هل فشلت الأمم المتحدة في ليبيا؟
تاريخ النشر: 2nd, August 2025 GMT
منذ صدور القرارين 1970 و1973 عن مجلس الأمن الدولي في مارس 2011، وُضعت ليبيا رسميًا تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما كان يُفترض معه أن تتحمّل المنظمة الدولية مسؤولية مباشرة في حماية المدنيين، وضمان الأمن والسلم، ومنع الانهيار المؤسسي. إلا أن ما تلا التدخل الدولي في ليبيا لم يكن سوى انفلات شامل غابت فيه الدولة، وتراخى فيه المجتمع الدولي – وعلى رأسه الأمم المتحدة – عن أداء دور حاسم تجاه الفوضى المتصاعدة.
فوضى بعد سقوط النظام
فما إن سقط النظام السابق، حتى اندلع اقتتال داخلي، رافقته حملات انتقامية ممنهجة ضد مناصري النظام، شملت التهجير والقتل والاعتقال خارج القانون، في خرقٍ صريح للقانون الدولي الإنساني. كما استحوذت ميليشيات مسلحة على السلاح، رافضة قرار المكتب التنفيذي بجمعه وحلّ التشكيلات المسلحة، تحت ذريعة “حماية الثورة”.
وقد تأسست كتائب كـ”الدروع”، وتشكيلات أخرى لم تشارك أصلًا في الثورة، بينما سلّم الثوار الحقيقيون أسلحتهم في بادرة حسن نية، ما جعل ميزان القوة يميل لصالح تيارات الإسلام السياسي والتنظيمات المؤدلجة.
انقلاب على الديمقراطية وتغوّل الميليشيات
وفي خضم هذه الفوضى، تم الانقلاب على العملية السياسية الوليدة، حين سيطرت جماعات مرتبطة بالإخوان المسلمين على المؤتمر الوطني العام، وهمّشت إرادة الناخبين. وبلغ التصعيد ذروته في عام 2014، مع اندلاع حرب بين الميليشيات في طرابلس، تسببت في تدمير مطار العاصمة ومرافق حيوية، وكرّست واقعًا دمويًا انقسمت فيه البلاد.
وفيما كانت الجماعات المسلحة تفرض سيطرتها على الغرب، انطلقت عملية عسكرية بقيادة المشير خليفة حفتر في الشرق، بدعم شعبي، استهدفت ما كانت الأمم المتحدة تصفهم بـ”الثوار”، رغم أن بعضهم حمل فكرًا متشددًا لا يعترف بشرعية الدولة ولا بمخرجات العملية الديمقراطية.
عشرة مبعوثين.. وفشل متكرر
منذ عام 2011، تعاقب على رئاسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عشرة مبعوثين أمميين، دون أن ينجح أيّ منهم في حل الأزمة، بل اكتفوا بإدارتها والتكيف مع أطرافها:
عبد الإله الخطيب (أبريل – أغسطس 2011): وزير خارجية أردني سابق، عُيّن مبعوثًا خاصًا مع اندلاع النزاع، مهمته اقتصرت على إجراء مشاورات عاجلة في ظل المواجهات، لكنه غادر سريعًا دون تأثير فعلي. إيان مارتن (سبتمبر 2011 – 2012): دبلوماسي بريطاني وأمين عام سابق لمنظمة العفو الدولية، قاد جهود التخطيط لمرحلة ما بعد النزاع، لكن الواقع تجاوز التصورات، واندلعت الأزمات سريعًا. طارق متري (2012 – 2014): أكاديمي ودبلوماسي لبناني، حاول إدارة حوار شامل بين الأطراف، لكن اندلاع حرب طرابلس وبنغازي حدّ من حركته، وأجبره على الانسحاب. برناردينو ليون (2014 – 2015): دبلوماسي إسباني، أدار مفاوضات “اتفاق الصخيرات” بين الفرقاء الليبيين، لكنه غادر وسط جدل كبير بعد تعيينه في مؤسسة إماراتية، ما أضعف مصداقيته. مارتن كوبلر (نوفمبر 2015 – يونيو 2017): ألماني، حاول تنفيذ اتفاق الصخيرات، لكنه فشل في احتواء الخلافات العميقة بين المجلس الرئاسي والبرلمان وقادة الميليشيات. غسان سلامة (يونيو 2017 – مارس 