إسرائيل الميدان والأذهان!
تاريخ النشر: 2nd, August 2025 GMT
معاوية الرواحي
يبدو مشهد الصدام الفلسطيني الإسرائيلي مُقبضا بمعنى الكلمة. سياق اللحظة والآن كلُّه يوحي بالتعاسة والهزيمة والبؤس. ولفترة ليست قصيرة من الزمن وقف العالم بحزمٍ شديد مع ردة الفعل الإسرائيلية أمام الحرب التي بدأت فيها المقاومة ضربتها الأولى. هذه مجرد حقيقة تاريخية، ليست إدانةً للمقاومة، ولا تحميلًا لها للمسؤولية أمام أخلاقيات الجرذان التي أبداها الجيش الإسرائيلي لاحقا.
من أين أشتقُّ هذه الفكرة؟ من تصوري عن واقعٍ مغاير إن كان يرأس إسرائيل أي كائنٍ صهيوني سوى نتنياهو. السياق العربي/الإسلامي منذ ضربات الحادي عشر من سبتمبر لم يتغير ضمن السرديات العالمية المُجمع عليها، العرب والإسلام بلاد إرهاب وقتل وتدمير، والمسلم الجيد هو المسلم غير المسلم وانتهى الكلام، ومع اهتمام الفرد أكثر بالبحث والتنقيب تظهر لك مجموعة أخرى من الحقائق، التفسير الأبله للنصوص، وإخراج الآيات من سياقها، مع أنَّ الكتبَ السماوية كلها تقريبا تتفقُ في هذا الجانب، ولكن كيف ستناقش إنسانا مصرا على تصديق تحيزاتها؟ آيات الحرب للحرب، وآيات السلم للسلم، وكأن ما أراده مؤيدو العنف قد وجد تغذيته ليس من المنطقة العربية في المقام الأول، ولكن من الصوت الغربي الكاسح.
هذا كان آخر العهد بمسمى (الإرهاب) كمسمى عربي إسلامي ينال ختم الجودة لاحقا بعد سنين لتظهر لنا داعش ومثيلاتها. من الذي تجاوز الإرهاب العربي الإسلامي وفق التعريف العالمي؟ حتى يوم السابع من أكتوبر، كان السياق الغربي متماسكا. ولم تكن ضربة المقاومة عنيفة وإرهابيةً كما يمكن للوعي الغربي أن يصفها، إلا أنَّ أكاذيب الصهاينة، ومعهم الجوقة الأمريكية قد جعلت الطبيعي طبيعيا، هم عرب، إرهابيون، هاجموا إسرائيل المسكينة، المسالمة، الآمنة، الديمقراطية. والنتيجة النهائية، اختطاف عدد كبير من المدنيين، وقتل من الجانبين، وأخبار حتى هذه اللحظة لا يجزم إنسان أن حقيقتها الكلية لديه، لأنَّها حرب كتابة تاريخ، وسرديات لا نهاية لها، الحاسم في المسألة أن المقاومة اختارت إعلان الضربة الأولى، والذي بعدها كانت ردة الفعل المتوقعة، ولاحقا، ردة الفعل التي أصبحت غير متوقعة.
السياق متماسك حتى الآن، العرب، المسلمون، الفلسطينيون، الإرهابيون هاجموا إسرائيل واختطفوا مواطنيها، وخلال ذلك حدثت مواجهات على مستوى ميداني غير شاسع ومات من الطرفين الكثير. العالم راضٍ بهذا الفهم، والمجتمع الغربي، والدولي، يقف خاضعا أمام أفضلية إسرائيل المفروضة على الطاولة بقوَّة ناعمةٍ مترامية الأطراف. وبدأت حرب نتنياهو. ولم يتغير السياق كثيرا عندما بدأت الحرب.
