قرأتُ مؤخرًا في “Harvard Business Review” ، مقالًا بعنوان “لماذا لا ينبغي أن تكون Deep seek “ديب سيك” مفاجأة؟” للكُتاب بريثويراج (راج) شودري، ناتاراجان بالاسوبرامانيان ومينغتاو شو، ووجدت نفسي أمام مثال جديد على السباق المحموم بين الدول والشركات في ميدان الذكاء الإصطناعي، هذا السباق الذي يبدو أنه بلا نهاية.
تتناول المقالة صعود شركة “ديب سيك” الصينية، التي أطلقت نموذجها الجديد في 20 يناير، والذي فاجأ الجميع بمنافسته لنماذج الذكاء الإصطناعي الأمريكية المتقدمة مثل “أوبن أيه آي” و”ميتا”، رغم كونه أصغر حجمًا وأقل تكلفة من حيث التدريب والتشغيل. لكن في الحقيقة، هذه ليست مفاجأة بقدر ما هي انعكاس لنظرية “الابتكار التعطيلي”، التي تشرح كيف يمكن لحلول أرخص، وأقل تقدمًا أن تُحدث ثورة في السوق عندما تكون جيدة بما يكفي لعدد كبير من المستخدمين. ومع أن البعض اعتقد أن الهيمنة الأمريكية على الذكاء الإصطناعي ستظل غير قابلة للمنافسة، إلا أن هذا الحدث أعاد خلط الأوراق، متسببًا في هزة في أسواق التكنولوجيا والطاقة.
لكن جوهر الأمر ليس في كون “ديب سيك” نموذجًا صينيًا فقط، بل في كيفية ظهور مثل هذه النماذج، وكيفية تأثيرها على المستقبل. تعتمد النماذج الصينية على تقنيات أقل تكلفة وأجهزة أضعف مقارنة بالنماذج الأمريكية، لكنها تعوض ذلك بكفاءة معمارية متقدمة، واستخدام واسع للنماذج مفتوحة المصدر، كما يشير المقال. وهذا هو بيت القصيد، حيث تتبنى الصين استراتيجية تعتمد على تقليل التكلفة، وزيادة الكفاءة بدلاً من السعي وراء التكنولوجيا الأكثر تقدمًا بأي ثمن. وكنتيجة لذلك، أصبحت الشركات الصينية قادرة على تقديم نماذج ذكاء إصطناعي ذات أداء مقبول، ولكن بتكلفة أقل بكثير، ممّا يجعلها خيارًا جذابًا للشركات والمؤسسات التي تبحث عن حلول أرخص دون الحاجة إلى أقوى النماذج الأمريكية.
يشير الكُتاب الى تطور صناعات أخرى من قبل، تمامًا كما شهدنا تفوق مصانع الفولاذ الصغيرة التي كانت تُنتج أنواعًا أرخص من الفولاذ في منافسة المصانع الضخمة التي كانت تركز فقط على المنتجات عالية الجودة. نفس السيناريو يتكرر هنا، حيث بدأت الصين باستهداف التطبيقات المتخصصة والأقل تكلفة، لكنها في النهاية قد تنتقل إلى الهيمنة على المجالات الأوسع، ممّا يشكل تهديدًا حقيقيًا للهيمنة الغربية في هذا المجال. هذا التوجه لا يقتصر على الصين وحدها، بل إن نماذج أصغر تعتمد على بيانات وموارد أقل قد تبدأ قريبًا بمنافسة النماذج الكبيرة لدى كل من الصين وأمريكا، ممّا قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد التكنولوجي العالمي بشكل كامل.
أمام هذه التطورات، تجد الشركات والمؤسسات نفسها في حيرة: هل تعتمد على النماذج الأمريكية باهظة الثمن أم تتحول إلى النماذج الصينية الأرخص؟ أم ربما تبحث عن حل ثالث يتمثل في الجمع بين عدة نماذج لتقليل المخاطر؟ المقالة تشير إلى أن استخدام عدة نماذج قد يكون الخيار الأفضل من حيث تقليل الاعتماد على مزود واحد، لكن في المقابل، يرفع هذا من مخاطر الأمن السيبراني، خاصة عندما يتعلق الأمر بتبادل البيانات بين شركات صينية وأمريكية تعمل وفق أنظمة تنظيمية مختلفة تمامًا.
لكن بعيدًا عن الجوانب الاقتصادية والتجارية، يبقى السؤال الأهم: إلى أين يقودنا كل هذا؟ نحن أمام سباق محموم لا يهدف فقط إلى تحقيق التقدم التكنولوجي، بل يبدو وكأنه معركة من أجل السيطرة على العقول البشرية نفسها. إننا نرى الأجيال الجديدة تعتمد على الذكاء الإصطناعي بشكل متزايد، ليس فقط في المهام العملية، ولكن حتى في التفكير واتخاذ القرارات، وهو أمر يثير القلق. ماذا سيحدث عندما يصبح البشر مجرد مستخدمين لهذه النماذج دون امتلاك القدرة على التفكير النقدي أو الإبداع خارج حدود ما تقدمه لهم الخوارزميات؟
هذا ليس مجرد تنافس تجاري بين الشرق والغرب، بل هو تحدٍّ وجودي للإنسان نفسه. قد تكون هناك فوائد عظيمة لاستخدام الذكاء الإصطناعي، لكن متى يصبح ذلك عبئًا بدلاً من نعمة؟ إلى أي مدى يمكننا السماح لهذا السباق بأن يستمر قبل أن نفقد قدرتنا على التحكُّم في المستقبل؟ هذه الأسئلة لا تملك إجابة سهلة، لكنها حتماً تستحق أن نفكر فيها بعمق، لأن ما يبدو وكأنه تقدم قد يكون في النهاية طريقًا إلى مستقبل لا نتحكم فيه، بل يتحكم هو فينا.
jebadr@
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: بدر الشيباني الذکاء الإصطناعی تعتمد على
إقرأ أيضاً:
دول أوروبية تعتمد آلية جديدة لتوريد الأسلحة لأوكرانيا… ستارمر يخطط لمحادثات مع ترامب حول إنهاء النزاع
أفادت صحيفة “واشنطن بوست” بأن دول الاتحاد الأوروبي وضعت آلية جديدة لتقديم الأسلحة لأوكرانيا في إطار دعمها العسكري المستمر.
وتأتي الخطة الأوروبية على أن تقوم الدول الأوروبية بتسليم مخزونها الحالي من الأسلحة والذخيرة إلى كييف، ثم إعادة شراء أسلحة جديدة من الولايات المتحدة لتعويض تلك التي تم إرسالها، مع موافقة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على هذا الترتيب.
الصحيفة أشارت إلى أن هذا يشمل بشكل خاص أنظمة الدفاع الجوي من طراز “باتريوت”، حيث أعلنت ألمانيا استعدادها لتمويل شراء بطاريتي “باتريوت” جديدتين، كما تدرس دول أخرى مثل النرويج تقديم دعم مالي للمساعدة في ذلك.
ويأتي هذا في إطار الاتفاق الذي أعلن عنه ترامب مع حلفاء الناتو بأن الولايات المتحدة ستوفر الأسلحة لأوكرانيا بينما تتحمل الدول الأوروبية تكاليفها.
في سياق آخر، ذكرت صحيفة “صنداي تلغراف” البريطانية أن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يعتزم مناقشة سبل إنهاء النزاع الروسي الأوكراني في لقاء قريب مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المزمع عقده في 28 يوليو في اسكتلندا. من المتوقع أن تركز المحادثات على الطرق الممكنة لتحقيق السلام، بالإضافة إلى استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا.
كما ستتطرق المحادثات إلى اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وبريطانيا والوضع المتأزم في قطاع غزة، حيث يظهر اختلاف واضح بين مواقف ستارمر وترامب.
في حين يدعو ستارمر إلى وقف فوري لإطلاق النار ورفع الحصار عن غزة وتوفير المساعدات الإنسانية، أكد ترامب موقفه الصارم تجاه حركة “حماس”، معتبراً أنها لا ترغب في التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
على صعيد آخر، أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رغبته في تسريع تنظيم لقاء محتمل بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فلاديمير زيلينسكي في إسطنبول، سعياً للتوصل إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أكد أن المناقشات مستمرة حول موعد وشروط اللقاء، مع تأكيد الطرفين الروسي والأوكراني رغبتهما في عقد الاجتماع. ويؤكد أردوغان ثقته الكبيرة في دبلوماسية القادة للتغلب على العقبات.
ومع ذلك، صرح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن الترتيبات الأولية للقاء قد لا تكتمل خلال 30 يوماً، بينما شدد رئيس الوفد الروسي المفاوض فلاديمير ميدينسكي على ضرورة الاتفاق المسبق على بنود الاجتماع، مشيراً إلى أن الهدف هو توقيع اتفاق وليس إعادة مناقشته من الصفر.