2020): لبناني، أحدث تقدمًا نسبيًا في ملفات المصالحة وتعديل الاتفاق، لكنه استقال فجأة لأسباب صحية بينما كانت الحرب على طرابلس على أشدّها. ستيفاني وليامز (2020 – بداية 2021): دبلوماسية أميركية، قادت ملتقى الحوار السياسي، وساهمت في إنتاج السلطة التنفيذية المؤقتة (المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، والحكومة برئاسة عبد الحميد الدبيبة). استطاعت ممارسة ضغوط فعلية على الأطراف الليبية لإجبارهم على قبول “خريطة طريق” في جنيف، إلا أن ما تحقق كان حلًا مؤقتًا هشًا لم يعالج جذور الأزمة. يان كوبيتش (2021): دبلوماسي سلوفاكي، حاول تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكن العملية انهارت قبيل موعدها بسبب خلافات قانونية عميقة. عبد الله باتيلي (سبتمبر 2022 – أبريل 2024): دبلوماسي سنغالي، أعلن استقالته بعد أن وصلت جهود التسوية إلى طريق مسدود، واتهم الأطراف الليبية بغياب الإرادة السياسية. (المنصب شاغر حتى منتصف 2025): وحتى اليوم، لم تُعيَّن شخصية جديدة لإدارة البعثة، في ظل انسداد سياسي داخلي، وتراخٍ دولي متزايد.تدخلات دولية تقيّد المبعوث وتُجهض الحلول
إضافة إلى الإخفاق البنيوي في أداء بعثة الأمم المتحدة، فإن الواقع الجيوسياسي المحيط بليبيا أثّر بشكل مباشر في قدرة المبعوثين الأمميين على أداء مهامهم. فمجلس الأمن نفسه – الذي يفترض أن يمنح المبعوثين القوة الشرعية لتنفيذ القرارات – يعاني من تضارب مصالح حاد بين أعضائه الدائمين، خصوصًا الولايات المتحدة وروسيا، ناهيك عن فرنسا وبريطانيا والصين.
وفي مثل هذه البيئة المنقسمة، لا يستطيع أي مبعوث أممي التحرك بحرية، بل يتحرك ضمن حدود ما تسمح به توافقات القوى الكبرى. وإذا غابت هذه التوافقات، فإن مهمة المبعوث تصبح مجرد إدارة للوقت والمواقف، دون قدرة حقيقية على فرض الحلول أو مساءلة المعرقلين.
وقد لوحظ أن بعض المبعوثين – خصوصًا أولئك القادمين من الدول الكبرى – يميلون أحيانًا لمحاباة مواقف دولهم الأصلية، أو يسعون لتجنب استفزاز الأطراف المتدخلة في ليبيا، حفاظًا على مسيرتهم المهنية أو طموحاتهم المستقبلية. كما أن تعيين الأمناء العامين للأمم المتحدة والمبعوثين الخاصين لا يتم دون موافقة القوى الكبرى، مما يجعل الاستقلالية مسألة شكلية أكثر من كونها حقيقية.
شخصية المبعوث… بين العدالة والانحياز
لا يمكن فصل أداء المبعوثين الأمميين في ليبيا عن شخصياتهم وخلفياتهم السياسية، ومدى قدرتهم على فهم الواقع الليبي المعقّد، والتعامل بعدالة مع الأطراف المتنازعة.
فبعض المبعوثين تعاملوا مع مهمتهم كأنها مجرد “وظيفة مؤقتة”، ينهونها دون صدام أو تأثير يُذكر. بينما نظر آخرون إليها كمشروع سياسي أو أخلاقي، واعتبروها فرصة لإثبات قدرتهم على صنع تغيير في واحدة من أعقد الأزمات في العالم.
في هذا السياق، برزت ستيفاني ويليامز كحالة فريدة، إذ أنها – بخلفيتها الأمريكية ودعم بعض العواصم الغربية – استطاعت ممارسة ضغوط فعلية على الأطراف الليبية، وأجبرتهم على القبول بـ”خريطة طريق” عبر ملتقى الحوار السياسي في جنيف، الذي أسفر عن تشكيل سلطة تنفيذية مؤقتة (المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، والحكومة برئاسة عبد الحميد الدبيبة).