أتخيل لو كان نتنياهو موثوقا بما فيه الكفاية لكي يحقق النصر الحقيقي الذي تحتاجه إسرائيل. النصر الأخلاقي وفق تعريف العالم الغربي على التحديد. ما الذي كان يجب أن يكون لتحقيق هذا النصر؟ الاتفاق مع الجيران على أن هذه الحرب فقط ضد مقاتلي حماس، وأن المدنيين لا ذنب لهم في هذه المواجهة، والبدء في خطوات حقيقية لتهجير من يمكن تهجيره، وفتح المعابر ربما من جانب واحد ليرحل من يريد الرحيل من هذه الحرب الأخلاقية الإسرائيلية التي تريد أن ترد فقط على من أطلق النار عليها، أيضا بالنسبة للوعي الغربي المهيمن حاليا، شعب غزة هم شعبٌ مختطفٌ من قبل ميليشيات غير منظمة، وبالتالي وفق المنطق الديمقراطي، هم حقا لا ذنب لهم في هذا الصدام.
كانت ستختلف خسارات إسرائيل المهولة إن حدث هذا، ولو على الأقل شكليا، مع ضمانات عودة المهجرين، وغيرها من الأكاذيب المعتادة التي كان سيتفوه بها رئيس وزراء إسرائيل الافتراضي الذي أطرحه في هذا المثال، ووقتها، ستكون المأساة مضاعفةً في حق غزة، وفي حق فلسطين، وكانت سردية النجاة الصهيونية قد بُثَّت، وتداولها القاصي والداني، وبقيت السردية القديمة عن العرب المسلمين الإرهابيين الذين يمجدون العنف ويعيشون حياةً بدائيةً متبعين تأويلات سطحية للنصوص المقدسة ويتعاملون مع الذي هبَّ ودبَّ من منظري العنف باسم الدين كما لو كان نبيا جديدا يطيعه مليار مسلم! سردية قوية مع سخافتها، ولكن هل يمكنك إقناع من لا يريد أن يبحث عن الحقيقة تفصيليا؟
وضع نتنياهو لا يختلف عن وضع نظيره رجل أمريكا البرتقالي ترامب. كلاهما يواجه معارك تريد إسقاطهما بكل الوسائل الممكنة إعلاميا، وقانونيا، ودستوريا، وتشريعيا، وحزبيا. كان التاريخ منصفا مع فلسطين عندما حدث ما حدث وهذا الإرهابي (رسميا) كان هو رئيس وزراء إسرائيل عندما وجهت المقاومة ضربتها الأولى، الضربة التي تعتبر وفق المنطق الغربي غادرةً ولا أخلاقيةً. والسياق كما هو عليه، ولا شيء يتغير، لبعض الوقت، لبعض الشهور، حتى تكشفت الوجوه الحقيقية لجيش الجرذان الصهيوني.
وزَّع نتنياهو لعنة الدم على أنامل جنوده، والذين منهم من الأجيال الجديدة من بهم. لم تخل الحرب من حقائق يبثها الجنود في تطبيقات مثل (التكتوك) وحضور في مواقع التواصل الاجتماعي لا ينفصل كثيرا عن عقليات هذه الأجيال التي تثير العجب. المُودِّع تقريبا، نتنياهو يفعل أقصى ما لديه ليجعل الأمر حربا شاملةً، ضد من؟ ليست حربا ضد المقاومة فقط، ولكنها حرب الشجعان، الأشاوس، الأقوياء، أصحاب الأفضلية الأخلاقية ضد الرضّع، والشيوخ، والمساجد، والمستشفيات، والجرحى، والمدنيين، بل وحتى البهائم والنعاج والخيول والحمير! حربٌ لم تفرق بين بعثة دولية، وأمم متحدة، وصحفيين. أما من كان يجب أن تحاربهم إسرائيل حقا، جنود المقاومة، فقد ظهر فشل جيش الجرذان مبكرًا، عمليات نوعية من الاغتيالات، وانتصار لم يحدث، الأسرى لم يعودوا، ونتنياهو ينشغل بهدم المعبد فوق أخلاقيات جيشه، ويرهق إسرائيل بالمزيد من الصبر من العالم، حتى وصل إلى النصاب الآخر، وتغيرت السردية الأقدم، سردية الحادي عشر من سبتمبر لتصبح الآن موازين الحقائق في كفةٍ مختلفة تماما.
