المثقف في عصر ما بعد السرديات: بين إرادة التأمل وسلطة الضرورة
تاريخ النشر: 2nd, February 2025 GMT
إبراهيم برسي
في ظلّ هذا العالم المُبتلى بالاستلاب، حيث تتحلّل السرديات الكبرى أمام يقينها المُتهافت، ينهض المثقف بوصفه كائنًا يتأرجح بين وطأة التاريخ وعبثيّة الحاضر. ليست المسألة في كينونة المثقف، بقدر ما هي في هشاشة تموضعه؛ فهل هو قارئ للخراب، أم محلّل لأبعاده؟ وهل يُعيد تدوير الجيف الأيديولوجي السائد، أم يرصده بوعي المُتفرّج دون أن يُغادر حافّة التأمّل؟
في أفق ماركس، المثقف ليس كيانًا متعاليًا، بل فاعلٌ في شبكات الإنتاج، متورّطٌ في البنية، حتى حين يدّعي الحياد.
إنه، كما يقول، “يُنتج الأفكار المهيمنة التي تُعيد إنتاج سلطة الطبقة المهيمنة”، لكنه لا يتجاوز ذلك إلى ممارسة الفعل، مكتفيًا بإعادة إنتاج الخطاب نفسه الذي يدّعي نقده. إنه وعيٌ ينسج حول ذاته شرنقةً من المفاهيم، لكنه وعيٌ بلا عضلات، بلا امتداد في جسد الواقع، كأنّه كيانٌ عالقٌ في مساحةٍ نظرية لا يجد جسدًا يُجسّدها في الواقع.
لكن، في قلب هذا الاغتراب، تنبثق شروخُ الاحتمال. غرامشي، في استبصاره العابر للحقب، يُؤكّد أنّ “كل إنسان هو مثقف، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف”، وكأنّما يُشير إلى هذه المفارقة: المثقف الذي اختار أن يكون فكرةً دون أثر، تحليلًا بلا تدخّل، صوتًا بلا صدى في الأرض.
هو ليس مُفسّرًا للعالم، ولا صانعًا لتحوّله، بل مُؤرّخٌ لمأزقه، ناقدٌ لانسداداته، لكنه غير معنيٍّ بتغيير وجهته، مُستريحٌ في موقعه الرمادي، حيث لا يُختبر أثر الفكر إلّا في حدود الصياغة، لا في الفعل ذاته! وكأنّ النقد أصبح ممارسةً مغلقة، تستهلك ذاتها في دوائر لا تنتهي، دون أن تخترق جدار الواقع لتُعيد تشكيله.
غير أن ما بعد الحداثة، وهي تفكيكٌ بلا ردم، أزاحت المثقف من موضعه الصلب إلى ضباب الاحتمالات. صار مُنهكًا بالأسئلة، غارقًا في تفكيك السرديات، حتى بات عاجزًا عن الإمساك بخيط الفعل.
فهل المثقف اليوم أكثر من محض مرآةٍ تعكس صراعاتٍ لا يملك سوى تأمّلها؟! ألَم يصبح، كما يقول بودريار، نسخةً عن نسخة، مُحاكيًا لسلطةٍ يظن أنّه ينقضها، لكنه في النهاية لا يفعل أكثر من إعادة تدوير وجودها؟
ومع ذلك، ألا تكمن في هذا العجز المزعوم بذور مقاومةٍ أخرى، مقاومةٌ لا تتجلّى في الممارسة التقليدية، بل في زعزعة أنظمة المعنى ذاتها، في إعادة تشكيل الخيال السياسي الذي يُملي على الواقع شروط تحوّله؟!
الوجع هنا ليس وجع المثقف ذاته، بل وجع انزلاق الفكر إلى مواضعاتٍ فارغة، إلى التفاهة التي تتزيّن بلغةٍ نقدية مستأنسة، إلى التنظير الذي فقد وظيفته الأولى: زعزعة الثابت.
لكن، وسط هذا الركام، لا يزال السؤال مُعلّقًا في الهواء: هل المثقف هو من يُحدث الفارق، أم من يُعيد توصيف الفجوة؟! وهل يقف على حافّة الانخراط، أم اكتفى بصناعة الوصف، تاركًا التغيير لأولئك الذين لا يملكون ترف التردّد؟!
وإذا كان المثقف قد تراجع عن الفعل، فمن الذي يملأ الفراغ؟! هل تحلّ الدعاية مكان النظرية؟! هل تملأ الشعارات مكان التحليل؟! وهل انتهت وظيفة الفكر النقدي ليبدأ عصر تكرار الصدى، حيث تُستهلك المفاهيم بقدر ما تستهلكها الأنظمة نفسها؟!
لكن، إذا كان المثقف قد فقد قدرته على الفعل، فمن الذي أخذ زمام المبادرة؟! هل انتقل الدور إلى الحركات الجماهيرية العفوية، إلى الشارع الذي لم يعُد ينتظر تبريرًا نظريًا ليغضب، بل يتحرّك بناءً على الضرورة؟!
وهل يُمكن للفكر أن يستعيد وظيفته في ظلّ عالمٍ باتت فيه السرعة والاختزال يُلخّصان كلّ شيء، حتى التغيير نفسه؟!
إن كان المثقف عاجزًا عن تجاوز عتبة التحليل، فهل انتهت وظيفته؟! أم أن التغيير لم يكن يومًا مهمّة الفكر، بل مهمّةٌ أخرى تُمارَس حيث لا تصل الكلمات، حيث ينقطع التنظير لصالح ضرورةٍ أكثر قسوة؟!
وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا يعني أن الفكر لم يعُد إلّا صدى لما يحدث، لا مُحرّكًا له؟! أم أن المثقف، حتى في هامشيّته، لا يزال يحتفظ بسلطةٍ خفيّة، تنكشف حين تتشظّى السرديات الكبرى، وحين يصبح السؤال أهمّ من الجواب؟!
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
السديس: الحرمين منبع الهدايات وتحصين الفكر صمام الأمان للمجتمعات
خصصت رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي ممثلة في وكالة الشؤون الفكرية والتوعوية مسارًا إثرائيًا منوعًا هو الأكبر من نوعه في موسم الحج؛ لتعزيز التسامح وتبني قيم الوسطية وتحصين الفكر، وفق الخطة التشغيلية لموسم حج هذا العام انطلاقًا من حرصها على استثمار الموسم في توعية ضيوف الرحمن ونشر الوسطية والاعتدال، وتحقيق التوعية الفكرية بأساليب علمية معاصرة.
ودشن رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الدكتور عبدالرحمن السديس بحضور إمام وخطيب المسجد الحرام، والمشرف على التوعية الفكرية بالمسجد الحرام الدكتور ياسر الدوسري الدورة العلمية الفكرية بعنوان “تحقيق الآمال في أثر المناسك على تعزيز قيم الوحدة والتسامح والوسطية والاعتدال”، مؤكدًا أن تعزيز ثقافة التسامح يُعد من أبرز استراتيجيات الرئاسة الدينية، منطلقًا من رسالة الحرمين الشريفين الوسطية العالمية.وقال السديس “إن تكريس التسامح وتحصين الفكر هما صمام الأمان للمجتمعات، وطوق النجاة الذي يجب الاعتناء به في تحصين الشباب والشابات من كل هجوم فكري أو ثقافي أو لوثات إرهابية، تهز مبادئهم وتخدش قيمهم، وتمس ثوابتهم”.
وأردف بقوله: إن الرئاسة خصصت مسارًا إثرائيًا لتعزيز قيم التسامح في الموسم عبر مجموعة من المبادرات الفكرية والتوعية النوعية؛ لترسيخ التسامح والاعتدال، وإثراء تجربة ضيوف الرحمن، وتعزيزًا لقيم الوسطية ونبذ التطرف والإرهاب والانحلال. مؤكدًا أن الحرمين الشريفين هما منبع النور والهدايات وقيم التسامح التي تُثري البشرية، ومشددًا على أن دين الإسلام يدعو إلى التآخي والتسامح والتعايش بين الأفراد.
وثمن السديس جهود الدكتور ياسر الدوسري؛ في إثراء تجربة القاصدين وضيوف الرحمن وتعزيز قيم التسامح والاعتدال من خلال حزم المبادرات التي أطلقتها وكالة الشؤون الفكرية والتوعوية التي تعد الأكبر والأضخم للرئاسة في موسم الحج.وأعدت وكالة الشؤون الفكرية والتوعوية مسارًا نوعيًا لتعضيد قيم التسامح بحزم مبادرات إثرائية، وتعزيز قضايا الأمن الفكري وتأصيلها شرعيًا؛ لغرس العقيدة الصحيحة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وترسيخ منهج الوسطية والاعتدال، وإبراز محاسن الدين القويم؛ لحماية الفرد والمجتمع والأمة؛ وذلك في إطار حرص الرئاسة على تحقيق تطلعات القيادة الرشيدة -أيدها الله-، وتطوير منظومة العمل الإثرائي الفكري، بما يواكب #رؤية_المملكة_الطموحة_2030، ويحقق أهدافها في خدمة الحرمين الوسطية، ونشر رسالة الإسلام السمحة عالميًا.
جريدة المدينة
إنضم لقناة النيلين على واتساب