لطالما كان الفن، في كافة أشكاله، جزءاً لا يتجزأ من الحضارات الإنسانية، ولم يشذ الإسلام عن ذلك، بل كان مناراً يُنير طريق التعبير الإنساني الراقي، ليصب في خدمة القيم النبيلة والارتقاء بالذوق البشري. مع ذلك، نجد أن هناك من يروجون لفكرة أن الإسلام ضد الفنون، خصوصاً الرقص، ويُلبسون الإسلام ثوباً من التحجر والتقيد الذي يرفضه جوهر الدين نفسه.


الإعلان عن الورشة والهجوم العنيف
جاء الإعلان عن الورشة كفرصة مجانية، تُقام في دار اتحاد تجمع الفنانين السودانيين بمصر، مع التأكيد على الالتزام والجدية خلال الأيام الأربعة للبرنامج. إلا أن هذا الإعلان قوبل بهجوم شرس وغير مبرر من بعض التيارات التي نصّبت نفسها وصيةً على الأخلاق والقيم.
لم يتوقف الأمر عند النقد، بل تعداه إلى اتهامات مباشرة لي ولفريق العمل، وصلت إلى التطاول الشخصي. قالوا إن هذه المبادرة "فسادٌ للقيم" و"خروجٌ عن الدين"، ونسوا أو تناسوا أن الإسلام دين يُشجع على الإبداع والارتقاء بالفرد والمجتمع.
الرقص المعاصر: فن راقٍ لا تُدركه العقول المتحجرة
الرقص المعاصر ليس مجرد حركات، بل هو لغة عالمية تُترجم المشاعر والأفكار. هو مساحة للتعبير الحر الذي يُساعد الشباب على فهم أنفسهم، والتواصل مع العالم من حولهم.
لقد قدمتُ هذه الورشة كوسيلة لترسيخ ثقافة فنية ترتبط بالجمال والإنسانية، لا لتدمير القيم كما زعموا. ولكن يبدو أن بعض الأصوات لا ترى في الفنون إلا تهديداً، لأنهم لا يفهمونها، أو لأنهم يخشون كل ما هو جديد ومختلف.

الإسلام دين الجمال والإبداع
التاريخ الإسلامي زاخر بالفنون، من الشعر والموسيقى إلى الخط العربي والرقص الشعبي. النبي محمد ﷺ نفسه أقرّ مظاهر الفرح التي تخللتها أشكال من الرقص والغناء، كما حدث مع الأحباش الذين كانوا يرقصون في المسجد.
الإسلام لم يُحرم الفنون إلا إذا خالفت القيم الأخلاقية أو أضرت بالمجتمع. أما ما يُعزز الروح، ويُعبر عن الجمال، فهو مُرحب به في الشريعة.

الهجوم على الفنون و سفاهة الجهلاء
الهجوم الذي تعرضتُ له يكشف عن تناقضات كبيرة في خطاب بعض من يُنادون بحماية "القيم". هؤلاء أنفسهم هم الذين أشعلوا نيران القبلية والحروب الأهلية، وساهموا في تفكيك المجتمع السوداني بقيم جاهلية تعود بنا إلى الوراء.
لقد كان أولى بهم أن يُصلحوا ذات بينهم، ويُطفئوا لهيب الفتن، بدل أن يُهاجموا مبادرة ثقافية تهدف إلى بناء الإنسان.
الفنون في الإسلام هل يعرفون هذه الحقائق تاريخية
منذ فجر الإسلام، أُعطيت الفنون مكانة سامية. فقد استمتع الصحابة بالإنشاد والشعر، واحتفى النبي محمد ﷺ بجمال الصوت حين سمع حسان بن ثابت يُنشد مدحاً للإسلام. كما أبدى النبي تسامحاً عظيماً تجاه الأنواع المختلفة من الفنون الثقافية والاجتماعية التي لا تتعارض مع القيم الإسلامية، مثل الألعاب الشعبية والرقص في المناسبات.
روى الإمام البخاري في صحيحه أن الأحباش كانوا يرقصون في المسجد ويقولون: "محمد عبد صالح". فهل منعهم النبي؟ على العكس، أقرّهم وشجعهم، وأتاح للسيدة عائشة أن تشاهد ذلك وتستمتع به.

الرقص بين الإبداع الإنساني والروحانية
الرقص، كوسيلة للتعبير الإنساني، يمكن أن يكون أداة راقية للتواصل مع الذات ومع الآخرين. هو لغة عالمية تنقل المشاعر والأفكار، ويستطيع أن يجسد القيم الإنسانية مثل السلام، الحب، والتسامح.
إطلاق ورش لتعليم الرقص المعاصر للشباب والشابات، كما فعلتُ في القاهرة، كان يهدف إلى تمكينهم من التعبير عن أنفسهم في إطار ثقافي وإنساني راقٍ. مع ذلك، واجهتُ هجوماً شرساً من بعض من يُدعون "حراس الأخلاق"، الذين لا يرون في الفن إلا ما يوافق أهواءهم.
تضليل المضللين شاهت الوجوه
شاهت الوجوه , إلى أولئك الذين اختاروا الهجوم والتضليل، أقول , "الفنون هي طريقنا لتضميد جراح الوطن، وأنتم غارقون في إشعالها."
سنواصل دعم الإبداع بكل أشكاله، وسنظل ندافع عن حق الشباب والشابات في التعلم والتعبير. الفنون ليست عدو الإسلام، بل هي انعكاس لجمال هذا الدين الذي يحث على التفكير والإبداع.
دعونا نرتقي معاً نحو غدٍ أكثر إشراقاً، حيث يكون للفنون دورٌ في بناء مجتمع متسامح، لا تُحكمه عقول متحجرة ولا تُسيّره أهواء جاهلية.
هؤلاء المضللون الذين يهاجمون الفنون يدّعون أنهم حماة الدين، بينما هم في الحقيقة يقفون حجر عثرة أمام تطور المجتمعات الإسلامية. تطاولوا على مبادرة ورشة الرقص المعاصر بدعوى أنها ضد القيم الإسلامية، بينما هم أنفسهم من يُشعلون نيران الحروب الأهلية، ويسكبون الزيت على لهيب القبلية والعنصرية.
أليس من الأولى أن ينشغل هؤلاء بإطفاء نار الفتن التي أشعلوها بقيم الجاهلية، بدل أن يهاجموا الفنون التي ترقى بالإنسانية؟
الإسلام والفن انسجام لا تعارض
الإسلام دين الحياة، يدعو للجمال والإبداع، ولا يمنع من الفنون إلا ما كان هادماً للقيم الإنسانية أو مسيئاً للعقيدة. تاريخ المسلمين حافل بالإبداع الفني، من الخط العربي والزخرفة إلى الموسيقى والشعر وحتى الرقص.
الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" أقرّ بأن السماع والرقص يمكن أن يكونا وسيلة لتقوية الروح، إذا كان الغرض منهما خيراً وارتقاءً.

رسالة للمضللين
لكل من يهاجم الفنون، أقول شاهت وجوه الجهل والتعصب! لن تُطفئوا نور الإبداع الذي يشع من قلوب شبابنا وشاباتنا. وكما قال الشاعر ,ألا يا ليلُ ما ضاقت دروبُ الحقِّ إلا في عيونِ الظالمينْ
إنما الفنون مرآةٌ للروح، ولن يكون الإسلام عدواً للمرآة التي تعكس جمال النفس البشرية.
*دعونا نبني وطناً تُشرق فيه شمس الإبداع، لا أن نتركه غارقاً في ظلام الجهل الذي يغذيه تجار الدين وأرباب المصالح الشخصية.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

أوليفييه روا: الغرب لا يرى الإسلام مشكلة ثقافية بل كتهديد وجودي وحقوق الإنسان استُخدمت أداة هيمنة

في حوار معمّق مع المفكر وأستاذ الدراسات الشرقية أوليفييه روا (المولود عام 1949) قدّم الأكاديمي الفرنسي قراءة نقدية جذرية لمسار العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، مركزاً على تطور مفهوم الاستشراق وتحولاته، ودور الخطاب الغربي في إنتاج تصورات سلبية عن الإسلام والمسلمين، واستخدامه مفاهيم مثل التقدم وحقوق الإنسان كأدوات استعمارية مغطاة بغلاف أخلاقي.

وجاء ذلك في حوار مدير "الجزيرة 360" جمال الشيال مع روا مدير أبحاث مركز البحوث العلمية ومدير دراسات المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسي السابق، ضمن بودكاست (Center Stage) للجزيرة الإنجليزية الذي يستضيف شخصيات من قادة الفكر المؤثرين ويستطلع وجهات نظرهم حول القضايا العالمية الملحة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رفاعة الطهطاوي أيقونة الحوار بين الشرق والغربlist 2 of 2الأنثروبولجية مايا ويند: هكذا تتواطأ "الجامعات الاستيطانية" مع الحركة الاستعمارية الإسرائيليةend of list

وبدأ روا عمله في أفغانستان التي ذهب إليها صبيا عام 1969 عندما كان بالكاد قد أنهى دراسته الثانوية (الليسيه) وذهب مترحلا ومتجولا في شوارع كابل ومستكشفا الحياة في مدن الشرق، ولاحقا درس آسيا الوسطى في مدن أوزبكستان وطاجيكستان العريقة، قبل أن يعود لباريس وينال دكتوراة الفلسفة، ويدرّس في عدة جامعات ومعاهد فرنسية.

وقدم مؤلفات مهمة في علم اجتماع الإسلام والأديان ترجمت أغلبها للعربية، ومنها "الإسلام والعلمانية، الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة، الجهاد والموت، عولمة الإسلام، فشل الإسلام السياسي" وغيرها، واستضافت الجزيرة نت روا ليتحدث عن مستقبل الأديان والهوية والعلمانية، وفيما يلي أبرز ما جاء على لسانه من أفكار خلال المقابلة:

أوليفييه روا يرى أن الاستشراق لم يكن نتاج الحقبة الاستعمارية فقط، بل سبقها بكثير  (الجزيرة)من الإعجاب إلى الهيمنة

يؤكد روا أن الاستشراق لم يكن نتاج الحقبة الاستعمارية فقط، بل سبقها بكثير. فقد نشأ أواخر القرن الـ18 كمجال معرفي أكاديمي يتمحور حول دراسة "الشرق" بوصفه حضارة متميزة. وكان أول المستشرقين في أوروبا من المعجبين بالحضارة الإسلامية، ولكنهم نظروا إليها كماضٍ مجيد فقد صلته بالحاضر.

إعلان

ويرى أن تلك النظرة تغلغلت في الخطاب الغربي، إذ اعتُبر أن العالم الإسلامي "فاته ركب التقدم والعلمانية" وأن عليه أن يبدأ من جديد، وأن يتعلم من الغرب مسار "الحداثة". ويشير روا إلى أن هذا التوجه لم يقتصر على الغرب، بل تبناه عدد من القادة السياسيين في العالم الإسلامي، مثل مصطفى كمال أتاتورك الذي رأى ضرورة محو المؤسسات التعليمية والثقافية التقليدية وبناء مؤسسات "حديثة" على النموذج الغربي.

العلمانية كوسيلة للسيطرة

ينتقد روا الفرضية الغربية القائلة بأن "التقدم لا يتحقق إلا من خلال العلمانية" ويعتبر أنه تم تعميمها لتصبح شرطاً حضارياً للانتماء إلى العصر الحديث.

ويضيف أن تلك الرؤية لم تكن بريئة، بل وظفت سياسياً في سياق الاستعمار. ويضرب مثلاً بفرنسا التي لم تكن في البداية معنية بثقافة الجزائر، لكنها لاحقاً أنشأت مؤسسات مثل كليات الشريعة الإسلامية بإدارة فرنسية، لا بهدف الاعتراف بالثقافة المحلية بل بهدف السيطرة عليها وإعادة إنتاجها بما يخدم هيمنة المستعمر.

عالمية مزعومة

ينتقد روا بحدة الاستخدام الغربي لخطاب حقوق الإنسان، ويؤكد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1947 كان بتمثيل غربي شبه حصري، مما جعل "العالمية" المفترضة تميل إلى كونها "خصوصية غربية مصدَّرة".

ويشير إلى أن ذلك الخطاب تحول إلى وسيلة لفرض نموذج ثقافي محدد، يتجاهل السياقات المحلية أو يصنّفها كمعارضة للمفاهيم الكونية، مثل الدين أو القيم المجتمعية غير الغربية.

ويضرب مثلاً بالمواقف الغربية المتباينة من القضايا العالمية، مثل الحرب في أوكرانيا والمجازر في غزة، ليوضح أن ما يُفترض أنه موقف مبدئي "يُكيف حسب المصلحة الجيوسياسية".

من الحضارة إلى "مشكلة الإسلام"

يُبيّن روا أن التحول الأخطر في الخطاب الاستشراقي الحديث يتمثل في الانزياح من رؤية "الشرق الإسلامي كحضارة" إلى رؤيته كـ"مشكلة دينية". فمنذ السبعينيات، لم يعد الإسلام يُنظر إليه كمكون ثقافي، بل كتهديد مباشر للغرب، وتحوّل إلى "ذريعة لتجريم المجتمعات الإسلامية". فالرموز الدينية مثل الحجاب أو الامتناع عن الخمر أصبحت تلقائياً تُربط بالسلطوية وغياب الحريات.

ويضيف أن الإسلام لم يعد يُعالج كجزء من تنوع الثقافات، بل كعدو مبدئي لحقوق الإنسان، في رؤية تُختزل في عنوان "الإسلام ضد الحداثة".

أزمة الغرب المعاصرة: الهوية بدل المبادئ

يقول روا إن الغرب يشهد اليوم انحداراً من "الخطاب القيمي الكوني" إلى "خطاب الهوية والإقصاء" وتحديداً مع تصاعد الخطاب الشعبوي. ويضرب مثلاً بفرنسا، حيث تُعامَل المظاهر الدينية الإسلامية كتهديد لوحدة الأمة، رغم أن دساتيرها تنص على حرية المعتقد. ويشير إلى أن المفارقة تكمن في أن تلك الدول التي تدّعي نشر التعددية في الخارج تسعى لطمس التنوع داخلياً.

ويضيف أن الديمقراطيات الغربية تعاني أزمة بنيوية، وليست "تتعرض لتهديد الإسلام" كما يُروّج، بل تُقوَّض من الداخل على يد الحركات الشعبوية، في حين أن المسلمين من الجيلين الأول والثاني بأوروبا في الغالب يؤمنون بالديمقراطية ويريدون الاندماج، لكن مع احترام حريتهم الدينية.

ويلفت روا إلى أن المسلمين في الغرب يطالبون بحقوق مضمونة في الدساتير، مثل الحق في المظاهر الدينية أو الغذاء الحلال، لكن يُواجَهون بالرفض. ويقول إن المسلمين ليسوا ضد الديمقراطية، ولكن يُصوَّرون كذلك في الخطاب السياسي الغربي، ويجري استثمار هذا الخطاب لأغراض سياسية داخلية.

إعلان

ويشير إلى أن الفارق في التعامل مع الأحزاب السياسية الإسلامية، مقارنة بالأحزاب القومية المتطرفة الصاعدة في أوروبا، مثل "رالي الوطنية" في فرنسا و"البديل من أجل ألمانيا" يُظهر الكيل بمكيالين، إذ يُحرَّم على الإسلاميين ممارسة السياسة، في حين يُسمَح لليمين المتطرف بالتمدد في السلطة.

أزمة الاستشراق ومأزق الغرب

يختتم روا بأن العالم الغربي يعيش اليوم صراعاً داخلياً بين مبادئ الكونية ونزعات الهوية والإقصاء. ويقول إن النزاع لم يعد بين حضارتين، كما ذهب صموئيل هنتنغتون، بل بين الهوية والمبدأ، في ظل تحوّل الإسلام في المخيال الغربي إلى تهديد جوهري لا مجرد اختلاف ثقافي أو ديني.

ويخلص المفكر والأكاديمي الفرنسي إلى أن مأزق الغرب يكمن في فشله في تحقيق المساواة في الداخل، وازدواجية معاييره بالخارج، وتراجع إيمانه بقيمه المؤسسة نفسها، وعلى رأسها الديمقراطية.

مقالات مشابهة

  • أوليفييه روا: الغرب لا يرى الإسلام مشكلة ثقافية بل كتهديد وجودي وحقوق الإنسان استُخدمت أداة هيمنة
  • رئيس الجامعة اليابانية يفتتح معرض طلاب كلية الفنون والتصميم 2025
  • ضياء رشوان: مظاهرات تل أبيب كشفت ازدواجية الإسلام السياسي ومخططاته ضد مصر
  • دوبلاج وكارتون.. مواهب صاعدة من معهد الفنون المسرحية في معكم منى الشاذلي
  • الشورى يدعو في جنيف إلى تفعيل دور البرلمانات في صون القيم الإنسانية
  • عبدالله آل حامد: نموذج إعلامي جديد يُعلي القيم الإنسانية
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • تحذير .. مشاهدة البنات في سن المراهقة لإعلانات منتجات التجميل تعرضهم لهذه المشاكل
  • بعد زلزال كامتشاتكا.. ماذا نعرف عن أرض الجمال والنار
  • البحوث الإسلامية: إصلاح ذات البين عبادة تتفوق على الصيام والصدقة