وفق المنطق الغربي، ما الأسوأ من الحادي عشر من سبتمبر؟ ربما داعش ومن يشبهها، ومن أحدث هؤلاء (الأسوئين)؟ بلا شك هم جنود السابع من أكتوبر، إلى أن استطاعت إسرائيل أن تحقق ما لم يحلم به إدوارد سعيد في أجمل أحلام يقظته، انزياح السياق العالمي عن دعم إسرائيل، وتبدد وهم أفضليتها الأخلاقية، ودخول العالم إلى منطقة انقسام بعد سنوات طويلة من الحسم الدامغ، مع معارضة الأقلية. لا يختلف الغرب على حق إسرائيل في الوجود! الذي اختلف هو أفضليتها الأخلاقية، وأضيف إلى هذا الجديد هو حق فلسطين في الوجود. لا أقول هذا بتفاؤل مرحلي عالٍ، بقدر ما أقوله بلغةِ ما له ما بعده.
الذي ينظر إلى أثر الدومينو التراكمي الذي انطلق من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، واستمراء الوعي الغربي العميق والضحل لشيطنة الفئتين العربية والإسلامية ووصمها بالإرهاب والبربرية والتخلف كانت له معطيات وإثباتات يقبلها الوعي الغربي بسهولة. طائرات بن لادن، وموت عدد هائل من المدنيين، لا يقبل هذا المنطق الوعي الغربي فقط، بل من الوعي الشرقي، والعربي، والإسلامي من يرفض من الأساس أن تأخذ المواجهات هذا الطابع الذي يدفع ثمنه ثلاثة آلاف مدني، وركّز معي عزيزي القارئ، ثلاثة آلاف. هذا كان كافيا لإطلاق الغرب بكل أدواته، الثقافية، والبحثية، والعلمية، والترجمة، والسينما، والجواسيس، والمخابرات، وعشنا موّالا عمره عشرون سنة كاملةً من ردة فعل جورج بوش الصغير على ما أريق من ماء وجهه عندما حدثت هذه الضربة.
قبل داعش، هذا كان آخر عهد العالم بأسوأ من يسمون بالإرهابيين، وبعدها جاءت داعش، واستمرت السردية في جوهرها واختلفت في أشكالها. إلى أن جاء نتنياهو هذا اليائس الذي ينتظر نهايةً مزعجة ليجعل من حربه ضد غزة حربا إرهابيةً ينطبق عليها كل شروط الإرهاب الديني، والتطرف السلفي اليهودي، واليمين الأعمى، الأهوج، الذي يرى في عدوه حيواناتٍ تستحق أن تُذبح من أجل جيش نتنياهو المختار!
وانقلبت السردية بمعنى الكلمة. وبدأ العالم ينطقُ أخيرا. قد لا يبدو كل هذا مؤثرا في لحظة الميدان. الذي يحدث في الأذهان هو الذي غيّر معادلاتٍ سابقة كانت تعتبر من الحقائق السياسية الحتمية في كوكب الأرض. ما فعله جرذان الصهاينة في غزَّة مسح من الأساس حتى ضربة المقاومة الاستباقية في السابع من أكتوبر، والوحشية التي كانت تعوّض فشل إسرائيل العسكري في المواجهة مع المقاومة لم تعد أكثر من شكلياتٍ نوعيةٍ تقوم بها إسرائيل عندما تضرب لسبب ما ضربةً نوعيةً واحدة من أجل الاستهلاك الإعلامي، أما باقي الهجوم العشوائي، فهو منشور في التكتوك، ومن قبل جرذان الصهاينة أنفسهم! لم يعد يكلف الجيش الصهيوني نفسه أن يلبس قناعَ الأفضلية الأخلاقية، وحتى نتنياهو نفسه، بنبرة اليائس الواثق من نفسه طفق في توسعة هذا الصراع أقصى ما يمكن لمعتوه يهدم المعبد فوق رؤوس الجميع أن يفعله.
إسرائيل في حالة حرب الآن، حرب تحمي نتنياهو من الانقسام الإسرائيلي الكبير الذي سيحدث بعد نهاية الحرب، فرضية محاولته لإنقاذ نفسه، واستخدامه لهذه الحرب حتى يضمن نجاته لا تبدو مستحيلةً، تبقى ضمن فرضيات كثيرة نحاول فهم ما يحدث. المؤكد حتميا، أن أي رئيس وزراء إسرائيلي غير نتنياهو كان سيكون أفضل بكثير في إدارة خسائر إسرائيل في هذه المعركة. أن تخسر دعم المجتمع الدولي، وأن تدفع بحلفائك السابقين إلى الخوف من ناخبيهم بعدما فعلت من أفاعيل، هذا في حدث ذاته انطلاق نهاية المرحلة السابقة. لن يمكنك وصف العرب والمسلمين بالإرهابيين بعدما فعل نتنياهو وجيش ما فعله بقطاع من العُزلّ، والأطفال، والشيوخ، أحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم، ونزل بقضه وقضيضه قتلا وتقتيلا في ذلك القطاع.
يحلو للبعض اعتبار المقاومة جيشا نظاميا، ويمارس لعبة الآلة الحاسبة على معطيات المواجهة. ويحلو للبعض استخدام كلمة (نازي) في وصف جيش الجرذان اللاأخلاقي الإسرائيل، الحقيقة أن كلمة نازي ليست شتيمة غير مستحقة، لكنها غير دقيقة. الجيش الإسرائيلي وما فعله في غزة هو بكل بساطة (إرهاب) ولا ضرر عقلي وفكري ومنطقي في وصفه بالجيش الإرهابي. أساس الإرهاب هو استخدام سلاح الخوف، وترويع المدنيين، ومعاقبتهم على تصرفات عسكرية بدرت من دولة ما أو فئة ما؟ ما الذي بقي تعريف القانون الدولي، ومن معيار الرجل العادي لكي لا يسمى الجيش الإسرائيلي بمنظمة إرهابية؟ كُل الشروط منطبقة عليه، والعالم الذي بدأ ينطق أخيرا في حق إسرائيل، قرر أن يوقف (تابو) معاداة السامية، ليبدأ الجدال.
هذا التناثر الفكري لسرديات أرهق العالم الغربي نفسه ليرسخها له ما بعده. الأجيال التي ستجد الفرصة على الأقل لتصبح إدانة إسرائيل مباحةً ستبقي سرديةً من الصعب ردمها. عشرات الآلاف من القتلى في حرب همجية، وهزيمة إسرائيلية ميدانية، وعناد من قبل رئيس وزراء إسرائيل قائد المنظمة الإرهابية التي تسمى جيش الدفاع الإسرائيلي سيجعل تصديق أي رواية صهيونية عمَّا حدث في غزة مستحيلا.
الأمل يأتي عندما لا تكون الهزيمة هي نهاية المطاف. لا مجال الآن لتغيير كفة الإجرام لتكون في أي يد غير يد إسرائيل. ولا يمكن لجم العالم الذي فتح عينيه، والأهم، فتح فمه أخيرا. لقد أصبح من الصعب حقا أن تؤمن بأوهام إسرائيل. المقاومة المنطقية الشرسة التي بدأت تتعرض لها إسرائيل جعلتها في ساحة معركة استنزاف أخرى، السياسي الغربي سيفكر ألف مرة قبل أن يعلن ولاءه الكرتوني السمج لإسرائيل، حتى وإن كان مرشحا لمنصب أمين مكتبة نادي الهوكي في شارع يبعد عن المدينة مئة ميل. لا أقول هذا زال، لكنه بدأ يتآكل.
يراودني ذلك الحدس أن نهاية هذه الحرب هي موت نتنياهو لظروف طبيعية. وهنا لا أمارس المنطقي، ربما التمني لا أكثر. هذا الجرذ البشري لم يعبأ في سبيل هوسه الجنوني لا بالبشرية، ولا بالقانون، بل ولا بمصلحة إسرائيل الدولة، أو قومية الوطن اليهودي، بل وحتى بأبسط مصالح إسرائيل الاقتصادية والسياسية، آلة من الحرب تجيد الهدم ولا تجيد الانتصار، مرهقة بالهزائم، وتتباهى بمن يمكن قتله غيلةً، أما الأسرى، والمقاومة، فلا خبر عنهم، يموت قائد فيخلف بعده قائد. لا انتصار حقيقي سوى في تصريحات الإعلام العنجهية، أما الحسم الحقيقي، فالجميع يعلم أن على إسرائيل أن تفاوض، وجيش الجرذان يعرّف بالموت بالانتقام الأقصى من المدنيين، ولأن عصر الإبادات أصبح صعب التكرار، لكل هذا ما بعده، من أجيال، ومن ثباتٍ لحقائق ما حدث، ومن تلاشٍ لما كان يعرف كحقائق عربية وإسلامية، إرهابيو العصر الحديث هم جيش الجرذان الإسرائيلي، مجرمو حرب العصر الحديث هم قادة جيش الجرذان الإسرائيلي، مرتكبو التجويع، والإبادة، والملاحقون وفق القانون الدولي هم قادة جيش الجرذان، لم تتساو الكفتان، وإن اتفق العالم على بقاء تعريف المقاومة في خانةٍ واحدة، العالم أصبح يعرف وفق منطقه السابق من هو الأسوأ، والأشد قتلا، والأكثر دمويةً، وكل هذا لا يفوت بسهولة، وله أثر دومينو سوف يأخذ سنواته نعم ليحدث، هذا ما تقوله لنا النسبية في الوقت، أما الحتمية! فما تراكم من الأذهان من حقائق، سيعيد العودة ليشكل إسرائيل جديدة، ومختلفة، والانقسام الإسرائيلي لم يبدأ بعد، والحرب لم تضع أوزارها. ثمة ما تغير في إسرائيل للأبد، لم تعد وطنا، أصبحت دولةً لا أكثر، والذين يخربون بيوتهم بأيديهم يكررون هذا مجددا، لا عودة عن كل هذا القتل العشوائي، لا كذبة يمكن أن تغطيه، ولا لوبيات يمكن أن تشرعنه، لقد استيقظت حقائق إسرائيل في عقول المنطق النائم، وبعدها، بعد نتنياهو، وبعد فتاوي الإرهاب الصهيوني، القادم تآكل مستمر، لا شفاء بعده، ولا منه، ولا شيء يمكن لإسرائيل أن تفعله لتُنسي العالم تلك السنة التي كشفت فيها إسرائيل حقيقتها في الميدان، وفي الأذهان!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: رئیس وزراء إسرائیل إسرائیل فی هذه الحرب کل هذا ما حدث
إقرأ أيضاً:
رجل الظل: من التخطيط خلف الكواليس إلى قيادة الإنجاز في الميدان
بقلم : رشــيد الشــمري ..
في مشهدٍ يتعطّش فيه العراقيون إلى الخدمات الأساسية والبنى التحتية، ظهرت تجربة “الجهد الخدمي والهندسي” كأحد أكثر النماذج الحكومية ديناميكية وتأثيرًا خلال السنوات الأخيرة. هذا الجهد، الذي تحوّل إلى عنوانٍ للأمل في المناطق المنسية، لم يكن وليد الصدفة، بل هو ثمرة مسار طويل من الخبرة والتخطيط والرؤية العملية.
فمنذ تسلُّم حكومة السيد محمد شياع السوداني زمام الأمور في أواخر عام 2022، شهد الشارع العراقي تحولًا نوعيًا في طريقة معالجة الملف الخدمي. وكانت الانطلاقة عبر تشكيل فريق الجهد الخدمي والهندسي، الذي ضم وزارات الدولة الخدمية والأمنية، ونزل ميدانيًا إلى أحياء كانت تعاني لسنوات من الإهمال.
ولكن، ما لا يعرفه كثيرون أن بذور هذه الفكرة وملامحها الأولى رُسمت في عقول رجال عملوا بصمت خلف الكواليس، في مقدمتهم المهندس جابر عبد خاجي الحساني. فهو “رجل الظل” الذي صار في الواجهة. لأكثر من عشر سنوات من العمل كوكيل فني في وزارة الإعمار والإسكان، ظلّ الحساني يتابع عن كثب احتياجات المدن، ويضع حلولًا عملية لمشاكل الخدمات، ويدير مشاريع البنى التحتية في بغداد والمحافظات. بخبرته الواسعة واحتكاكه اليومي بمطالب الناس، كان من أوائل من نادوا بضرورة تشكيل جهد هندسي ميداني موحد، يتجاوز البطء الإداري ويركز على الإنجاز الفعلي.
وعندما حان الوقت، جاء تعيينه رئيسًا لفريق الجهد الخدمي والهندسي، ليمنحه الفرصة لترجمة رؤيته إلى واقع. ومعه، بدأ الفريق ينفّذ لا يخطط فقط، ويخدم ولا يكتفي بالوعد، حتى بات الناس في المناطق العشوائية والقرى المحرومة يشاهدون فرق الدولة تُعبّد الطرق، وتصلح المجاري، وتعيد الكهرباء والماء، دون الحاجة إلى مناشدات إعلامية أو وعود انتخابية.
لقد تمكن الفريق – خلال ثلاث سنوات فقط – من تنفيذ أكثر من 697 مشروعًا خدميًا في مختلف المحافظات، منها 468 مشروعًا أُنجز بالكامل، في حين يجري العمل على ما لا يقل عن 200 مشروع جديد للعام الحالي.
وشملت الأعمال تمديد أكثر من 1.4 مليون متر من شبكات المجاري، و1.3 مليون متر من أنابيب الماء، وتبليط أكثر من 8 ملايين متر مربع من الشوارع، و4 ملايين متر مربع من الأرصفة والمقرنص.
وتبرز منطقة الشاكرية (شاكر العاني) في بغداد مثالًا حيًّا على ذلك. ففي تشرين الثاني 2022، بدأت فرق الجهد أعمالها هناك، وتم إنجاز كامل المشروع بنسبة 100%، متضمّنة شبكات الماء والمجاري، الكهرباء، الطرق، المدارس، والخدمات الصحية. وافتُتحت رسميًا كمثال لتحوّل منطقة عشوائية إلى حي نموذجي دون الحاجة إلى وعود انتخابية.
وفي قاطع بلدية الشعب (الرصافة)، شملت العمليات مناطق مثل حي الكوفة، المصطفى، الصدرين، الكوثر، الباقر، وأحياء زراعية في حي الجزائر، حيث وصلت نسب الإنجاز في بعضها إلى 90%، وتم افتتاح 20 منطقة بشكل كامل.
ما يُميّز هذه التجربة أنها لم تكن مجرد مشروع خدمي، بل نموذج حوكمة جديدة، أعاد ثقة المواطن بالدولة. فالمواطن الذي طالما شعر بالخذلان تجاه الخدمات، بدأ يرى مؤسسات الدولة تتحرك باتجاهه، دون تأخير أو واسطة. وهذا الإنجاز لا يُنسب إلى فريق العمل فقط، بل إلى رؤية مبكرة تبنّاها رجال ميدانيون أمثال المهندس جابر الحساني، الذين آمنوا بأن كرامة المواطن تبدأ من حقوق مثل الماء والكهرباء، والشوارع وشبكات المجاري، وخدمة تصل حيث يجب أن تصل.
إن تجربة الجهد الخدمي والهندسي لا تمثل مجرد مشروع ناجح، بل تعكس تحولًا نوعيًا في فلسفة الإدارة الخدمية في العراق. وهي شهادة حيّة على أن النجاح لا يولد من الفراغ، وأن ما تحقق اليوم من إنجازات ميدانية هو انعكاس لرؤية رجل آمن بأن “الخدمة ليست شعارًا يُرفع، بل مسؤولية تُمارس”، وبأن مكان المسؤول الحقيقي هو بين الناس، لا خلف الجدران.
ومن هنا، يبقى هذا المشروع شاهدًا حيًا على أن الوفاء لفكرة صادقة يمكن أن يصنع فرقًا في حياة الناس.