المرابي اليهودي.. صناعةُ المال والإجرام في معادلة السيطرة
تاريخ النشر: 7th, January 2025 GMT
إبراهيم محمد الهمداني
لم تقتصرِ الأنشطةُ التجارية، لأربابِ المال اليهود، على المجالاتِ والأنشطة التقليدية المعروفة؛ فعلاوة على سيطرتهم -شبه الكاملة- على الحركة الاقتصادية، في معظم بلدان العالم، واحتكارهم تجارة أهم وأغلى السلع المختلفة، وتحكم قبضتهم المالية بعمليتَي الاستيراد والتصدير، فقد تفردوا -أَيْـضًا- بصناعة تجارة الإرهاب والإجرام، سواء في مجال صناعة وتصدير مختلف أنواع الأسلحة، أَو في مجال صناعة وتصدير الجماعات الوظيفية الإجرامية، واستثمارها كورقة رابحة، أما بشكل جماعي علني، بوصفهم مقاولي حروب، يقومون بحسم المعارك، ضد الجيوش النظامية المعادية، من خلال عملياتهم الهجومية الخاطفة والمباغتة، التي يستطيعون تنفيذها بكفاءة وسرعة عالية، وبأقل قدر من الخسائر المادية والبشرية، وأما بشكل فردي سري، بوصفهم قتلة مأجورين، يقدمون خدمات الاغتيالات والتصفيات الجسدية، وخدمات التخلص من المنافسين، والتجسس وكشف المتآمرين والأعداء، الذين يتربصون بالملك، وكبار رجالات النظام الحاكم، وحتى كبار الإقطاعيين والمُلَّاك والتجار، الراغبين في التخلص من أعدائهم أَو منافسيهم، بطريقة سرية جِـدًّا، يتعذر معها معرفة الفاعل، ناهيك عن إمْكَانية توجيه الاتّهام، لخصومهم المعروفين أَو المحتملين.
يمكن القول إن استثمارَ الجماعات الإجرامية، في مختلف ممالك أُورُوبا قديما، كان يدر على المرابي اليهودي أرباحًا طائلة، تجاوزت حجم العائدات المالية الهائلة، التي اكتظت بها خزائن المرابي اليهودي، لتصل إلى أعلى مستوى -يمكن بلوغه- من المكاسب السياسية والنفوذ السلطوي، ومقومات السيطرة على مراكز صناعة القرار في المملكة، وُصُـولًا إلى رأس الهرم السلطوي (الملك)، الذي تحول إلى دمية بين يدي المرابي اليهودي، نظرا لحاجته الملحة، إلى خدماته الإجرامية والاستخبارية، من ناحية، وارتهانًا لخطورة الأسرار المشتركة -بينهما- رجاء كتمانها، من ناحية ثانية، وبمقدار حاجة خزينة المملكة إلى المال اليهودي، لتجاوز أزماتها المالية، أَو تمويل حروبها، أَو لتغطية بذخ القصر، ونفقاته الشخصية، كانت حاجة الملك -شخصيًّا- إلى المرابي اليهودي، بوصفه كاتم الأسرار المخلص، والمستشار الأمين الناصح، وموضع ثقة الملك المطلقة، التي لم ينلها -فقط- مقابل خدماته الاعتيادية؛ أَو لأَنَّه أنقذ المملكة من الإفلاس بأمواله، أكثر من مرة، وإنما نالها بجدارة؛ لأَنَّه كان الحارس الأمين على العرش، وصمام أمان بقاء الملك على كرسي مملكته، وضمان استمرار حكمه، دون أدنى خوف، من عدوٍّ أَو متآمِرٍ أَو منافِسٍ، الذين أسقطهم المرابي اليهودي بصمت -عبر شبكاته التجسسية داخل القصر وخارجه- بعدما كشف أمرهم للملك، في سرية بالغة.
