أئمة وطلبة علم وتجار.. هكذا كان المجتمع السعودي إبان التأسيس
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
عند النظر إلى الازدهار المتواصل للدولة السعودية عبر أطوارها المختلفة في ثلاثة قرون، سيتضح أن كلمة السر كانت مجتمع التأسيس، الذي أرسى قواعد نجاح الدولة مستندًا إلى شيم العرب الأصيلة.
في التقرير التالي نستعرض كيف عاش أفراد المجمتع السعودي إبان فترة التأسيس.
أخبار متعلقة أمجاد الأمن والتنمية.. ”الداخلية“ تطلق مبادرة ”مكان التاريخ“خادم الحرمين الشريفين: نعتز بذكرى التأسيس في وطن يتقدم إلى الريادةكانت منطقة وسط الجزيرة العربية من أقل مناطق الجزيرة تأثراً باختلاط العناصر الخارجية بالسكان المحليين؛ وذلك بسبب بعدها النسبي عن مراكز الامتزاج السكاني، فضلاً عن موقعها المنعزل في قلب الجزيرة العربية.
ونتيجة لذلك، كانت الغالبية العظمى من سكانها تنتمي إلى قبائل وأسر مختلفة، وقد اتسمت النظرة الاجتماعية لدى سكانها بشكل عام بالانتماء القوي للمكان والقبيلة والأسرة، خاصة في جوانب مثل الزواج وممارسة بعض الأعمال والحرف.
أما من حيث نمط المعيشة، فقد كان مجتمع وسط الجزيرة العربية ينقسم إلى قسمين رئيسيين: الحاضرة، وهم سكان البلدات والقرى المستقرة، والبدو، وهم سكان الصحراء الذين كانوا يتنقلون باستمرار بحثاً عن الماء والمراعي.الدرعية مركز مجتمع التأسيس
خلال فترة الدولة السعودية الأولى، شهد مجتمع الدرعية تدفقاً كبيراً للوافدين الذين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الدولة السعودية الناشئة، سواء كانوا تجاراً أو طلاب علم
هؤلاء الوافدون جاءوا من خلفيات وطبقات اجتماعية متنوعة، ومع مرور الوقت، شهدت الدرعية نمواً سكانياً كبيراً، وتوسعت مساحتها الجغرافية.
وأصبحت الدرعية مركزاً جاذباً لطلاب العلم، وملتقىً للتجار، وملاذاً للباحثين عن فرص العيش والرزق.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } عاصمة الدولة السعودية الأولىالعلاقة بين أئمة الدولة السعودية والمجتمع
اتسم أئمة الدولة السعودية الأولى بالخصال العربية الأصيلة، مثل الكرم والشجاعة والمروءة والوفاء والحكمة، حيث كان مجلس الإمام منفتحاً للعامة يستقبل المواطنين يوميًا.
وعُرف الأئمة بكثرة عطائهم، فكانوا يُقدمون الصدقات للفقراء والمحتاجين، ويدعمون أهل العلم وطلابه، بالإضافة إلى معلمي القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد، حتى إنهم كانوا يرسلون القهوة إلى من يقومون بليل رمضان.
ومن اللافت أن أطفال الدرعية كانوا بعد خروجهم من حلقات التعليم يتوجهون إلى قصر الأئمة بعرض ألواحهم الكتابية، فمن يُبدي منهم مهارة في الخط يُكافأ بجزيل العطاء، بينما يحصل الآخرون على هبات أقل. .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } الطلاب في الدولة السعودية الأولى
الكرم أسلوب حياة
كان الإمام سعود يخصص يوميًا 500 صاع من القمح والأرز لضيوفه، ويُكلّف شخصًا بمهمة دعوة الضيوف لتناول الطعام من بعد الظهر حتى ما بعد العشاء، بينما يُقدم الغداء من شروق الشمس حتى اشتداد الحر.
وفي رمضان، كان أهالي نجد يتوافدون إلى الدرعية، فيُفطر الإمام سعود جماعات منهم كل ليلة في قصره رغم أعدادهم الكبيرة، ويُقدم لكل فرد "جديدة" (العملة المحلية).
وفي العشر الأواخر، كان يُدخل أفواجاً منهم كل ليلة، ويُوزع على كل محتاج عباءة ومنديلاً وعملة.
وبلغ عدد أفراد الأسرة الحاكمة والغرباء الذين يُقدم لهم القوت اليومي ما بين 400 إلى 500 شخص، وكان طعامهم يعتمد على الأرز ولحم الضأن والجريش والتمر، في تجسيد حي لروح الكرم والترابط الاجتماعي التي ميزت تلك الحقبة.
الحياة العلمية في مجتمع التأسيس
تميز أئمة الدولة السعودية الأولى بحرصهم على دعم الحركة العلمية والتعليم، حيث كانوا يحضرون مجالس العلم بانتظام ولا يُغادرونها إلا نادراً.
وكانت هذه المجالس تُقام منذ شروق الشمس في موقع "الموسم" بوادي حنيفة (مكان السوق في بطن الوادي)، حيث يجتمع أهل الدرعية وغيرهم من طلاب العلم.
في الصيف، تُعقد الجلسات عند الدكاكين الشرقية، وفي الشتاء عند الدكاكين الغربية، ويحضرها جمع غفير من الناس، لا يتخلف عنها إلا من انشغل بأعمال ملحة. وبعد انتهاء الدرس، ينهض الإمام إلى قصره ليجلس في مجلس قريب يستقبل فيه شكاوى الناس وحاجاتهم حتى وقت القيلولة، ثم يعود بعد صلاة الظهر لاستئناف الدروس في قصره.هيكلية مجالس العلم في القصر
في قصر الإمام، كانت تُقام حلقات العلم في مكان مُعدّ بين الباب الخارجي والداخلي، حيث صُممت المقاعد على ثلاثة طوابق: الأعلى للأعيان، والأوسط للعامة، والأسفل لمن يرغب في الجلوس على الأرض.
ويحضر هذه الجلسات إخوة الإمام وأبناؤه ومقربوه، بينما يتولى التدريس فيها علماء بارزون مثل الشيخ عبد الله بن حماد (إمام مسجد الطريف)، والقاضي عبد الرحمن بن خميس (إمام مسجد القصر)، حيث يُدرَّس تفسير ابن كثير وكتاب "رياض الصالحين".
وبعد صلاة المغرب، يعود الناس للاجتماع في سطح مسجد الظهر داخل القصر، ويُقرأ "صحيح البخاري" بحضور الإمام وأقاربه ومقربيه، في جو علمي تفاعلي.
المصدر: صحيفة اليوم
كلمات دلالية: اليوم الدمام يوم التأسيس الدولة السعودية الأولى يوم التأسيس 2025 الدولة السعودیة الأولى article img ratio
إقرأ أيضاً:
القيم والأخلاق.. صراع البقاء في عالم القوة
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
ما من شك أن البشرية شهدت في العقود الأخيرة قفزات هائلة في مجال العلم والتكنولوجيا، قفزات غيرت وجه الحياة على كوكب الأرض بشكل لم يسبق له مثيل، فتأثير هذا التقدم العلمي لا يتوقف عن التوسع يومًا بعد يوم، حتى باتت البشرية بحق تملك مفاتيح قوة لا تضاهى، تقودها نحو آفاق جديدة من الفهم والاكتشاف، فلو نظرنا إلى السماء، سنجدها مليئة بالأقمار الصناعية التي تطلقها أيدٍ بشرية، شاهدة على مدى الإنجاز البشري الذي امتد ليطال حتى الفضاء الخارجي، وربما يومًا ما يستشرف أبعد من حدود مجموعتنا الشمسية.
لكن مع كل هذا التقدم، يطرأ في أذهان البعض سؤال مؤرق: هل العلم نفسه بريء؟ أم أنه يحمل في طياته بذور الخراب، كما هو الحال مع القنابل النووية التي دمرت وأحدثت أهوالًا لا توصف؟ وهل يُمكن أن يكون العلم بلا أخلاق وأخلاقيات؟ الحقيقة أن العلم بحد ذاته مجرد أداة، لا تحمل في جوهرها خيرًا أو شرًا، فالقوة التي يمنحها العلم هي محايدة، أما من يوجهها فهي الإنسانية بأخلاقها وقيمها، فالإنسان هو من يقرر كيف يستخدم هذه القوة، هل في بناء عالم أفضل يزدهر بالسلام والتقدم، أم في صناعة دمار يدفع ثمنه الجميع؟
التاريخ مليء بالأمثلة التي توضح هذا التوازن الحساس، في العصر الحديث، شهدنا كيف ساهمت التكنولوجيا الحيوية في تطوير لقاحات غيرت مسار الأوبئة العالمية مثل جائحة كوفيد-١٩، حيث استطاع العلماء بتعاونهم وجهودهم تحقيق إنجاز علمي ضخم أنقذ ملايين الأرواح وفتح آفاقًا جديدة في مجال الطب.
لكن بالمقابل، هناك أمثلة على كيف يمكن للعلم أن يتحول إلى أداة للدمار إذا غاب عنها البوصلة الأخلاقية، فالقنابل التي أُسقطت على غزة ولبنان تركت جروحًا لا تلتئم في وجدان أصحاب الضمائر اليقظة، وأظهرت كيف يمكن لقوة علمية هائلة أن تتحول إلى كارثة إنسانية عندما تسيطر عليها مصالح ضيِّقة وأنانية مفرطة.
وفي هذا السياق، يبرز سؤال مهم: هل يمكن لأصحاب القيم والمبادئ أن يحافظوا على قيمهم ومبادئهم دون امتلاك القوة العلمية؟ الجواب بسيط لكنه قاسٍ: لا. فبدون العلم، تصبح القيم مجرد كلمات لا وزن لها أمام تحديات العالم الواقعي. إن امتلاك المعرفة العلمية يمنح أصحاب القيم القدرة على التأثير وصياغة واقعهم بدل أن يكونوا مجرد متفرجين يتراجعون أمام من يملك القوة.
لنتأمل في مثال آخر: في عالم السياسة والدبلوماسية، لا يمكن لقادة يحملون رؤى إنسانية نبيلة أن ينفذوا أجندتهم إذا لم تدعمهم قوة العلم والتكنولوجيا في مجالاتها المختلفة.
لذا، على أصحاب القيم أن يدركوا أن امتلاك العلم ليس فقط خيارًا؛ بل ضرورة حتمية، فالعلم هو السلاح الذي يحمي القيم ويعززها، وهو الجسر الذي يربط بين المبادئ الإنسانية والواقع المعاصر، وبدون العلم، قد تتلاشى القيم تحت وطأة الضغوط، أو تُستغل من قبل من يفتقرون إليها.
قد يبدو امتلاك العلم معقدًا أو بعيدًا عن جوهر القيم، لكن الواقع يقول إن غياب هذه القوة يعني حتمًا ضياع القيم وتعثرها، ولذا فأصحاب القيم الذين لا يمتلكون قوة العلم، سيجدون أنفسهم عاجزين عن حماية مبادئهم، وستتراجع مكانتهم حتى تختفي، تاركين الساحة لمن يملكون القوة العلمية، مهما كانت نواياهم.
قد يدّعي البعض أن الله وعدهم بالنصر، وأن الأرض هي ملك لله يورثها لعباده الصالحين، وهذا وعد صحيح بلا شك، لكن هذا النصر لا يتحقق بمجرد التمني أو الانتظار، بل مرتبط بشروط واضحة لا يمكن تجاهلها، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
هذا يعني أن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان، من إرادته وعزيمته على العمل والاجتهاد، لا فائدة من انتظار النصر أو التقدم دون بذل جهد حقيقي في طلب العلم والتقنيات المختلفة، اكتساب المعرفة، وتطوير الذات، فالكسل والتواكل لن يوصلا إلى أي نتيجة، والاعتماد على الآخرين سيبقي النصر بعيد المنال.
لذلك، إن لم يسع أصحاب القيم إلى امتلاك العلم، فإنَّ مصيرهم سيكون الخُسران؛ بل وربما الاندثار في مواجهة عالم يتغير بسرعة، لا يرحم الضعفاء، ولا يمنح الفرص لمن تخلى عن أدوات القوة.
ختامًا، لا بُد من تحذير صارم: قيم بلا عِلم، هي قيم مُهددة بالاندثار، وأصحابها، مهما كانت نواياهم، معرضون لأن يصبحوا ضحايا واقع لا يرحم إلّا الأقوياء، العِلم هو القوة، والقوة تضمن بقاء القيم، أو على الأقل تمنحها فرصة للثبات في عالم لا يعترف إلا بالقَوِيّ.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر