عليها مما أعطاها الحق في "الدفاع الشرعي"، وما ترتب على هذا الهجوم تتحمل مسؤوليته المقاومة، فذلك اتهام سياسي لا يسنده القانون، وكان يمكن للمقاومة أن تُنقذ غزة لو اعتذرت لإسرائيل! ثم إن إسرائيل، بمجاهرَتها بهدف القضاء على المقاومة، تُخالف القانون الدولي، وقد فصّلنا ذلك في مقال سابق.
رابط مختصر