حكايات جارة فرع الأمن السياسي بدمشق.. رعبٌ وقهرٌ ودموع ثم فرج
تاريخ النشر: 26th, February 2025 GMT
دمشق- في العاصمة السورية -شأنها شأن باقي مدن البلاد-، لم يكن الرعب مجرد لحظة عابرة أو حدثا استثنائيا، بل كان أشبه بـ"أسلوب حياة". لم يكن الخوف شعورا طارئا، بل كان يرافق الناس في أحاديثهم، في خطواتهم، في نظراتهم التي كانوا يحرصون على ألا تطول أكثر من اللازم حتى لا تُفهم على أنها "فضول غير مرغوب فيه". كان عليك أن تعرف كيف تتكلم، كيف تهمس، كيف تنظر، وكيف تصمت.
لكن ماذا لو كان مصدر الخوف يعيش معك، يجاورك، يراك كل يوم، يراقبك، يفتح نوافذ منزله على حياتك، ويغلق الأبواب على ضحاياه؟ ماذا لو كان الجار هو فرع الأمن السياسي نفسه؟
لم يكن ذلك كابوسا بالنسبة لفاطمة فوّاز، بل كان حياتها اليومية، لأن منزلها كان يواجه فرع الأمن السياسي في منطقة الميسات بدمشق -والذي يعرف اختصارا بـ"السياسية"-.
أما صديقتها شهد العبيّة، فكانت تعيش في جزء آخر من دمشق، لكن الرعب لم يكن بعيدا عنها.
جمعتهما صداقة المدرسة التي لم تكن فقط مكانا للتعليم، بل كانت أيضا ساحة لـ"التشبيح" -كما تقول مهندستا العمارة-، حيث كان الطلاب يُدفعون للهتاف للرئيس المخلوع بشار الأسد، وكل من يشذّ عن القطيع كان عليه أن يتوقع العواقب.
"حتى في المدرسة، لم نكن بأمان"في العام 2011، كانت شهد وفاطمة تلميذتين في الصف التاسع، بدأتا تتابعان ثورات "الربيع العربي"، والتي التحقت سوريا بركبها في 15 مارس/آذار من ذاك العام.
لم يُمنح فرصة لالتقاط أنفاسه. ضربوه بلا رحمة، حتى ظننت أنه سيموت أمامنا. ثم سحبوه إلى الداخل، وهناك اختفى.. لم نسمع عنه أي شيء بعد ذلك
بواسطة فاطمة فوّاز
تقول شهد، "كنا في البداية نظن أنه يمكننا الحديث بحرية، كنا نسأل بعضنا ببراءة: هل سمعت عن المظاهرة التي خرجت هنا وهناك؟ هل شاهدت الاعتقالات؟ هل رأيت كيف داهموا منزل فلان؟".
لكن سرعان ما أدركت الشابتان اليافعتان أن جدران الصرح التعليمي ليست عصية على "التشبيح"، بل أن طلاب "شبيبة الثورة" يراقبون الآخرين، ويرفعون التقارير عن كل ما يُقال داخل الصفوف وخارجها.
"بدأنا نلاحظ أن بعض الزملاء يتصرفون بطريقة غريبة. كانوا يستمعون إلينا ثم يذهبون للحديث مع المدرسين أو مع أعضاء اتحاد شباب الثورة، الذين كانوا يتجولون في المدرسة وكأنهم جهاز مخابرات مصغر".
ومع مرور الأيام أصبح الضغط أكثر وضوحا، "في أحد الأيام، جاءتني مشرفة المدرسة وقالت لي بصوت خافت لكنه كان تهديدا واضحا: "أنا أعرف أين تعمل والدتك.. انتبهي لنفسك. فهمت حينها أنني أصبحت مستهدفة، وأنهم يعرفون كل شيء عني وعن عائلتي".
بعدها، لم يكن هناك خيار سوى التظاهر بالولاء أو السكوت والاكتفاء بتوزيع الابتسامات الزائفة. لكن في مكان آخر من دمشق، كانت فاطمة تعيش كابوسا أكثر ظلمة.
"كانت حياتي فيلم رعب مستمرا"لم يكن منزل فاطمة مجرد بيت، بل كان نقطة تماس مباشرة مع الجحيم، "كنا نعيش أمام "السياسية" -فرع الأمن السياسي- مباشرة. كل يوم، كنا نستيقظ على مشهد سيارات الأمن وهي تدخل وتخرج، وأحيانا كنا نسمع صراخ المعتقلين الذين كانوا يُسحبون من السيارات إلى داخل فرع الأمن".
شعرت بالذل والقهر أن يعاملني شخص لا علاقة له ببلدي بهذه الطريقة! فقلت له حينها: لن أعطيك هويتي! من أنت حتى أعطيك هويتي؟ وعلى أي أساس تطلبها؟ فبدأ يهددني
بواسطة شهد العبيّة
لكن النظر إلى هذا المشهد لم يكن مسموحا، "إذ كان يُمنع علينا حتى أن نقف عند النوافذ. إذا لمحوا أحدا يراقب، حتى لو كان طفلا، كان يتم نهره والصراخ عليه بل وشتمه بأقذع الألفاظ، ليس أقلها: "فوت لجوّا ولاك حيوان!".
وفي إحدى الليالي، رأت مشهدا لم تستطع نسيانه قط، "في رمضان 2012، خرجت مظاهرة في منطقة ركن الدين القريبة مني. بعد دقائق، خرجت عربات الأمن من الفرع بسرعة. وبعد قليل، عادت السيارات رفقة حافلة كبيرة محملة بالمعتقلين. كانوا يضربونهم داخل الحافلة بشدة، كانت الحافلة تهتز من شدة الضرب، وآهات الشباب وصراخهم يشق الصمت والوجوم الذي سيطر على الحي".
توقفت قليلا وقد تحشرج صوتها وامتلأت عينها بالدموع، ثم أضافت "عندما أنزلوهم، كانوا يضربون رؤوسهم بزجاج الحافلة، ويركلونهم حتى ينهاروا على الأرض. بعضهم كان فاقد الوعي، لكنهم لم يتوقفوا عن ضربه".
وفي أحد الأيام، كانت الصدمة أكبر عندما توقفت سيارة "بيجو" مسرعة أمام الفرع، وخرج من صندوقها الخلفي رجل مسنّ مضرج بالدماء، "كان بالكاد قادرا على الوقوف، لكنه لم يُمنح فرصة لالتقاط أنفاسه. ضربوه بلا رحمة، حتى ظننت أنه سيموت أمامنا. ثم سحبوه إلى الداخل، وهناك اختفى.. لم نسمع عنه أي شيء بعد ذلك".
"لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"تحكي فاطمة عن قانون غير معلن لسكان حيها، "ممنوع أن ترى.. ممنوع أن تشهد.. ممنوع حتى أن تبدي اهتماما. إذا كنت تمشي في الشارع وحدث أمامك شيء مروع، كأن ترى رجلا يُسحب من عربته ويُضرب حتى يفقد وعيه، أو شابا يتلقى ركلة عنيفة في صدره قبل أن يُدفع داخل فرع الأمن، كان عليك أن تفعل شيئا واحدا فقط: أن تدير رأسك فورا، أن تتصرف وكأنك لم ترَ شيئا، وكأن المشهد لا يعنيك".
كانت تعليمات صريحة تصدر من الجنود أنفسهم، "كان العساكر يصرخون فينا: ‘لا تنظروا! اصعدوا إلى بيوتكم بسرعة! لا أريد أن أرى أحدا هنا!’". وكأن مجرد رؤيتنا لما يحدث يجعلنا شهودا غير مرغوب فيهم، وكأن العنف الذي يمارسونه لا يكتمل إلا إذا لم يكن هناك أعين تراقب”.
"إذا كانت دمشق بأكملها خاضعة لسطوة الأجهزة الأمنية، فإن فرع "السياسية" في الميسات كان دولة قائمة بذاتها، كأن رئيس الفرع أسس دولة مستقلة داخل الحي، لا أحد يستطيع الدخول إليها أو الخروج منها إلا بإذنه وإذن عناصره، حتى نحن، سكان المنطقة، لم يكن مسموحا لنا بالتحرك بحرية"، تقول الشابة السورية.
الطرق المؤدية إلى الفرع كانت مغلقة، "فإذا كنتُ أريد الدخول إلى المنطقة حيث يقع منزلي، لم يكن بإمكاني أن أختصر الطريق عبر الأزقة الخلفية أو الشوارع الفرعية، كان يجب أن أدخل فقط من الطريق المحدد، أما بعض الشوارع الجانبية، فقد كانت خطوطا حمراء، مجرد المشي فيها قد يكون مبررا كافيا ليتم إيقافك واستجوابك وربما اعتقالك. حتى في منطقة بيتي، حتى في المكان الذي من المفترض أن أشعر فيه بالأمان، لم أكن أمتلك الحق في اختيار الطريق الذي أمشي فيه".
تقاطع شهد، "كلامها صحيح، ذات مرّة كنت ذاهبة إلى بيت إحدى صديقاتي، فأوقفني عنصر يتبع لإحدى المليشيات الأجنبية التي استقدمها النظام لقتل السوريين. كان يلبس زي أسود، ويضع شعار المليشيا التي ينتمي إليها على صدره. ضرب بارودته على الأرض، وطلب مني بكل غلظة أن أعطيه هويتي فورا، كان يتكلم معي بعجرفة وغلظة".
تكمل المهندسة المعمارية وقد اختنق صوتها، "شعرت بالذل والقهر أن يعاملني شخص لا علاقة له ببلدي بهذه الطريقة! فقلت له حينها: لن أعطيك هويتي! من أنت حتى أعطيك هويتي؟ وعلى أي أساس تطلبها؟ فبدأ يهددني".
"اتجهت بالحديث إلى أحد العساكر السوريين الذي كان يقف خلفه، وقلت له: أنت ابن بلدي كيف تسمح له أن يتحدث معي بهذه الطريقة؟ أنا مواطنة سورية، أنا في سوريا. من هو حتى يطلب مني إثباتي؟".
حينها تدخل العسكري السوري "وفصل بيننا، وقال: لي نحن هنا لنحميكم -وهي رواية كانوا يروجون لها كثيرا، لا أدري ممن يحموننا وهم أكبر مجرمي الأرض!-. وبالفعل سمح لي بالمرور بعد أن اطلع العنصر السوري على هويتي لكني لم أعطها لعنصر المليشيا الأجنبية".
تؤكد شهد أن معاملة عناصر النظام مع المواطنين كانت تختلف تبعا لبعض المحددات، "أنا -على سبيل المثال- لأني لست محجبة، كنت لا أتعرض لهذه المواقف كثيرا، لكن أختي المحجبة كانت تتعرض للكثير من المضايقات، كانوا يشعرون المحجبات وكأنهم إرهابيون يهددون الدولة. أما والدتي، فهي ليست محجبة فحسب، بل تنحدر من محافظة حماة المعروفة بمناهضتها للنظام، لذلك كانت تتعرض للكثير من المضايقات".
"ليس هذا فحسب، كنا نتعرض لـ‘تشبيح مبطّن’، فأنا كمعيدة في الجامعة، كنت أتعرض لمواقف سيئة من أتباع النظام، كانت أبسط عبارة تُقال لي: هل تتعاملين معي بهذه الطريقة لأني من الساحل؟ هل تسيئين معاملتي لأني من الطائفة العلوية؟"، تقول شهد إن "هذا الاتهام المبطن كان أمرا مرعبا بالنسبة لنا، أمرا يمكنه أن يقضي علينا تماما!".
"الموسيقى التي كادت أن تُودي بي"تعود فاطمة لتستذكر حوادث أليمة تعرضت لها على يد "جيرانها" في فرع الأمن السياسي، "ففي صباح هادئ حين كنتُ في الـ16 من عمري، فتحت نافذتي، وجلست على شرفتي، وأخرجت هاتفي، وشغّلت الموسيقى لأستمتع بالجو الجميل على طريقتي، لكني سمعت فجأة صوتا غاضبا، كان أحد العسكريين يصرخ، لم أفهم ما كان يقوله في البداية، لكن نبرة صوته كانت كافية لجعل قلبي ينبض بسرعة".
نظر إليّ نظرة طويلة، لم تكن نظرة تفتيش، بل نظرة انتصار، وكأنه يقول لي: ‘وصلتُ إلى بيتك، أذللتكِ، ولن تنسي هذا أبدا
بواسطة فاطمة فوّاز
"بدأ يشتمني بأقذر العبارات، يصرخ بوحشية وكأنه يتحدث إلى عدو، وليس إلى فتاة مراهقة تجلس في شرفتها. لم أفهم السبب، لكنني لم أنتظر لأفهم، دخلت إلى منزلي بسرعة وأغلقت باب الشرفة".
إعلانلكن الأمر لم ينتهِ هنا، فبعد 10 دقائق فقط، دوّى صوت طرق عنيف على باب المنزل، "كان والدي نائما، فذهبت لفتح الباب، وعندما فعلت، كان الجندي ذاته واقفا أمامي، لقد عرفته، كان من العساكر كثيري النظر إلي كلما مررت بالشارع، كانت نظراته غير مريحة على الإطلاق وذات مغزى".
"طلب مني أن أعطيه هاتفي. لم أفهم لماذا، سألته: ‘ما علاقتك بهاتفي؟’ فردّ بحدة: ‘رأيتك وأنتِ تصوّرين الفرع، أريد أن أرى الصور’. فقلت له إنني لم أكن أصوّر، كنت فقط أستمع إلى الموسيقى. لكنه لم يصدقني، أصر على أخذ الهاتف، فتح الصور أمامي، يتصفحها واحدة تلو الأخرى".
تقول فاطمة، "نظر إليّ نظرة طويلة، لم تكن نظرة تفتيش، بل نظرة انتصار، وكأنه يقول لي: ‘وصلتُ إلى بيتك، أذللتكِ، ولن تنسي هذا أبدا".
أما أخوها الذي كان يقف بجانبها، "فكان ينظر إليّ بغضب وحزن في آن واحد، يريد أن يفعل شيئا، أن يمنعه من التعدي علينا بهذا الشكل، لكنه لم يستطع. لم يكن هناك شيء يمكنه فعله".
جنون الساعات الأخيرة قبل السقوطفي ديسمبر/كانون الأول 2024، كانت الأخبار تتسرب بأن النظام بدأ ينهار لا سيما بعد تحرير حلب وحماة ووصول المعارك إلى حمص.
تقول شهد إنها استقلت سيارة أجرة في صباح يوم 7 ديسمبر/كانون الأول -أي قبل سقوط النظام بساعات-، "كان سائق السيارة في حالٍ غريبة، قال لي: أنا عسكري جئت لتوي من درعا. عندما جاءت الفصائل لتحرر درعا، ظننا أنهم سيقومون بقتلنا، لكنهم لم يفعلوا شيئا بل طلبوا منا أن نسلم أسلحتنا ونرحل. لو أنهم قرروا قتلنا لكان معهم كل الحق في ذلك فنحن نستحق القتل لكنهم لم يفعلوا".
أما "جارة السياسية" فاطمة، فتقول "لاحظنا تحركات غير طبيعية في الفرع. كنا نراهم يوزعون الأسلحة داخل الفرع، وكأنهم يستعدون لمعركة أخيرة. سيارات عسكرية تروح وتجيء، بل إنهم أدخلوا عربة دوشكا إلى الشارع للمرة الأولى منذ سنوات. أصوات مشحونة بالتوتر، عناصر أمن يصرخون في بعضهم البعض، ورئيس الفرع يبقى داخل المبنى حتى وقت متأخر".
"كان واضحا أن هناك شيئا يحدث، لكن لم نكن نعرف ما هو بالضبط. كنا نتابع الأخبار بصعوبة، فالكهرباء كانت مقطوعة، والإنترنت ضعيف، وكنا نسمع الأخبار من هنا وهناك، لكن كل ما كنا متأكدين منه هو أن شيئا خطيرا سيحدث قريبا".
عند الساعة 1:30 فجرا، بدأت سيارات سوداء من نوع "فان" تصل إلى الفرع، محملة بأسلحة وذخائر، "كانوا يطفئون الكهرباء عن الحي عندما يقومون بإدخال الأسلحة حتى لا يراهم أحد، لكننا كنا نعرف، كنا نراقب من خلف الستائر. كانوا يوزعون السلاح بين بعضهم، وكأنهم يستعدون لمعركة".
في منتصف الليل، جمع رئيس فرع السياسية عناصره في باحة الفرع، وقاموا بعرض عسكري أخير. "كان المشهد سرياليا، مزيجا من الخوف والإنكار، الجنود يصرخون بأعلى أصواتهم: بالروح، بالدم، نفديك يا بشار!".
تقول فاطمة، إن نبرة الصراخ لم تكن كالسابق هذه المرة، لم تكن حماسية، بل كانت مشوبة بالخوف، وكأنهم كانوا يرددون الشعارات لإقناع أنفسهم أنهم ما زالوا يسيطرون على الوضع، "رأيناهم يجتمعون في ساحة الفرع، نحو 200 عنصر، يصرخون بحماس مزيف، يضربون بأقدامهم الأرض، لكننا كنا نعرف.. كنا نشعر أن هذا مجرد استعراض أخير قبل النهاية".
أما شهد، فتقول بدورها "كنت أريد أن أعرف ماذا يجري، فاتصلت بفاطمة لأن ما يجري في فرع السياسية المجاور لبيتها مؤشر على حالة للنظام. تواصلت معها لأسألها".
تستدرك، "في الماضي، لم نكن نتحدث بأريحية على الهاتف ولم أكن أجرؤ على سؤالها عن أحوال الفرع مثلا، فقد كنا نخاف كثيرا. لكن في تلك الليلة سألتها بوضوح: ما الذي يجري عندكم؟ وأجابتني بصوت مليء بالفرح والأمل، فعرفت أن النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة".
بدأ الناس يخرجون إلى الشرفات، البعض بدأ يكبّر، والبعض بكى، البعض زغرد لأول مرة منذ سنوات، كأننا جميعا كنا سجناء داخل منازلنا، والآن فقط أصبح بإمكاننا الخروج
بواسطة فاطمة فوّاز
تقول شهد، "أسكن في حي المزرعة، حيث تقع السفارة الروسية، وقطن بعض السكان المقربون من النظام. لاحظنا يومها أنهم بدؤوا يركبون سياراتهم ويغادرون المنطقة إلى جهة لا نعلمها، في الغالب ذهب الكثير منهم إلى الساحل".
"8 ديسمبر/كانون الأول.. فجر الحرية"في فجر 8 ديسمبر/كانون الأول الفجر، بدأ كل شيء يتغير، وجاءت لحظة الانهيار.. حين هرب الجنود وتركوا كل شيء خلفهم.
تقول "جارة السياسية" فاطمة، "بدأ الجنود في الفرع يتسللون للخروج واحدا تلو الآخر. لم يكن هناك أوامر واضحة، لكن الذعر بدأ ينتشر بينهم"، تقول فاطمة.
"استيقظنا على أصوات غير مفهومة، لم تكن طلقات نارية، بل كانت أصوات الجنود أنفسهم وهم يخلعون بدلاتهم العسكرية بسرعة، كأنهم يريدون محو أي دليل على أنهم كانوا جزءا من هذا المكان".
ثم بدأت اللحظة التي لن تنساها فاطمة أبدا، "سمعنا الجنود يصرخون: ‘لك مشان الله خذني معك! لا تتركني هون!’".
لم يكن واحدا فقط، كانوا عدة جنود، يهرولون بين بعضهم، يحاولون الهروب، بعضهم كان يحمل سلاحه، وبعضهم كان يرميه على الأرض ويفرّ هاربا بملابس مدنية.
"كان المشهد جنونيا، كأنهم لم يعودوا جنودا، بل مجرد رجال مذعورين فقدوا السيطرة. البعض كان يقف حائرا، لا يعرف إلى أين يذهب، والآخرون كانوا يصعدون إلى سيارات ويغادرون مسرعين".
لكن الحدث الأغرب لم يكن هروبهم، بل ما فعلوه قبل رحيلهم، "تلغيم الفرع وكأنهم يصرون على ألا يرحلوا قبل ارتكاب جريمة أخيرة! سمعنا أنهم زرعوا المتفجرات داخل الفرع قبل أن يرحلوا. لم يخرج الكثير من المعتقلين، إذ يبدو أنهم لم يبقوا سوى على عدد محدود جدا منهم في الآونة الأخيرة، ولم يتجاوز عدد الذين خرجوا بعد التحرير الـ20 شخصا".
عندما خرج آخر عنصر من الفرع، عندما فرّ الجنود وأصبح المكان خاليا تماما، خرجت فاطمة إلى شرفتها، "كنا نشعر شعورا غريبا يمزج بين الخوف من المجهول المختلط بالسعادة الشديدة، هل هم راحلون فعلا؟ هل هي النهاية؟ هل سيعودون مرة أخرى؟".
كانت لحظة صمت، ثم بدأت النوافذ الأخرى تُفتح، وكأن الجميع كانوا ينتظرون من يتجرأ أولا.
"بدأ الناس يخرجون إلى الشرفات، البعض بدأ يكبّر، والبعض بكى، البعض زغرد لأول مرة منذ سنوات، كأننا جميعا كنا سجناء داخل منازلنا، والآن فقط أصبح بإمكاننا الخروج".
تقول فاطمة، "لم أستطع أن أتمالك نفسي، فزلغطت -زغردت-، وكذلك فعلت الكثير من نساء الحي".
نهاية حقبة مظلمة.. وبداية عصر جديدهكذا، وخلال أيام معدودة، انتهت حقبة مظلمة من الرعب طالت أكثر من 5 عقود. انهار النظام الذي حكم بالقوة، تهاوى الفرع الذي كان رمزا للخوف، وفرّ الجنود الذين ظنّوا يوما أنهم باقون للأبد.
الفرحة اللي عشناها.. فرحة ما بعدها فرحة. وأنا شديدة التفاؤل
بواسطة شهد العبيّة
تجلس فاطمة، تحملق في الفراغ، وعيناها ممتلئتان بالدموع، وصوتها يتهدج بغصة عمرها سنوات، "لو صادفتُ أحدا من هؤلاء العساكر في الشارع اليوم، سأسأله: لماذا؟ لماذا فعلت ذلك؟ ماذا فعلنا لكم حتى تفعلوا بنا هذا؟ نحن جيرانكم، حتى في أيام رمضان كنا ننزل لكم الإفطار، كنا نشعر بكم، كنا نراكم مساكين، فلماذا عاملتمونا كأعداء؟ لماذا فعلتم هذا بالشعب؟!".
أما شهد، فلم يكن في قلبها سوى إحساس واحد، إحساس لطالما انتظرته، إحساس لم يكن يوما بهذا الصفاء، فتغمض عينيها وتأخذ نفسا عميقا قبل أن تقول، "الفرحة اللي عشناها.. فرحة ما بعدها فرحة. وأنا شديدة التفاؤل".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات قمة الويب دیسمبر کانون الأول فرع الأمن السیاسی بهذه الطریقة لم یکن هناک کانوا ی لم تکن بل کان حتى فی
إقرأ أيضاً:
حكايات أفريقية على أثير تشعل مواجهة حادة بين الشنقيطي ومدير مخابرات موريتانيا الأسبق
بعد أكثر من 23 عاما من لقائهما الأول وربما الأخير في أقبية إدارة الأمن الموريتانية، عاد لهب السجال إلى المواجهة من جديد بين المفكر والكاتب الموريتاني محمد المختار الشنقيطي ومدير المخابرات الموريتاني الأسبق دداهي ولد عبد الله، بعد تصريحات للشنقيطي في برنامج "حكايات أفريقية" على منصة أثير التابعة لشبكة الجزيرة، تحدث فيها عن توقيفه لدى إدارة الأمن الموريتانية في العام 2002، في واحدة من شرفات الذاكرة التي أثارتها أسئلة الزميل أحمد فال ولد الدين عبر "أثير" الحكايات الأفريقية.
ليس الشنقيطي اسما عابرا في الجدل السياسي الموريتاني الحديث، كما أن دداهي ولد عبد الله أيضا اسم لا يمكن أن يغيب عن ذاكرة السياسيين إذا ما نثروا كنانة الذكريات، خلال 3 عقود على الأقل من التاريخ المعاصر لموريتانيا.
ورغم أن الرجلين ليسا فرسي رهان، فقد كانا طرفي نقيض في توجهاتهما السياسية والفكرية، وإن كان كل منهما مبرزا في مجاله، ومتبتلا في محراب تخصصه.
بدأت قصة الرجلين في العام 2002 من "الجريف"، تلك القرية الهادئة التي تغفو في أحضان جبال سوداء، وبين بطحاء فضية التربة، وبين ذلك السواد والبياض، عاشت "الجريف" لعقود، ولا تزال، أريج القرآن ونمير التلاوة وصوت المؤذنين ومناجاة الذاكرين.
كان الشنقيطي يقضي هناك إجازة قصيرة قادما من الولايات المتحدة بعد مداخلة قوية له في برنامج الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة، انتقد فيها بشدة قرار النظام الموريتاني حينها بإقامة علاقات مع إسرائيل، وهي المداخلة التي تركت صدى قويا داخل الساحة الموريتانية.
وخلال ذلك، تفاجأ بعناصر من الشرطة تقتحم القرية الوادعة، وتقتاده إلى مدينة النعمة عاصمة ولاية الحوض الشرقي (على بعد 1200 كيلومتر شرقي العاصمة نواكشوط)، قبل أن تنقله إلى العاصمة، وتحديدا إلى إدارة أمن الدولة (المخابرات)، حيث واجه هناك مديرها دداهي ولد عبد الله، للمرة الأولى وحقق معه أكثر من مرة، كما قال الشنقيطي، الذي كان الإعلام الرسمي وشبه الرسمي يومها يرى فيه خصما سياسيا عنيفا، خصوصا مع انتقاداته المتواصلة والقوية للتطبيع.
إعلانتحدث ابن قرية الجريف والمعتقل السياسي السابق في حلقة برنامج أثير -التي لقيت صدى واسعا في موريتانيا وخارجها- عن بعض ذكريات الاعتقال وشذرات من الاستجواب، وكان من الطرائف التي تحدث عنها، ترجمة مدير الأمن لكلمة "الأباة" التي ذكرها الشنقيطي في بيت من الشعر، إلى الآباء، حيث اعتبر أنها تعني الأب الكبير (الجد)، وذلك عندما كان يحول أجوبة الشنقيطي من العربية إلى الفرنسية في إملائه على كاتبه.
ويبدو أن تصريحات الشنقيطي تلك كانت حارقة جدا، ولهبا يجري بين الدماء والعروق، ولذلك لم يستطع دداهي تركها تمر، فجاء تعليقه نافيا للرواية من الأساس، وجازما بأنها أسطورة مما اكتتبها الرجل، فهي تملى عليه بكرة وأصيلا.
خرج دداهي في منشور على الفيسبوك، ثم تصريحات خاصة للجزيرة نت لاحقا، لينفي بوضوح أن يكون قد استجوب الشنقيطي أو عرفه من الأساس، وأكثر من ذلك نفى عنه أهم صفة عرف بها، وهي الفكر والثقافة، معتبرا أن تصريحاته المذكورة كذبة لا أساس لها، وأنها "أعلى تلفيق صنعه الشنقيطي بنفسه"، مؤكدًا أنه لم يستجوبه مطلقا خلال فترة عمله التي امتدت 28 سنة بين إدارة أمن الدولة وجهاز المخابرات، وأنه لم يره أو يسمع به مطلقًا، قبل العام 2017، حينما سمعه يتحدث بسلبية عن الرئيس الراحل اعل ولد محمد فال رحمه الله، عقب وفاته.
واستفاض دداهي في الإنكار على الشنقيطي، داعيا إياه إلى التوبة مما وصفها بالكذبة التاريخية، خاتما بأن ما تحدث عنه الشنقيطي لا يمت للحقيقة بصلة.
وثيقة تحسم الجدلدقائق بعد انتشار تدوينة دداهي ولد عبد الله، بدأت منصات التواصل تغلى في موريتانيا، بين الاتجاه والاتجاه المعاكس، بين مشكك فيما قاله الشنقيطي، وآخر جازم بصدق ومصداقية ما ذهب إليه، ومعززا رأيه بأن مدير الأمن دداهي طالما كذب حقائق ماثلة، وله سجل طويل في ابتزاز السياسيين والزعم بأن تصريحاتهم بشأن تحقيقاته معهم مجرد كذبة، خصوصا أن الجميع لم يكن يملك في الغالب من أدلة سوى ما تحتضنه ذاكرة المعتقل، وأضابير السنين من صعقات كهربائية، أو جلد بالسياط، أو إرغام على السهر طيلة الليل، ضمن أحاديث متعددة، تتردد بكثرة لدى السجناء السياسيين السابقين في موريتانيا.
ولكن الانتظار لم يطل كثيرا، فقد أخرج الموثق والباحث المهتم بتوثيق التاريخ السياسي الموريتاني إسماعيل ولد موسى ولد الشيخ سيديا من أرشيفه الثري واجهة عدد من صحيفة الراية المحظورة سنة 2002، يتحدث العدد بالصورة والعنوان الواضح عن اعتقال الشنقيطي، وضمن التفاصيل أسطر عن اعتذار مدير المخابرات الموريتانية الأسبق دداهي ولد عبد الله للمعتقل محمد بن المختار بن سيدي مولود الشهير بالشنقيطي.
وبعد وقت قصير شارك الشنقيطي صورة الصحيفة، مع تعليق قوي يؤكد احتقاره للظلمة، ليغرق الفيسبوك الموريتاني من جديد في موجة تبكيت للرجل الأقوى طوال 20 سنة من حكم ابن عمه الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، بعد موجة أخرى من الإشادة والزهو بمضامين مقابلة الشنقيطي مع بودكاست حكايات أفريقية على منصة أثير، وما طبعها من إشراقات معرفية وطرافة، وما كشفته من محطات وصروف متعددة من حياة الرجل الذي حمل اسم شنقيط، وبها أصبح واحدا من أبرز مشاهير الفكر الإسلامي في عالم اليوم.
إعلانومع ذلك فقد اختار دداهي الاستمرار في تأكيد أنه لم يستجوب الشنقيطي ولم يدخل إدارة أمن الدولة طيلة عمله في هذا القطاع.
ثم عاد في تصريحاته اللاحقة للجزيرة نت ليؤكد أن الشنقيطي لم يدخل إدارة أمن الدولة مطلقا، ولم يمر عليه اسمه في أي تقرير أو محضر، وأنه لم يره ولم يسمع به قبل العام 2017 إثر حديثه عن الرئيس الراحل اعل ولد محمد فال، وأنه لم يعد يطيقه بسبب ذلك الحديث، وصار يصرف النظر عنه، أو يغلق شاشة قناة الجزيرة عندما يراه يتحدث عبرها.
كسرا لموجة الإعجابوبعد نشر صورة الصحيفة وإصرار ولد عبد الله على نفي قصة الاعتقال المعروفة لدى الذين عايشوا تلك المرحلة من تاريخ البلاد من موقع المتابعة السياسية والإعلامية، ثارت أسئلة الاستغراب لدى كثير من الموريتانيين، خصوصا أنهم ذكروا أن هذا الاستجواب ليس إلا واحدا من مئات أو ربما آلاف جلسات التحقيق التي أدارها وأشرف عليها المدير المذكور طيلة 3 عقود هي الأصعب والأعتى في التاريخ السياسي الموريتاني المعاصر.
فذهب بعض المدونين إلى أن دداهي، ورغم أنه أحيل للتقاعد منذ سنوات، فقد استجاب -ربما- لخلفيته الأمنية، وقرر تطوعا الإسهام في كسر صورة الإعجاب التي حظي بها الشنقيطي جراء مقابلته الشاملة مع منصة أثير، وهي المقابلة التي هيمنت طيلة أيام على ساحة التدوين في موريتانيا وأصبحت مقاطعها القصيرة وما ورد فيها الشغل الشاغل للناس حديثا وتداولا.
في حين ذهب أحد المدونين إلى أن دداهي "عاد أركاج" في استذكار لعبارة للرئيس الأسبق لموريتانيا المختار ولد داداه تعليقا على حديث لأحد وزرائه السابقين عندما وجه إلى ولد داداه اتهامات متعددة بالفساد وسوء الإدارة بعد أن غادرا السلطة، ليعلق ولد داداه بأن وزيره السابق "عاد أركاج" أي أصبح مسنا، وهو ما يعني أنه قريب من الخرف.
مدونون آخرون، ذهبوا مذهبا آخر في التفسير، مشيرين إلى أن دداهي دأب على تكذيب روايات المعتقلين السابقين، وكان يتوقع أن يتجاهل الشنقيطي اتهاماته كما فعل آخرون مثل المعتقل السابق في غوانتنامو محمدو ولد صلاحي، الذي قابل بالصمت والمسامحة تكذيب دداهي له، بل واتهامه له علنا بأنه كان عميلا للأمن الموريتاني، وأن إدارة الأمن الموريتانية أرسلته في مهمة أمنية إلى الولايات المتحدة الأميركية، مؤكدين أنه "ما كل مرة تسلم الجرة".
واستغرب البعض إصرار ولد عبد الله نفي أي معرفة أو علم له بالشنقيطي، والحال أن الأخير عرف في موريتانيا أولا كقائد لنقابة التعليم الثانوي ذات الحضور النقابي الكبير في البلاد، ثم كمعارض وحقوقي مناصر للحرية ومدافع شرس عنها، قبل أن يشق طريقه نحو العالمية كاتبا ومفكرا، وضيفا دائما على البرامج الحوارية في القنوات الفضائية ومنصات التواصل.
ورأى بعضهم أن ذلك الإصرار يهدم رواية ولد عبد الله من أساسها، ويقوض أكثر من ذلك اتهامات مشابهة أطلقها تعليقا على روايات معتقلين سياسيين سابقين، ويعطي انطباعا "بأنه إما يتعمد إنكار الحقائق وإما يعاني بالفعل من خلل في ذاكرته"، وفق أحد المدونين.
وخلال ذلك، تحولت موجة النكير على دداهي إلى السخرية، حيث تذهب إحدى المدونات إلى أنه سينفي في تصريحه القادم، أو -تكذيبه الآتي- أن يكون قد عمل أصلا مديرا لأمن الدولة في موريتانيا.
وعلى المنوال نفسه يقتبس معلق آخر ساخرا مما وصفه بالمقابلة القادمة لدداهي قوله المفترض: "لم أسمع يوما بدولة اسمها موريتانيا ولا رئيس اسمه ولد الطايع ولم أسمع بوظيفة يوصف صاحبها بمدير أمن الدولة".
الشنقيطي: دداهي لم يستفد من تاريخه غير العارأما بالنسبة للشنقيطي الذي وجد نفسه فجأة في دائرة الاتهام من قبل أشهر مدير للمخابرات في تاريخ البلاد، في غمرة سيل الإعجاب بمقابلته التي تحولت إلى إحدى أكثر المقابلات التي حظيت بتداول واهتمام واسع من المدونين الموريتانيين، فلم يترك مسألة تكذيب دداهي له تمر مر الكرام، وعلى عكس متهمين سابقين نفى الرجل كل ما قالوا، فقد جاء رد الشنقيطي منتقدا بقوة للرجل وتاريخه ومشددا النكير عليه.
إعلانويؤكد الشنقيطي في تصريح للجزيرة نت أنه "لم يستغرب الكذب الصراح في تعليق مدير إدارة أمن الدولة الأسبق في موريتانيا، المفوض دداهي ولد عبد الله. فإدمان الكذب جزء من مهنة سلخ فيها حياته، والذي يستبيح التعذيب والقتل يستعذب التدليس والكذب"، وفق تعبيره.
ويضيف الشنقيطي قائلا "إنما أستغرب تراجع مستوى الذكاء لدى المفوض العتيد، وهو ينكر حادثة اعتقال شهد عليها بلد كامل، بما فيه من سياسيين وإعلاميين ومثقفين، ونشرت عنها الصحف الوطنية يومها.. نعوذ بالله من الرد إلى أرذل العمر".
ولا يخفي الشنقيطي احتفاءه بموجة التكريم والتقدير والدفاع التي واكبه به الموريتانيون، وخصوصا تلك القصاصة الصحفية التي أيقظها المؤرخ إسماعيل ولد الشيخ سيديا من مرقد دام 23 سنة، مضيفا في تصريحه للجزيرة نت "أشكر المؤرخ البحاثة إسماعيل ولد الشيخ سيديا، الذي نشر الأرشيف الإعلامي عن الموضوع "فبُهتَ الذي أنكر"، كما علَّق أحد الزملاء. والدكتور إسماعيل أهلٌ لإحقاق الحق وإبطال الباطل:
ولا غرو إن طابت صنائع ماجد* *كريمٍ فماءُ العود من حيث يُعصرُ".
"كبير الزبانية"ويواصل الشنقيطي انتقاده الشديد لرجل الأمن الأشهر في تاريخ موريتانيا دداهي ولد عبد الله معتبرا أن ولد عبد الله قد "عمل كبيرا لزبانية الرئيس الموريتاني الأسبق على مدى عقدين من الزمان، وأدمن القيام بدور الحاكم بأمره، الذي يستبيح أرواح الناس، وينتهك حرماتهم بغير حق".
وقال إنه اكتفى من قصته معه بسرد طرفة أدبية أراد بها "كشف مستوى البلادة لدى أولئك الذين كانوا يتحكمون في رقاب شعبنا خلال ذلك العهد الأغبر".
ويجدد الشنقيطي تمسكه بصدقية تصريحاته "لم أتجاوز الحقيقة فيما ذكرته قيد أنملة، ولم أهتم ببسط الحديث في الموضوع. ولو أردتُ الحديث عن قبائح ذلك العهد لأطلقت للساني العنان غير واجل. لكن الرجل لا يستحق مني ذلك الاهتمام، ويوجد من ضحايا ظلمه من هم أولى بذلك مني، خصوصا أن اعتقالي عنده لم يدم سوى بضعة أيام، ولم يتضمن التعذيب والإهانة التي عومل بها آلاف من بني وطني على يديه الآثمتين".
ولا يجد الشنقيطي أي غضاضة في وصف تاريخ دداهي بالقميء والقاتم معتبرا في حديثه للجزيرة نت أن "المفوض دداهي لا يزال يحنُّ إلى استعادة ذلك التاريخ القميء، والصفحة القاتمة من تاريخ موريتانيا، حيث القتل تحت التعذيب، والاعتقال التعسفي، وامتهان علماء الإسلام في بلد عريق في الإسلام، واضطهاد الذين يأمرون بالقسط من الناس".
دعوة للندم والاستغفاريرى الشنقيطي أن ولد عبد الله قد خيب ظن الموريتانيين حيث كانوا يتوقعون منه "أن يقضي أواخر عمره نادما مستغفرا، ومطالبا ممن ظلمهم أن يُحِلُّوه من مظالمهم، قبل أن يأخذه الله بها أخذ عزيز مقتدر، وهو في حال إصرار واستكبار. لكن ما ظهر من أحاديثه في الأيام الأخيرة يدل على العكس تماما، فقد أنكر -زورا وكذبا- أنه استجوبني. ثم عاد فحدث زملاء إعلاميين بأنه استجوب كل الناس ممن هم أهم وأفضل مني، وأنه لم يندم على فعلٍ فعله قط مهما يكن فيه من إساءة".
وينفي الشنقيطي بوضوح أن يكون ولد عبد الله كان في شك من أمره، حينما استقدمه في سيارة شرطة من أقصى الشرق حوالي 1200 كيلومتر إلى نواكشوط، معتبرا أن "ادعاءات المدافعين عنه الآن بأني خلطتُ بينه وبين شخص آخر، أو أنه لم يعرفني باسم "الشنقيطي" حين اعتقلني (وهو إنما اعتقلني بسبب مداخلة عبر "الجزيرة" بالاسم نفسه) فهي تلفيقات باردة، لا تمت للحق والواقع بصلة.
ويختم الشنقيطي بتذكير دداهي بأن "يعرف أنه لم يجن من اعتقالي واعتقال غيري سوى العار والهزيمة، وما أظنه نسي منازلتنا له ولرئيسه على منبر "المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان" وهما في عز سطوتهما، ولا أحسبه يتمنى عودة تلك المنازلات بعد أن رُدَّ إلى أرذل العمر".
سجلات من التعذيب وسجل من التكذيبدخل دداهي ولد عبد الله المؤسسة الأمنية منتصف السبعينيات، وعمل أولا في بعض المفوضيات الصغيرة في نواكشوط، ولاحقا تم توجيهه في منحة تكوينية إلى الخارج استمرت سنة كاملة، قبل أن يعود مفوضا ثم محققا في إدارة الأمن التي كان من أبرز عناصرها المكلفة بالملفات السياسية، ومع وصول ابن عمه الرئيس معاوية ولد الطايع إلى السلطة، أصبح دداهي رجل الأمن القوي، ومديرا للمخابرات.
وقد تعاقبت على مقعد التحقيق لديه قيادات مهمة من مختلف التيارات السياسية، من الناصريين خلال انتفاضتهم الشهيرة سنة 1982، ثم اعتقالات البعثيين منتصف الثمانينيات، وما أدت إليه من فصل مئات منهم من الجيش والأمن.
إعلانوشهدت البلاد خلال فترته اعتقالات لمتهمين بانقلابات متعددة، وسيتواصل الملف بعد ذلك مع اعتقالات الإسلاميين والمحسوبين عليهم في سنوات 1994-1997-2003-2004-2005.
كما تولى جزئيا التحقيق مع بعض المتورطين والمتهمين في المحاولات الانقلابية 2003/2004 بقيادة الرائد والنائب البرلماني الحالي صالح ولد حننا.
ومع سقوط حكم ولد الطايع في العام 2005، بدأت النهاية الأمنية والسياسية لدداهي ولد عبد الله، حيث أزيح من منصبه مديرا لأمن الدولة، قبل أن يتقاعد سنة 2015، كما حرم أيضا من ترقية كان يستحقها، ليدخل سجالا طويلا أمام المحاكم انتهى بإنصافه.
ويعمل دداهي الآن مستثمرا في مجال الزراعة في مدينته "أطار" الواقعة في الشمال الموريتاني، إضافة إلى مهمة جديدة -وفقا لمدونين- وهي تكذيب السياسيين والزعم بأن كل ما قالوا عن أدواره الأمنية لا يمت للحقيقة بصلة.
ومن أبرز من تصدى لهم دداهي القيادي البعثي الشهير دفالي ولد الشين حيث رد عليه دداهي بقوة معتبرا أن حديثه عن التعذيب مجرد كذبة، ومهددا بأن كشف كل الأوراق لا يخدم أحدا.
غير أن أكثر من تضرر مما وصفه البعض بـ"صحوة ضمير" دداهي وحضوره القوي في المجال الإعلامي هو المعتقل السابق محمدو ولد صلاحي، الذي ظل دداهي مصرا في كل خرجاته الإعلامية على أنه كان عميلا للأمن الموريتاني، وأنهم أرسلوه في مهمة أمنية إلى الولايات المتحدة.
ومع ما أثاره تكذيب دداهي لرواية الشنقيطي من سجال ساخن واتهام له بإدمان إنكار جزء كبير من تاريخه الأمني، فإن الرجل -كما يقول خصومه- سيكون ملزما أكثر من أي وقت مضى بمعرفة من سيكذبهم لاحقا وكيف سيتم تمرير ذلك التكذيب، وهو أمر لن يكون صعبا على رجل الأمن الأقوى خلال 30 سنة هي الأعتى في تاريخ موريتانيا، حتى وإن كان الجسد والذاكرة يذكرانه بأنه لم يعد ذلك المفوض القوي الذي يخلع اسمه الألباب، ويثير موجات الرعب بين المعتقلين، فقد تحورت المواقف ودالت الأيام، ولم يبق غير أضابير التاريخ، وأحاديث "متناقضة" في مرفأ الأيام.