وثيقة.. البرلمان يطالب السوداني بإحالة المسؤولين إلى التقاعد.

المصدر: شفق نيوز

كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية الكورد الفيليون الكورد الفيليون خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير الكورد الفيليون مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي

إقرأ أيضاً:

اللقاء القاتل.. وثيقة تاريخية تكشف التوتّر بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط

صدر حديثًا عن دار "نوفل" (هاشيت أنطوان) كتاب "اللقاء القاتل" لمؤلفه هادي وهّاب، ليُشكل إضافة نوعية للمكتبة التاريخية والسياسية. ولا يقتصر العمل على كونه مجرد كتاب، بل هو وثيقة تاريخية بامتياز، تُنشر للمرة الأولى، وتُلقي الضوء على محضر الجلسة الأخيرة بين الرئيس السوري حافظ الأسد والزعيم اللبناني كمال جنبلاط، التي عُقدت بتاريخ 27 آذار 1976، أي قبل عام تقريبًا من اغتيال جنبلاط.

يؤكد المؤلف في مقدمته أنه اختار أن يقرأ هذه الوثيقة قراءة توثيقية تاريخية لا تحليلية أو تأويلية، وأن هدفه كشف ما جرى "دون فلترة"، لما لهذا اللقاء من أثر بالغ في مجرى التاريخ اللبناني والسوري. ويبدأ الكتاب بمقدمة تاريخية قصيرة. ويتضمن المحضر الكامل المفرغ للجلسة التي امتدت نحو 8 ساعات ونصف من الحوار المتواصل. ثم يختم بخاتمة تحليلية قصيرة تضع اللقاء في سياقه الأوسع.

يأتي هذا اللقاء في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، عقب التدخل العسكري السوري في لبنان، وهو ما يضفي عليه أهمية قصوى. إنه يوثق لحظة فارقة في التاريخ اللبناني والسوري، ويُبرز عمق الخلافات الفكرية والسياسية بين قائدين محوريين. من جهة، كان كمال جنبلاط رائدًا في فكره، يسعى إلى تغيير شامل للنظام الطائفي اللبناني، ساعيًا نحو دولة علمانية اشتراكية تقدمية. ومن جهة أخرى، كان حافظ الأسد ينظر إلى التدخل السوري من منظور الضرورة القومية، لكنه حرص على احتواء النزاع ومنع أي تغييرات جذرية قد تهدد التوازنات القائمة في المنطقة. هذا التباين في الرؤى يُشكل جوهر الصراع الذي يكشفه المحضر.

إعلان مضامين اللقاء

امتد اللقاء لنحو ثماني ساعات، وحضره إلى جانب جنبلاط كل من عباس خلف، محسن دلول، ورياض رعد. دار النقاش حول قضايا حساسة ومصيرية، في مقدمتها الوضع العسكري المتدهور في بيروت والجبل، وتداعيات تمرد الضباط اللبنانيين والانقسامات الحادة داخل الجيش اللبناني.

قدم جنبلاط خلال اللقاء رؤيته الجريئة لمستقبل لبنان، والتي تضمنت إلغاء الطائفية، تطبيق العلمانية، الإصلاح الزراعي، تأميم المصارف، وإنشاء مجلس نيابي مزدوج. لم يتوقف عند هذا الحد، بل وجه انتقادات حادة للنظام التعليمي والتربوي، مُشيرًا إلى غياب القيم في الجيل الجديد. في المقابل، عبر الأسد عن رفضه القاطع لأي انقلاب سياسي كامل على النظام، مُشككًا في إمكانية نجاح نظام اشتراكي كامل في لبنان. من جانبه، أطلق جنبلاط تحذيرات واضحة من بقاء الطائفية، مُشددًا على أن الجيل الجديد لن يُمكن احتواؤه دون إصلاحات جذرية.

يؤكد المؤلف هادي وهاب في مقدمته أنه اختار أن يقرأ هذه الوثيقة قراءة توثيقية تاريخية لا تحليلية أو تأويلية (الجزيرة)

اتسمت النبرة بين الرجلين بالصراحة المفرطة والصدامية. بدا جنبلاط متحمسًا ومؤمنًا بثورته الاجتماعية والسياسية، بينما كان الأسد براغماتيًا، هادئًا، لكنه حاسمًا في رفضه للفوضى. كلا الطرفين أدركا أن المسار مفتوح على كل الاحتمالات، بما في ذلك الحرب والانفجار الكامل، مما يعكس عمق التوتر والمخاطر التي كانت تكتنف تلك المرحلة.

يُعد "اللقاء القاتل" مصدرًا نادرًا لفهم اللحظة الحاسمة التي سبقت اغتيال كمال جنبلاط. يعرض الكتاب فكر جنبلاط بوضوح غير مسبوق: فكر اشتراكي، علماني، إصلاحي جذري، وناقد للتقاليد. كما يكشف كيف حاول الأسد احتواء جنبلاط، دون كسره أو التورط علنًا في صدام مباشر معه، وهو ما يُلقي الضوء على تعقيدات العلاقة السورية-اللبنانية.

إعلان

يحمل اللقاء دلالات عميقة حول توازنات القوى العربية في تلك الحقبة، والخلفيات المعقدة للصراعات اللبنانية-السورية-الفلسطينية التي كانت تتشابك في المنطقة.

يتجاوز هذا الكتاب مجرد سرد الأحداث؛ إنه يعيد تأطيرها ضمن سردية أوسع عن مأساة التغيير في المجتمعات الطائفية، واصطدام الثورة بالواقع الإقليمي. لهذا، يُصنف "محضر اللقاء الأخير" من أهم الكتب السياسية التوثيقية التي صدرت حديثًا عن لبنان وسوريا. يقدم الكتاب رؤية شاملة وعميقة لجزء بالغ الأهمية من التاريخ العربي الحديث، ويُعتبر مرجعًا لا غنى عنه للباحثين والمهتمين بالصراعات الإقليمية وتحولات الأنظمة السياسية.

صراع المشاريع

يُعد محضر اللقاء الأخير هذا وثيقة تاريخية وسياسية لا غنى عنها لفهم التعقيدات التي أحاطت بلبنان وسوريا في منتصف السبعينيات. يكشف الكتاب عن صراع محموم بين مشروعين سياسيين وفكريين متناقضين، يمثلهما الرئيس السوري حافظ الأسد والزعيم اللبناني كمال جنبلاط. يلقي هذا التحليل المفصل الضوء على المحاور الرئيسية للكتاب، مبرزًا وظيفتها السياسية والفكرية.

لم يكن اللقاء بين الأسد وجنبلاط مجرد لقاء بين صديقين يتبادلان وجهات النظر، بل كان مواجهة بين مشروعين سياسيين متناقضين في لحظة مفصلية من الحرب الأهلية اللبنانية، وبعد عام من التدخل العسكري السوري. كان لبنان غارقًا في صراع بين القوى الوطنية اليسارية المدعومة فلسطينيًا، والقوى اليمينية المسيحية المدعومة أميركيًا. وفي هذا المشهد المضطرب، كانت سوريا تسعى لفرض "الاستقرار بالقوة" بما يتوافق مع مصالحها الإقليمية. هذا السياق يقدم الخلفية الضرورية لفهم أن جنبلاط كان يسعى لإصلاح بنيوي شامل، بينما كان الأسد حريصًا على منع انهيار النظام القائم، مما يعكس تباينًا جذريًا في الأولويات والأهداف.