لكن رغم هذا الاختراق، فإن ما تحقق كان حلًا مؤقتًا هشًا، لم يخدم الحل النهائي للأزمة، ولم يعالج جذور الانقسام، بل أدى لاحقًا إلى خلق سلطتين تنفيذيتين متنافستين من جديد، ما أعاد الأزمة إلى نقطة الصفر.
وقد حاول بعض المبعوثين فهم منطق الأزمة من الداخل، وواجهوا الواقع بشجاعة. طارق متري، على سبيل المثال، أشار بوضوح إلى أن الأطراف الليبية “لا تبحث عن حل بقدر ما تبحث عن مصالحها الضيقة”، في إشارة إلى تغليب الحسابات الشخصية والمناطقية على المصلحة الوطنية.
أما غسان سلامة، فقد تحدث بصراحة نادرة عن عمق الفساد المستشري، حين قال:
“في ليبيا، كل يوم يُولد مليونير جديد، ولا أحد يريد حقًا إنهاء الأزمة.”
هذا التصريح لم يكن مجرد توصيف، بل إدانة واضحة لنخبة سياسية تستفيد من استمرار الفوضى، وتُجهض أي مسار جاد نحو الاستقرار.
ورغم هذه الرؤية النقدية لدى بعض المبعوثين، فإن غياب الدعم الدولي، وصراعات مجلس الأمن، وازدواجية مواقف الدول المتدخلة، حالت دون تمكنهم من تنفيذ رؤاهم، وانتهى الأمر ببعضهم إلى الاستقالة، والآخرين إلى العزلة والتهميش.
الولايات المتحدة.. فوق الأمم المتحدة
من المهم أن نفهم أن تدخل القوى الكبرى – وعلى رأسها الولايات المتحدة – في الأزمات الدولية لا يخضع دائمًا لإطار الأمم المتحدة، بل يتجاوزه حين تقتضي المصالح الاستراتيجية ذلك. فواشنطن، كما أظهرت في ملفات متعددة، لا تعير قرارات المنظمة الأممية اهتمامًا حقيقيًا إن تعارضت مع أولوياتها، بل تتحرك بشكل منفصل، مستخدمة أدواتها الدبلوماسية والأمنية الخاصة.
وفي الحالة الليبية، فإن التحركات الأمريكية الأخيرة تعكس هذا النمط. فإدارة واشنطن قد تلجأ إلى بناء شراكات مباشرة مع أطراف محلية تراها موثوقة، متجاوزة دور البعثة الأممية إن رأت أنها عاجزة أو مقيدة بسبب الخلافات داخل مجلس الأمن.
هذا يُعيدنا إلى المعادلة الحاسمة: إذا استمر الليبيون في الارتهان للتدخلات المتقاطعة دون بلورة موقف وطني موحد، فإن مصير الأزمة سيبقى رهين حسابات الخارج لا إرادة الداخل.
وأخيرًا… لا خلاص دون وعي وطني
رغم كل ما قيل عن دور الأمم المتحدة ومبعوثيها، وعن التدخلات الإقليمية والدولية المتشابكة، تبقى المسؤولية الأساسية في نهاية المطاف على عاتق الليبيين أنفسهم. فلولا تفكك الداخل، وترسّب الخلافات الفكرية والمناطقية، وضعف الشعور بالوطنية الجامعة، لما تمكن الخارج من فرض وصايته بهذا الشكل.
لقد أضاع الليبيون أكثر من عقد وهم يراهنون على الخارج لحل أزمتهم، في حين أن المفتاح الحقيقي للحل لم يكن يومًا في يد المبعوث الأممي، بل في اليد الليبية الواعية التي تؤمن بأن “ليبيا يجب أن تُبنى بأيدي أبنائها، لا بأجندات الآخرين”.
ولعل وعي الليبيين بخطورة اللحظة التاريخية، وإدراكهم أن الحل يجب أن يكون وطنيًا، هو وحده القادر على إجبار الأمم المتحدة والدول المتدخلة على احترام إرادة الشعب الليبي، والكفّ عن العبث بمصيره، والتوقف عند حدود دورهم كمسهلين لا مقرّرين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: الأطراف اللیبیة الأمم المتحدة المبعوثین ا فی لیبیا
إقرأ أيضاً:
300 ألف شخص يفرون من جنوب السودان بسبب العنف وسط مخاوف من حرب أهلية جديدة
يأتي هذا التصعيد بعد نحو سبع سنوات من انتهاء الحرب الأهلية بين عامي 2013 و2018، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 400 ألف شخص وتشريد الملايين داخل وخارج البلاد. اعلان
قدّرت الأمم المتحدة يوم الاثنين أن نحو 300 ألف شخص فروا من جنوب السودان خلال عام 2025، على خلفية تصاعد العنف بين أنصار الرئيس سلفا كير وأنصار نائب الرئيس السابق رياك مشار، المتهم حاليًا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
توسع رقعة النزاع في جنوب السودانبدأت موجة العنف الجديدة في آذار/مارس الماضي شمال شرق البلاد، لتنتقل لاحقًا إلى مناطق جنوبية، في حين بقيت بعض المناطق بعيدة عن الصراع حتى الآن. ومع توجيه اتهامات لرئيس المعارضة رياك مشار بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية" في 11 أيلول/سبتمبر، تزداد المخاوف من اندلاع حرب أهلية جديدة قد تؤدي إلى فوضى شاملة في الدولة الصغيرة، والتي ما تزال تعاني من هشاشة مؤسساتها الحكومية وضعف قدراتها الأمنية.
وقالت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنوب السودان إن "الاشتباكات المسلحة تجري على نطاق لم نشهده منذ توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية عام 2017"، مشيرة إلى أن هذه المواجهات أجبرت عشرات الآلاف على الفرار من مناطقهم، بينما تستمر الطائرات الحربية في شن ضربات جوية أحيانًا عشوائية على المناطق المأهولة بالسكان.
أرقام النزوح واللجوءوفق تقديرات الأمم المتحدة، وصل نحو 148 ألف لاجئ إلى السودان، بينما فر 50 ألفًا إلى إثيوبيا، و50 ألفًا إلى أوغندا، و30 ألفًا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، و25 ألفًا إلى كينيا.
وداخل البلاد، نزح نحو مليوني شخص عن مناطقهم، فيما استقبلت جنوب السودان أيضًا 560 ألف لاجئ فروا من الحرب المستمرة في السودان المجاور. كما يواجه المدنيون فقدان المأوى والخدمات الأساسية، وغياب الحماية الأمنية، ونقص الغذاء والمياه الصالحة للشرب.
المدنيون يدفعون فاتورة العنف المستمريتحمل المدنيون أعباء كبيرة من القتل المباشر إلى النزوح القسري وفقدان الممتلكات. وقالت الأمم المتحدة إنه بين مطلع العام وأيلول/سبتمبر قُتل أكثر من 1800 مدني في ضربات جوية وتنفيذ عمليات عسكرية، مؤكدة أن بعض الهجمات جاءت على نحو "عشوائي"، ما يفاقم معاناة السكان المدنيين ويزيد من صعوبة تقديم المساعدات الإنسانية.
وفي ظل هذه الظروف، يضطر سكان المناطق المتضررة إلى العودة إلى بيوتهم المهدمة، بحثًا عن آثار أحبائهم أو ممتلكاتهم، وسط تحديات لوجستية هائلة تتعلق بالسلامة والوصول إلى الموارد الأساسية.
الفقر المستشري والضعف المؤسسيعلى الرغم من امتلاك جنوب السودان لثروات نفطية ضخمة، فإن الدولة تعاني من معدلات فقر مرتفعة للغاية، وانعدام البنية التحتية القادرة على دعم السكان أو الحد من آثار الصراع. ويستمر ضعف مؤسسات الدولة وغياب الأمن الداخلي في دفع المدنيين إلى حافة اليأس، فيما يبقى المستقبل السياسي غامضًا وسط صراع القوى على السلطة.
وتدعو الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى الضغط على الأطراف المتصارعة لوقف العنف والسماح بتوفير المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى إعادة تفعيل مسار السلام السياسي الذي بدأ بعد توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية في 2017.
ورغم هذه الدعوات، لا يزال تنفيذ أي اتفاقيات أو حوار بين الأطراف صعبًا مع تصاعد الاتهامات والمواجهة المستمرة على الأرض.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة