المتحولون لحجر.. لماذا يهتم الفلكيون بـ 19 عمودا صخريا في كينيا؟
تاريخ النشر: 13th, October 2025 GMT
في قلب الشمال الكيني، على الضفة الغربية القاحلة لبحيرة توركانا، يقف صف من الأعمدة الصخرية الصامتة كأنها حراس لزمن نسيه العالم. يسميها السكان المحليون "ناموراتونغا"، وتعني في لغتهم المحلية "الناس المتحوّلون إلى حجر"، ولذلك قصة.
الأسطورة التي يتناقلها التركانا، وهم من أقدم الشعوب التي سكنت شمال كينيا، تقول إن ما نراه اليوم من أعمدة حجرية في ناموراتونغا لم يكن حجارة في الأصل، بل بشر من لحم ودم.
في زمن بعيد، خرجت جماعة من الناس إلى السهل الواسع قرب ضفة بحيرة توركانا للاحتفال بموسم المطر. كانت السماء ملبدة بالغيوم، والأرض تفوح منها رائحة الطين والمطر، والقبيلة ترقص حول النار على إيقاع الطبول والأنغام. في تلك الليلة، تقول الأسطورة، ظهرت روح غامضة، ربما قدمت من السماء أو كانت ظلا من أرواح الأسلاف، لتباركهم وتشاركهم الرقص.
لكن البشر، وقد أسكرهم الفرح والغرور، سخروا من الروح وضحكوا منها، وربما قلدوها في رقصها، فغضبت الروح من استهزائهم، ومدت يدها فوقهم ومستهم بلعنة أبدية، وفي لحظة خاطفة تجمد العازفون والراقصون في أماكنهم، وانطفأت النيران، وسكن صوت الطبول. عندما بزغ الفجر، كانت أجسادهم قد تحوّلت إلى أعمدة من حجر أسود، واقفة في صمت كامل، تنظر إلى الأفق الذي كانوا يرقصون نحوه.
ومنذ ذلك اليوم، تقول الأمهات لأطفالهن: "لا تضحك من الأرواح حين تمر في الريح، فهؤلاء الحجارة كانوا مثلنا، حتى نادوا السخرية، فاستجابت لهم اللعنة".
ويحكي الشيوخ أن كل حجر من الأعمدة الـ19 يحمل اسما، ويقال إن بعضها يميل قليلا لأن روح صاحبه لا تزال تحاول التحرر من الصمت. أما عندما تهب الرياح القوية ليلا، فيُسمع من بين الحجارة صوت يشبه الهمهمة أو الغناء البعيد، يعتقد البعض أنه أنين الراقصين الملعونين، يروون للأجيال القادمة قصة خطيئتهم القديمة.
إعلانلكن خلف هذه الأسطورة، تكمن قصة أخرى، علمية هذه المرة، عن أول مرصد فلكي في أفريقيا جنوب الصحراء، وعن عقول بشرية حاولت منذ أكثر من ألفي عام أن تربط بين حركة السماء وإيقاع الحياة على الأرض.
في عام 1978، وبينما كان عالم الأنثروبولوجيا مارك لينش يعمل على أطروحته للدكتوراه بجامعة ولاية ميشيغان، اكتشف موقعا مدهشا قرب قرية كالاكول، يتمثل في دائرة من 19 عمودا بازلتيا غرست في الأرض بزوايا دقيقة، وتحيط بها أحجار أصغر تشكل ما يشبه السياج الحجري. بدا المشهد كأن الطبيعة رتبت حجارتها بعناية هندسية، لكن الفحص القريب كشف أن الأمر من صنع الإنسان.
الصخور البازلتية جُلبت من مرتفعات لوسيدوك المجاورة، وأُقيمت الأعمدة لتقف في اتجاهات مختلفة، بعضها مائل قليلا، وكأنها تومئ إلى شيء في الأفق البعيد، بالقرب منها اكتشف قبر قديم تحيط به ألواح حجرية قائمة، وتشير التحاليل إلى أن كلا الموقعين يعودان إلى حوالي عام 300 قبل الميلاد، أي في وقت تزامن مع بدايات الرعي المنظم في شرق أفريقيا.
ما أثار لينش لم يكن شكل الأعمدة فحسب، بل اتجاهاتها، فحين قارنها بالنجوم التي اعتمد عليها شعب البورانا، وهم من المتحدثين باللغات الكوشية في إثيوبيا المجاورة، لاحظ تطابقا غريبا.
يستخدم البورانا تقويما قمريا من 12 شهرا (354 يومًا) يعتمد على مطالع 7 نجوم ومجموعات نجمية هي الثريا والدبران والمرزم، ونجوم حزام الجبار وسيف الجبار، والشعرى اليمانية ونجوم من كوكبة المثلث.
عند مقارنة اتجاهات الأعمدة الـ19 بخطوط شروق وغروب هذه النجوم في سماء عام 300 قبل الميلاد، وجد لينش أن التطابق مذهل إلى درجة يصعب أن يكون مصادفة، وهكذا وُلدت الفرضية: ناموراتونغا كانت تقويما حجريا سماويا، يرشد الرعاة والمزارعين إلى مواقيت المطر، ويحدد مواعيد الطقوس الموسمية التي تربط الأرض بالسماء.
لكن كما هي الحال في كثير من الاكتشافات المثيرة، لم يسلَم الموقع من الجدل. ففي الثمانينيات، أعاد الباحث روبرت سوبر قياس الاتجاهات، ليكتشف أن الحجارة تحتوي على مغنيتيت يسبب انحرافا في البوصلة. واعتبر أن حسابات لينش قد تكون مضلِّلة.
غير أن فريقا آخر من مركز أبحاث ناسا آمِس بقيادة لورنس دويل وتوم ويلكوكس عاد إلى الموقع، وبدلا من استخدام قواعد الأعمدة، قاس اتجاهات قممها، وكانت النتيجة مثيرة من جديد، فبعد تصحيح الأخطاء المغناطيسية، أجرى الفريق اختبارات إحصائية أظهرت أن هناك احتمالًا ضئيلًا جدًا (أقل من 1%) أن تكون تلك المحاذاة مع النجوم قد حدثت مصادفة.
قال دويل في تقريره: "يبدو أن الأعمدة صُمّمت لمتابعة مواقع نجوم تقويم البورانا كما كانت في عام 300 قبل الميلاد"، ومع ذلك، ظل العلماء حذرين. فكما قال دويل لاحقا: "قد تكون ناموراتونغا مرصدا فلكيا قديما، لكن إثبات ذلك بشكل قاطع يحتاج إلى مزيد من الحفريات والأدلة".
على الجهة الشرقية من بحيرة توركانا، اكتُشف موقع آخر اسمه جاريغول، يحتوي على 28 عمودًا فوق منصة بيضاوية الشكل، مع أكوام من الحجارة وقطع من فخار النّدِريت المميز بثقافة الرعاة الأوائل.
إعلانتشير الدلائل إلى أن جاريغول أقدم من ناموراتونغا بحوالي ألفي عام، أي نحو عام 2000 قبل الميلاد. لكن العديد من أعمدته مائلة أو منقلبة، مما يجعل تحديد أي اتجاه فلكي صعبا، ويُرجح أن الموقع كان في الأساس مقبرة طقسية أكثر من كونه مرصدا.
تفتح هذه الاكتشافات بابًا واسعًا لتساؤلات جديدة: هل كانت هناك حضارة رعاة فلكية امتدت حول بحيرة توركانا؟ وهل ورث أهل ناموراتونغا رموز السماء من أسلافٍ أقدم في جاريغول؟ أم أن التشابه بين المواقع مجرد مصادفة أخرى في المسار الطويل للإنسان مع النجوم؟
المشكلة الكبرى في دراسة مثل هذه المواقع هي تحديد عمر الحجارة بدقة، فالحجر لا يحتوي على مادة عضوية تصلح للكربون المشع.
لكن روبينز، أحد أبرز علماء الآثار العاملين في المنطقة، اقترح استخدام تقنية التحفيز الضوئي المحفوظ التي تحدد متى تعرّض الرمل أسفل الحجارة لآخر ضوء شمسي قبل دفنه.
فلو أمكن استخراج عينات من الرواسب تحت كل عمود، فسيعرف العلماء متى حُفرت الحفرة وغُرس الحجر، أي متى بدأ التقويم السماوي بالعمل.
ما وراء الزمن والحجرقد تكون ناموراتونغا تقويما فلكيا، أو مقبرة طقسية، أو كلاهما معا. وربما كانت مكانا يحتفل فيه القدماء باتحاد الشمس والقمر والمطر والحياة، لكن الأكيد أنها كانت رمزا لهوية جماعية، وشاهدا على قدرة الإنسان الأفريقي القديم على المزج بين الطقوس والحساب الفلكي.
حتى اليوم، لا تزال الحجارة قائمة، يمر بينها الريح ويغني الرعاة أغنيتهم القديمة:
"من يدري كيف صُنعت الحجارة الراقصة؟
من يدري كيف تُوقد نار ناموراتونغا؟"
ربما لا أحد يدري حقا، لكن في تلك الحجارة التي تحدق في الأفق، يظل هناك وعد بأن الإنسان، في أي زمن أو مكان، كان دوما يرفع رأسه نحو السماء، باحثا عن معنى.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات قبل المیلاد فی عام
إقرأ أيضاً:
كلما قسوت على ChatGPT كانت إجاباته أفضل!
في مفارقة قد تُربك الكثير من محبّي "اللباقة الرقمية"، كشفت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة ولاية بنسلفانيا أن استخدام لغة أكثر حدّة وأقل مجاملة عند التحدث مع روبوتات الدردشة مثل ChatGPT قد يؤدي إلى الحصول على إجابات أكثر دقة.
ووفقاً لموقع "digitaltrends" قام الباحثون بتجربة مثيرة شملت طرح الأسئلة على ChatGPT باستخدام خمس نغمات لغوية متفاوتة، بدءًا من "مهذبة جدًا" وصولًا إلى "صارمة جدًا"، مرورًا بالنبرة المحايدة. المدهش في النتائج أن الأسئلة التي طُرحت بلهجة شديدة ، ولكن دون تجاوز للحدود، قدمت إجابات أكثر دقة مقارنة بالأسئلة المهذبة.
اقرأ أيضاً.. لطافتك تكلف الذكاء الاصطناعي الملايين!
دقة أعلى مع لهجة أكثر حدة
في اختبار مكون من 250 نسخة من 50 سؤال اختيار من متعدد، بلغت دقة إجابات ChatGPT 84.8٪ عند استخدام نبرة حادة، مقابل 80.8٪ فقط عند استخدام نبرة مهذبة. ومن الأمثلة التي استُخدمت في النبرة الأكثر صرامة:
"ألا تعرف حتى كيف تحل هذا السؤال؟" – وهي جملة تعكس لهجة تقليلية دون أن تكون جارحة بشكل مباشر.
الباحثون أوضحوا أن الأسلوب "الصارم" لا يعني بالضرورة استخدام ألفاظ مهينة، بل يشمل أيضًا عبارات تفتقر إلى المجاملة، أو تستخدم أوامر مباشرة وحاسمة.
هل تؤثر المشاعر في الآلات؟
النتائج الجديدة تتناقض مع دراسات سابقة كانت قد أشارت إلى أن استخدام لهجة فظة قد يؤدي إلى ردود أقل دقة أو متحيزة من الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، فإن الدراسة الحديثة ركّزت حصريًا على نموذج GPT-4o من OpenAI، وضمن مهمة محددة تتعلق بحل الأسئلة الموضوعية، ما يعني أن النتائج قد لا تنطبق على كل أنواع المحادثات أو على نماذج ذكاء اصطناعي أخرى مثل Gemini أو Claude.
يبقى السؤال الأكبر هنا: هل من المفترض أن تتأثر روبوتات الدردشة بـ"الحمولة العاطفية" في كلام المستخدم؟ وهل يجب أن تؤدي العبارات الصارمة إلى نتائج أفضل في أنظمة يفترض أنها منطقية وتعمل على أساس الدقة والمكافأة؟
ربما لا تزال الإجابة قيد البحث، لكن المؤكد أن طريقة حديثنا مع الذكاء الاصطناعي... قد تكون أكثر تأثيرًا مما نعتقد.
إسلام العبادي(أبوظبي)