يُبرز المحضر التوتر الفكري والسياسي بين الأسد وجنبلاط (الجزيرة)

يُبرز المحضر التوتر الفكري والسياسي بين الرجلين. جنبلاط كان ينظر لنفسه كقائد ثورة وطنية واجتماعية، هدفها إلغاء الطائفية وبناء دولة حديثة ديمقراطية اشتراكية. كانت لغته مندفعَة، أقرب إلى الخطابة الثورية. في المقابل، كان الأسد براغماتيًا، يرى أن الحفاظ على استقرار النظام الإقليمي مقدم على أي مشروع مثالي. استخدم الأسد لغة هادئة لكن حاسمة، مما يكشف عن مدى تحفّظه على المشروع التغييري الجنبلاطي، رغم تقاطعهما في العداء لإسرائيل والولاء لفكرة "العروبة". هذا المحور يبين بوضوح حدود التعاون بين الحليفين السابقين.

إعلان رؤية جنبلاط الثورية

ركز جنبلاط بقوة على ضرورة إلغاء الطائفية السياسية، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية من خلال قانون انتخاب نسبي، وإلغاء الامتيازات الطبقية والطائفية. حتى أنه طرح نظامًا برلمانيًا مزدوجًا يُنتخب من النقابات والطبقات العاملة، شبيهًا بنظام النواب والشيوخ. هذا المحور يُظهر البعد الثوري لرؤية جنبلاط، ويؤكد أنه لم يكن مجرد قائد ميليشيا أو زعيم طائفي، بل صاحب مشروع دولة حقيقي. في المقابل، لم يبدُ الأسد متحمسًا لهذا المستوى من التغيير، وربما رآه خطيرًا على البنية الاجتماعية الحليفة له في لبنان.

يتطرق اللقاء إلى الانشقاقات داخل الجيش اللبناني، ولا سيما انشقاق أحمد الخطيب وتشكيله "جيش لبنان العربي". هذا النقاش يسلط الضوء على أزمة القيادة والانضباط والطابع الطبقي داخل الجيش، الذي تحول إلى صورة مصغّرة عن الدولة المفككة نفسها. هذا المحور يرصد ديناميات التفكك في مؤسسات الدولة اللبنانية، ويقدم قراءة سوسيولوجية مبكرة عن الدور الذي ستلعبه الميليشيات في مستقبل لبنان.

المشهد الإقليمي وحسابات القوى الكبرى

ناقش اللقاء خريطة العلاقات الدولية في لبنان، وخاصة العلاقة المعقدة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد عبر جنبلاط عن خشيته من أن يكون الوجود السوري ذريعة لتدخل إسرائيلي، بينما أشار الأسد إلى أن كل شيء مرهون بـ"لعبة دولية كبرى"، وأن أميركا كانت تسعى لمعاقبة الموارنة على تمردهم الرمزي. هذا المحور يُظهر أن القرار اللبناني لم يكن محليًا بالكامل، وأن سوريا كانت تحاول الاستفادة من الفراغ الإقليمي لفرض واقع سياسي جديد، بينما جنبلاط كان يتعامل مع الحسابات الدولية كعنصر ثانوي في صراعه الداخلي.

يفتح كمال جنبلاط نقاشًا عميقًا حول غياب التربية المدرسية، واختفاء التراث، وهيمنة السوق واللغة المنفلتة. ينتقد انعدام القيم، ويعزو انحراف الشباب إلى ذلك، رغم انخراطهم في معركة نضالية. هذا المحور يُظهر جنبلاط هنا كرجل تربية وفكر وفلسفة، يرى في أزمة التعليم مدخلًا للخراب، وفي غياب المتنبي وأبي فراس إشارة إلى انقطاع جذري بين الهوية والتنشئة.

نموذج من المحضر المحضر المسرب بخط يد كاتبه آنذاك (الجزيرة) الإصلاح أم الحسم العسكري؟

كما يدور النقاش حول ما إذا كانت "ثورة اجتماعية" ممكنة من دون صدام، أم أن العنف أصبح طريقًا لا مفر منه. الأسد يعارض الحلول الراديكالية ويخشى من الانفجار، فيما جنبلاط لا يستبعد خيار "الحسم العسكري" لتحقيق الإصلاح. هذا الحوار يضع الإصبع على جذر المعضلة اللبنانية – السورية: هل يُصلح النظام من الداخل أم يُقلب من الخارج؟ الأسد يراهن على التدرج، جنبلاط على الانقلاب السياسي والاجتماعي الكامل.

إعلان

يطالب جنبلاط بوضوح بالزواج المدني، وعلمنة النظام، وإلغاء الحصص الطائفية، ويعرض شواهد من داخل الأوساط المسيحية المؤيدة لذلك. يطرح هذه المطالب كمخرج تاريخي، لا مجرد أمنية. هذا المحور يوضح تفوق جنبلاط فكريًا على خصومه الطائفيين، وتأكيده أن العلمانية مطلب شبابي وشعبي. لكن هذا الطموح اصطدم بواقع سياسي طائفي مقفل.

في نهاية اللقاء، يعبر الأسد عن قلقه من "الاندفاع" الجنبلاطي، ويرى أن المبالغة في الطموحات قد تودي بالمشروع كله إلى الفشل. يعتبر أن المصلحة القومية تتطلب التروي، وأنه لا يمانع في التغيير بشرط ألا يكون شاملًا. يُختتم اللقاء على نغمة تحذيرية، وكأن الأسد يُنذر جنبلاط بمصيره، أو على الأقل يعبر عن فقدان الثقة بينهما. وهذا يفسر لاحقًا لماذا لم تحبط سوريا عملية اغتياله أو حتى تدينها بقوة.

يُقدم "محضر اللقاء الأخير" بذلك ليس فقط سجلًا لوقائع تاريخية، بل مادة ثرية يمكننا أن نرى فيها تشابك الرؤى، وتصادم المشاريع، والظروف المعقدة التي شكلت مسار الأحداث في المنطقة. إنه دعوة للتفكير في التحديات المستمرة التي تواجه المجتمعات الطائفية، وحدود التغيير الثوري في وجه المصالح الإقليمية والدولية.

صورة الأسد

من خلال القراءة الدقيقة لحوارات حافظ الأسد في "اللقاء القاتل"، تتكشف لنا شخصية مركّبة، مدروسة، واقعية حتى حدود البرود، ومعبّرة عن ذهنية رجل أمن يرتدي عباءة الزعيم القومي. إنه ليس مجرد شخصية سلطوية تقليدية، بل شخصية سياسية صُنعت من طبقات متعددة من البراغماتية، الخبرة العسكرية، الحس بالمخاطر، والخوف من الفوضى المقنّعة بثوب الإصلاح.

وراء نبرة الأسد المتزنة، تلوح شخصية رجل أمني بامتياز. لديه معلومات دقيقة عن كل شيء (الفرنسية- أرشيف)

الأسد يبدو مع "الواقعية السياسية"، يرفض الحسم العسكري الشامل الذي يطرحه جنبلاط، ويرى أن التغيير يجب أن يتم تدريجيًا، وأن لكل بلد ظروفه. لا يتحدث بلغة اليساري المؤمن، بل بلغة المهندس السياسي: "هل تستطيعون فرض نظام اشتراكي كامل؟ ما هو الثمن؟ وما المكاسب؟ وهل هذا مقبول دوليًا؟".

إعلان

وقد لا يظهر أن الأسد يُعادي الثورات، لكنه حتما لا يثق بها. بل يرى أنها تؤدي إلى فوضى، ولا يستطيع أن يتحكم بمنطقها. كما أن وراء نبرة الأسد المتزنة، تلوح شخصية رجل أمني بامتياز. لديه معلومات دقيقة عن الفصائل، عن تحركات الميليشيات، عن المزاج الدولي، وحتى عن شكاوى المسيحيين من الكنيسة. إنه يعرف أسماء الضباط، يتحدث عن الصحفيين، عن المخابرات الأميركية، عن "ماذا قال كسينجر". كل شيء مراقب، مدروس، محسوب. ويبدو تماما أن الأسد لا يرى العالم كما يراه الحالمون. إنه يرى الخيوط، التحالفات، المصالح، ويتصرّف بناء عليها.

ورغم حديثه الظاهري عن "العروبة" و"الشعب الواحد"، إلا أن الأسد يُقرّ ضمنيًا أن تدخله في لبنان لم يكن فقط بدافع قومي، بل لدرء خطر داخلي، ولمنع تحول لبنان إلى ساحة فالتة تهدد سوريا.
يقولها بوضوح: تدخلنا رغم معرفتنا بالمخاطر، لأن المصلحة اقتضت ذلك. هو لا يُنكر العاطفة تمامًا، لكنه يراها تابعة للمصلحة، لا سابقة لها.

وأخيرا فإن هذا الرئيس الذي انقلب على رفاقه القدامى، يمتلك حسًا ساخرًا وسلطويًا في آن. فالأسد يسخر من خصومه، يمازح محدثيه أحيانًا، لكنه لا يترك لحظة دون أن يُذكّر بأنه هو من بيده القرار. لم يكن ديكتاتورًا فظًا في هذه الجلسة، لكنه أدار الحوار بأسلوب من يعرف أنه الأقوى. إنه لا يرفع صوته، لكنه يُشعرك أن أي تجاوز للحدود سيُكلف غاليًا. هذه ليست ديمقراطية حوار، بل إدارة محكمة لزمام الأمور.

صورة جنبلاط

في المقابل، فإن صورة الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في محضر اللقاء الأخير مع حافظ الأسد، تكشف عن شخصية نادرة في التاريخ السياسي العربي، فهو زعيم لا يساوم، حالم حتى في حضرة الجلاد، متكلّم حتى الرمق الأخير، ومقتنع بأن الكلمة قد تكون أكثر مضاءً من الرصاصة.

ويمكن تلخيص ملامح شخصيته كما تظهر في الحوار وفق عدة محاور، أهمها أنه يتحدث بلغة القائد الذي يرى نفسه على رأس حركة تغيير تاريخية كبرى. لا يخجل من الحلم الكبير، وعلى رأسه إلغاء الطائفية السياسية وإقامة نظام علماني وبناء جيش وطني وتحويل لبنان إلى "هونغ كونغ اشتراكية".  إنّه يطالب ليس فقط بتغيير النظام، بل بتغيير البنية الذهنية والاجتماعية والثقافية. وهذه طموحات لا يطلقها سياسي تقليدي، بل قائد يقرأ نفسه في التاريخ.

إعلان

كما ويتكلم جنبلاط وكأن الثورة انتصرت بالفعل. يؤمن أن الشباب تغيّر، أن الناس مع العلمنة، أن المسيحيين تعبوا من الإكليروس الكهنوتي، وأن بيروت يمكن أن تسقط، وأنه يمكن فرض نظام جديد بقوة السلاح وشرعية الجماهير. وهذه القناعة، التي تمتلئ بالحماسة، تُظهِره كزعيم تخطى الحسابات الواقعية، وأصبح أسيرًا للمشروع الذي تبنّاه. نحن نرى أن جنبلاط في حضرة الأسد لم يكن يتفاوض، بل كان يُنظّر، يُفكّر، يُعلّم، يُعاند، يُصرّ على الحق، حتى وإن علم أنه قد يُكلّفه حياته. فيبدو كأنه فيلسوف اجتماعي لا مجرد زعيم درزي. وهو لا يختزل لبنان في طائفة أو منطقة، بل يطرحه كمختبر للعروبة التقدمية. هنا يخرج جنبلاط من عباءة الزعيم الطائفي، ويظهر كأنه أستاذ في معهد نهضوي عربي واسع.

كمال جنبلاط صادق حتى التهور، فهو لم يكن يتحدث إلى حافظ الأسد كما يتحدث سياسي تابع أو مرتجف (مواقع التواصل)

كما أننا نرى وجها أخر في جنبلاط، فهو متمرد أخلاقي أكثر منه عسكري، ورغم أنه لا يمانع في الحسم المسلح لتحقيق أهدافه، فإن جذوة التمرد الأخلاقي فيه تطغى على أي نزعة دموية. إنه ينتقد الطبقية، يهاجم الامتيازات، يطالب بعدالة اجتماعية لا مجرد سلطة. لقد كان يريد أن يُؤسّس شرعية جديدة تقوم على المواطنة لا المِلّة، على الانتماء للناس لا للزعيم.

ونلاحظ أيضا أن جنبلاط صادق حتى التهور، فلم يكن يتحدث إلى حافظ الأسد كما يتحدث سياسي تابع أو مرتجف. بل كان يتكلم بنديّة، وربما بقدرٍ من الغرور الفلسفي.  لقد طرح أفكارًا يعلم مسبقًا أنها ستُغضب دمشق، لكنه أصرّ عليها.  وهذا يشير إلى أنه لم يُفكّر بما يجب أن يُقال، بل قال ما يجب أن يُفكَّر به. وهنا مأساة الرجل. إنه مفكر سياسي طوباوي أراد أن يصنع ثورة أخلاقية واجتماعية وثقافية في بلد لم يكن مستعدًا لها. كما أنه زعيم يساري قومي علماني آمن بأن تغيير لبنان سيكون بوابة لتغيير العرب. وهو أيضا فيلسوف ضلّ طريقه إلى ميدان الحرب، فقتله التاريخ قبل أن يقتله الرصاص.

إعلان وثيقة تفتح التاريخ على مصراعيه

لم يكن اللقاء بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط مجرد اجتماع سياسي عابر، بل محطة كاشفة في تاريخ العلاقة بين سوريا ولبنان، وبين منطق الدولة ومنطق الثورة. تشكل الوثيقة شهادة فريدة على لحظة سياسية فارقة في تاريخ المشرق العربي، حيث تتواجه رؤيتان متعارضتان لمستقبل لبنان والمنطقة: رؤية الأسد المستندة إلى الواقعية البراغماتية وإدارة التوازنات. ورؤية جنبلاط المبنية على الإصلاح الجذري والتغيير البنيوي.

هذه الأحاديث تضع القارئ مباشرة داخل غرفة القرار العربي حين كان الدم يسبق البيان. لقد انتهى اللقاء دون اتفاق. لكن المحضر ترك ما هو أثمن من الاتفاقات الظرفية: شهادة مكتوبة على مفترق طرق، بين زعيم أراد أن يصوغ مستقبلًا جديدًا، ورئيس كان يسعى إلى ضبط حاضرٍ متفجّر. والنتيجة، كما نعرف اليوم، كانت خروج جنبلاط من المعادلة، وبقاء الأسد لعقود، محاطًا بما تبقّى من تلك الجلسة: الحذر، والسلطة، والصمت الطويل.

مقالات مشابهة

  • إيران تعلن حالة الإنذار السيبراني تحسباً لهجمات إلكترونية (وثيقة)
  • اللقاء القاتل.. وثيقة تاريخية تكشف التوتّر بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط
  • الصبيحي يحذر .. ستواجهون غضباً اجتماعياً إذا استمرّت سياسة التقاعد المبكر القسري.!
  • كرامة مستمرة بعد التقاعد.. حقوق غير قابلة للتنازل لكبار السن في قانون جديد
  • قرار قضائي بحجز أموال نادي الحسين إربد / وثيقة
  • المشري: بعض المسؤولين الليبيين يحاولون استغلال “قافلة الصمود” والقفز عليها إعلامياً
  • نائب:السوداني وحكومته باعوا العراق بثمن بخس
  • نائب:حكومة السوداني ضد الشعب
  • صوفان: الثأر والانتقام لن يكونا سبباً في تحقيق العدالة الانتقالية بل سببٌ في ضياع المسؤولية وهروب المسؤولين عن ارتكاب المجازر بحق الشعب السوري
  • زهور حميش مديرةً لقناة الثقافية وبنشريف يحال على التقاعد