ونظرًا لهذا المستوى العالي، من التأمين السلطوي لعرش الملك، الذي عجزت عن بلوغه الأجهزة الأمنية الرسمية، بينما استطاع المرابي اليهودي تحقيقه، ليحقّقَ من خلاله وجوده وحضوره المركزي، ولم تكن حظوته لدى ملوك أُورُوبا في الغرب، أَو سلاطين الدولة العثمانية في الشرق، ووصولِه إلى منصب الوزير الأعظم أَو قطب الملك، مُجَـرّد مكرمة ملكية، أَو تسامح ديمقراطي حضاري، وإنما كانت نتاج فعل الضرورة، الذي فرضته طبيعة مهمته المعقَّدة، ودوره بالغ الخطورة، وقدرته العالية في توظيف خبثه ومكره ودسائسه، الموروثة عبر آلاف السنين، لتكريس معادلة حضوره السلطوي المركزي، القائمة على ضرورة تحقيق التوازن الدقيق بين طرفيها؛ العلني ممثلا في سلطة المال، التي تفرضها القروض الربوية، والسري ممثلا في هيمنة القوة (الإجرامية الاستخبارية)، التي جسدتها جماعات الإرهاب الوظيفية، بما امتلكته من قدرات ومؤهلات، الاختراق والسرية والتفاني، في تنفيذ المهام الأكثر وحشية وإجراما.
رُبَّما أمكن القولُ إن صناعةَ الجماعات الوظيفية الإرهابية السرية، كانت إحدى مهارات المرابي اليهودي، التي تكشفُ عن طبيعة العقلية السياسية اليهودية، في صناعة استراتيجية السيطرة على السلطة من خارجها، وجهود اليهودي المنبوذ اجتماعيًّا الهائلة -استنادًا إلى إرث تآمري، وتجارب إجرامية تراكمية، موغلة في القدم- لفرض تموضعه التسلطي الخفي، بوصفه ضرورة واحتياجًا لازمًا، في كُـلّ جوانب الحياة الاجتماعية، متغلغلا في جميع مفاصل الهرم السلطوي، على مرأى ومسمع الجميع، وبذلك المستوى من التواطؤ الضمني الجمعي، تم التغاضي عن صورة المرابي اليهودي خَاصَّة، وخبث وفساد ودونية اليهودي المنبوذ عامة، وحلت محلها صورة اليهودي (المعتدل)، في الوهم الجمعي، الذي استسلم لخداع الذات، لكي يتمكّن من ابتلاع قبح حضور المرابي اليهودي، في مجالس الأشراف والقادة، بعد إلباس انحطاطه، لبوس فضائل مصطنعة، على هيئة صديق وفي ناصح، حريص على مصلحة وأمن واستقرار المملكة والملك، وليس ذلك وحسب، بل نجح المرابي اليهودي المنبوذ، في انتزاع الاعتراف الرسمي والشعبي، بشرعية وجود ودور جماعته الوظيفية الإرهابية، وحصانتها المطلقة، رغم قبح طبيعتها الوحشية، ووجودها الإجرامي، ودورها الإرهابي، وانحطاط ممارساتها وسلوكياتها التآمرية التجسسية، وخطرها الوجودي اللامتناهي، على الشعب والملك معا، خَاصَّة نها لا تعترفُ للمجتمع بانتماء، ولا تدين للملك بولاء، حَيثُ ولاؤها وانتماؤها لراعيها اليهودي فقط.
ولذلك بقيت المجتمعاتُ في حالة ترقُّبٍ حَذِرٍ، وطالما لامست تلك الخطورة الشعور الجمعي، في مراحل تاريخية مختلفة، وكلما بلغ التهديد الوجودي اليهودي، مستويات إرهابية تسلطية متقدمة، انتفض الغضب والانتقام الشعبي، لإسقاط حظوة ومكانة اليهودي، صانع المال والإجرام، حَيثُ لا تعصمه حصانته الملكية، من ثأر الجماهير الشعبيّة الغاضبة، ولا تحميه جماعاته الإجرامية المتوحشة، وكانت الشعوب تقتص لنفسها وتثأر لكرامتها، التي بالغ المرابي اليهودي في امتهانها، وقد شهدت مختلف بلدان أُورُوبا، ثورات شعبيّة وأعمال عنف وتهجير قسري لليهود، جزاء جرائمهم ومجازرهم بحق الشعوب، كما لم يسلم المرابي اليهودي وجماعاته الوظيفية ومواطنيه، من انتقام وسطوة وغضب الملك نفسه، الذي يسارع إلى إسقاط المركز السلطوي اليهودي، قبل أن يصبح هو ضحيته، وفي كلا الموقفَينِ الرسمي والشعبي، من الحضور اليهودي، ما يؤكّـدُ حقيقة خطر الوجود اليهودي، على المجتمعات البشرية عامة، التي لم تسلم منها، عبر مراحلها التاريخية المتعاقبة، ولذلك لا غرابة إن تعرض اليهود، لعمليات التنكيل والقمع والتهجير، في معظم بلدان أُورُوبا، منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، فما ذلك إلا رد فعل طبيعي إزاء جرائمهم وفسادهم وإجرامهم اللامتناهي، وعنصريتهم وكراهيتهم الشديدة، لكُلٍّ من ليس يهوديًّا، بينما كان وضعُهم في البلدان الإسلامية، أفضلَ بكثير، رغم أدوارهم الخبيثة، واختراقهم المجتمع والسلطة على السواء، سواء في ظل الدولة العثمانية، أَو ما قبلها وما بعدها، حَيثُ تمكّنوا من أعلى مراكز القرار، وأداروا حكم البلاد والعباد سرًّا وعلانية، وعاثوا في المسلمين فسادًا، وحصلوا على ما لم يحلموا به، من الحَظوة والمكانة والحرية، ولعل موسى بن ميمون أوضح شاهد على ذلك.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
هل انتهى عهد الحماية مقابل المال؟
د. محمد بن عوض المشيخي **
تتجه البوصلة الأمريكية هذه الأيام للخليج العربي الغني بإيرادات النفط والغاز للحصول على الأموال والاستثمارات؛ بل والهبات والهدايا الثمينة التي تُقدَّر إحداها بأكثر من 400 مليون دولار، وعلى وجه الخصوص من بعض من الدول الخليجية التي بالفعل تملك أرصدة ووفورات مالية كبيرة؛ إذ يعتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه أحق بها وأجدر من غيره من العالَمِين!
وبالفعل كانت الأرقام التي أًعلن عن بدء ضخها في الاقتصاد الأمريكي خلال الزيارة الرئاسية تريليونية؛ إذ إن الاتفاقيات التي وُقِّعت بين السعودية وأمريكا فقط تُقدَّر بأكثر من 600 مليار دولار أمريكي، على الرغم من أنَّ جيران الجنب من الشعوب العربية تُعاني من الفقر والبطالة والأمية؛ بل بعض هذه الدول التي تتهافت على مساعدة أمريكا للخروج من مديونيتها الكبيرة التي تقدر بأكثر من 36 تريليون دولار أمريكي، كان أجدر بها أن تضُخ هذه الأموال في البُنى الأساسية وتأسيس مراكز تكنولوجية وطنية تقوم بالدرجة الأولى على العقول والخبرات الوطنية، وخاصة تكريس ما يُعرف باقتصاد المعرفة؛ كخيار أساسي، لتضاهي بذلك الدول المتقدمة مثل كوريا واليابان وسنغافورة، وذلك لإيجاد فرص عمل للشباب وتطوير الصناعات المحلية وجعلها تنافس أمريكا، كما عملت الصين في العقود الأخيرة من القرن الماضي حتى وصلت الآن إلى مستوى تنتظر فيها اللحظة التي تُسيطر فيها على الساحة الاقتصادية العالمية وتصبح الاقتصاد الأول. وهذا ليس ببعيد، لكون أن الولايات المتحدة الأمريكية تخوض حروبًا تجارية مع العالم تتمثل في رفع ومضاعفة الرسوم الجمركية على الواردات، وبدأت بالفعل تظهر مؤشرات كارثية على الاقتصاد الأمريكي مثل التضخم وارتفاع أسعار السلع محليًا خاصة السيارات.
صحيحٌ أن الخطاب الأمريكي هذه المرة تغيَّر عن الأسلوب الاستعلائي الذي اتبعه ترامب في 2017 مع الحلفاء في الخليج؛ إذ كان يتحدث عن الحماية الأمريكية المزعومة لأمن الخليج في ذلك الوقت، ويُحذِّر من خطر إيران على المنطقة، ويُقدِّم الأمريكان أنفسهم بأنهم هُم الحُماة وصمام الأمان للخليج العربي. ويبدو لي أن صُنَّاع القرار في المنطقة قد أدركوا أن أمريكا سرعان ما تتخلى عن أقرب الأصدقاء إليها مثل شاه إيران وغيره من الحكام الذين أسقطتهم شعوبهم، فهناك قول دارج ومنتشر على نطاق واسع مفاده "المتغطي بأمريكا.. عريان"، بينما يصف أحد أقرب أصدقاء أمريكا وهو الرئيس الباكستاني الأسبق محمد ضياء الحق حقيقة من يتعامل مع الحكومات الأمريكية ويقول "من يتعامل مع أمريكا كالذي يتعامل مع الفحم، لا يناله إلا سواد الوجه واليدين".
من هنا، كان التفكير ببدائل أخرى كالتعاون الأمني والعسكري، خاصة بعد تعرض مرافق شركة أرامكو السعودية وكذلك إمارة أبوظبي لاستهداف بالصواريخ التي يُقال إنها من جماعة أنصار الله اليمنية في ذلك الوقت؛ فالاعتماد على النفس والتعاون بين دول مجلس التعاون لدول الخليج أصبح واحدًا من الخيارات المطروحة كبديل عن الحماية الأجنبية؛ إذ أصبحت المُخصَّصات الدفاعية للسعودية وقطر والإمارات فلكية، وتحتل الصدارة العالمية في الإنفاق العسكري.
والأهم من ذلك ظهور استراتيجية جديدة قائمة على التنوُّع وإيجاد خيارات مُتعددة من الحلفاء، وذلك من خلال الاتجاه شرقًا نحو روسيا والصين وتأسيس شراكات اقتصادية وأمنية معها وخاصة الصين، فقد أدركت أمريكا هذا التحرك الحكيم من دول الخليج العربية، مما نتج عن ذلك تغيُّر الخطاب؛ فتحوَّلت لغة خطاب رؤساء أمريكا ووزرائها من الأوامر إلى الاستجداء وطلب المساعدة من دول الخليج الغنية.
ولعل التقارب الإيراني السعودي بوساطة صينية في 2023، قد فاجَأَ البيت الأبيض في ذلك الوقت؛ حيث انعكس هذا التفاهم بين الاشقاء والجيران على أمن المنطقة بعيدًا عن التحالفات الأجنبية التي تهدف لاستنزاف الأموال الخليجية بطرق مختلفة وتحت عناوين غير صادقة.
صحيحٌ أن البيت الأبيض وصقوره قد وصلوا اليوم إلى خلاصة مفادها أن الحروب غير مُجدية ومُكلِّفة لأمريكا واقتصادها المُترنِّح في الأساس، وأن الحوار والمفاوضات هما أفضل الطرق وانجح الأساليب التي باشرت فيها إدارة ترامب، المنخرطة الآن في مفاوضات جادة مع إيران بهدف منعها من صناعة القنبلة النووية، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها. كما إن التفاهمات مع جماعة أنصار الله في اليمن قد أفضت إلى وقف الهجوم على السفن الامريكية مقابل وقف استهداف الأرضي اليمنية من المقاتلات الامريكية، علاوة على عقد مفاوضات مباشرة مع حركة حماس التي كانت تُصنفها واشنطن كمنظمة إرهابية.
وفي الختام.. على الرغم من قناعة الرئيس ترامب بأن إسرائيل تشكل عبئًا على أمريكا وأنه فيما يبدو أصبح مُتحررًا من السطوة الصهيونية، إلّا أن الخليجيين لم يحسنوا استخدام أموالهم المقدمة للحليف الأمريكي او حتى التلويح بها كعامل ضغط لوقف الحرب في غزة أو حتى إدخال المساعدات الإنسانية للجياع في هذا القطاع، الذي يعيش محرقة القرن الحادي والعشرين.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري