العقيدة الإسلامية ليست مفاهيم تنحصر قيمتها في التصديق القلبي بها في حدّ ذاتها
تاريخ النشر: 4th, March 2025 GMT
العقيدة الإسلامية هي حقيقة ثابتة وشاملة تُحدد علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبالآخرين، وبالكون من حوله. فعاليتها تكمن في تحويل الإيمان إلى قوة دافعة للإصلاح والتنمية، مما يجعلها الأساس المتين لبناء الفرد والمجتمع.
الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر يواصل في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، البحث في مدلول العقيدة الإسلامية ومفرداتها.
كيف تكون المراجعة من حيث إعادة ترتيب مفردات العقيدة؟
1 ـ مدلول العقيدة
2 ـ مفردات العقيدة
أولا ـ مراجعة ذات المفردات
ثانيا ـ مراجعة الترتيب
حينما ندرج هذه المفردات في المنظومة العقدية في الوعي الإسلامي فإن ترشيد الاعتقاد يتعدّى أيضا مراجعة الترتيب الذي تكون عليه المفردات العقدية في الأذهان، بحيث تتنزّل بها مفردات العقيدة في أذهان المسلمين من حيث أحجام الاهتمام بها، وأقدار حضورها في الوعي شدّة وخفّة، ومدى استخدامها في الإيقاظ والتوجيه والدفع بحسب اعتبارات جديدة قد تخالف بها ذلك الترتيب الموروث، مراعاة للوضع الاعتقادي الذي عليه الأمة فيما آل إليه بعد عهود تخلّفها، وفيما تتعرّض له من تحدّيات عاتية في مجال معتقداتها.
ولا يخفى أنّ الوضع القائم حاليا في مراتب المفردات العقدية كما هي في وعي المسلمين هو وضع منحدر في معظمه من قرون خوال أفضت إليه أيلولة الفكر العقدي الإسلامي إلى الجمود على الموروث الواصل إليه، فاستصحب فيما استصحب ترتيب المفردات كما كان عليه الأمر في قرون النضج والاكتمال لعلم العقيدة الثالث والرابع والخامس للهجرة، وكما انغلقت عليه مدوّنات علم العقيدة منذ ذلك الحين.
والمتأمّل في هذا الوضع الحالي لمراتب المفردات العقدية في الوعي العقدي للكثير من المسلمين بل لمعظمهم، كما يبدو في اهتمامات الدعاة، وفي مؤلفات العقيدة، وفي مناهج التعليم، فضلا عن تصوّر العامّة من أفراد المسلمين، يجد أن هذا الترتيب لتلك المفردات تحكمه اعتبارات يعود بعضها إلى تحدّيات قديمة كانت قد وردت على العقيدة الإسلامية في القرون الأولى، ففرضت حينذاك اهتماماً ببعض مفردات العقيدة، وإذا بذلك الاهتمام يستصحب إلى الآن مع زوال التحدّيات التي اقتضته في ذلك الزمن. ويعود بعضها إلى خصومات وخلافات منهجية بين الفرق المختلفة، فكانت بعض المسائل يبرزها ذلك الخلاف، وتتّخذ الآراء فيها متمسّكا للتميّز والاستقلالية المنهجية. وربما عاد بعض منها إلى ولع الخيال الشعبي بأخبار المغيبات والخوارق فتبرز المسائل العقدية ذات الصلة بذلك.
وهكذا نجد بحسب هذه الاعتبارات مسائل عقدية ذات صفة جزئية ثانوية تحتلّ مركزا مهمّا في حجم الاهتمام به، وتتقدّم على مسائل أخرى ذات أهمية حقيقية في البناء العقدي الإسلامي، ومن الأمثلة على ذلك مسائل العلاقة بين ذات الله وصفاته، وخلق القرآن، ورؤية الله، وتأويل الصفات الخبرية، والشفاعة، وطبيعة الجنة والنار والجنّ وأحكامه، فهذه المسائل وأمثالها إنما أخذت من الاهتمام حيزا كبيراً لظروف وأحداث معينة، أو لخصومات ونزاعات بين الفرق، وأكثر ذلك لم يبق منه اليوم شيء، ويكفي في الاعتقاد بها تحكيم خبر نصّي من القرآن والحديث لتستقرّ في مكانها الطبيعي من الوعي العقدي للمسلم.
والحقيقة أن ترتّب المفردات العقدية في منازل الوعي العقدي للمسلم نوعان: ترتّب بحسب ذات المفردات، وتتقدّم فيه الأصول على الفروع، والكلّيات على الجزئيات، وهو الذي ينبغي أن تستقرّ عقيدة المسلم عليه: إيمانا بالله وبالنبوّة وبالبعث، ثم بسائر التفاصيل فيها، وسائر الغيبيات التي جاء بها الخبر الشرعي. وترتب دعوي تقتضيه متطلّبات الدعوة، فتقدّم بحسب هذه المتطلبات من حيث حجم الاهتمام مسائل وتؤخّر أخرى للدفاع عنها في هجوم موجّه إليها، أو لإحيائها من غفلة طرأت عليها، أو لتحريض المسلمين بها ودفعهم إلى الحركة والنهوض للبناء الحضاري.
وبحسب هذا النوع يقتضي الحال في واقع الأمة اليوم أن يتأخر في وعيها العقدي مفردات كثيرة كتلك التي ذكرناها قريبا متعلقة بالذات والصفات وبخلق القرآن وما شابهها، وأن تتقدّم لتصبح في صدارة الاهتمام مفردات أخرى كتلك التي أوردناها آنفا متعلقة بالإنسان ومهمة وجوده، وبالمجتمع وتكافله وما شابهها، والتي كانت مسحوبة من دائرة المدلول الاعتقادي، فإن تلك المفردات هي الكفيلة اليوم بإيقاظ الأمة من غفلتها، ودفعها لتعاود الحركة، وتبني الحياة الخلافية بارتفاق الكون والشهادة على الناس كما سنبينه بعد، ولا يخفى أن قصدنا بتقديم هذه المسائل في الترتيب، إنما هو في نطاق الحقائق الأساسية للاعتقاد وليس تقديما لها عليها لا في الترتيب الذاتي، ولا في الترتيب الدعوي.
لا يكفي فيما نرى أن تُراجع العقيدة من حيث مدلولها ومفرداتها، وإنما ينبغي أن تمتدّ المراجعة إلى تفعيلها، فهذه العقيدة وهي التي كما ذكرناه توجّه مجمل الحياة وتطبعها بطابعها لا تكون كفيلة بأن تقوم بهذا الدور على وجهه الأفضل بمجرد حلولها في التصور على سبيل الإيمان مهما يكن عليه ذلك الحلول من سطحية ومن تقليدية وراثيةوحينما ينتظم فهم العقيدة على الأسس التي بيناها فيما يتعلق بمصدر العقيدة ومدلولها ومفرداتها، فإن ذلك سينعكس لا محالة رشادا في تصوّر العقيدة التصور الصحيح كماهي علي
وحينما ينتظم فهم العقيدة على الأسس التي بيناها فيما يتعلق بمصدر العقيدة ومدلولها ومفرداتها، فإن ذلك سينعكس لا محالة رشادا في تصوّر العقيدة التصوّر الصّحيح كما هي عليه في مصادرها، وكما كانت عليه في عهد السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، أولئك الذين اندفعوا بتصوّرهم ذاك يعمّرون في الأرض تعميرا شاملا، فإن انحراف التصوّر واضطرابه إنما ينشأ عن خلل الفهم، فإذا ما رشد الفهم رشد أيضًا التصوّر الحاصل منه، فيكون ذلك عاملا أساسيا من عوامل تحفّز الأمّة للنهوض، إذ التحضّر الإسلامي لا يقوم إلا على التّصوّر العقدي الصحيح سواء في حال الابتداء كما كان، أو في حال الاستئناف كما نرجو أن يكون.
3 ـ تفعيل العقيدة
لا يكفي فيما نرى أن تُراجع العقيدة من حيث مدلولها ومفرداتها، وإنما ينبغي أن تمتدّ المراجعة إلى تفعيلها، فهذه العقيدة وهي التي كما ذكرناه توجّه مجمل الحياة وتطبعها بطابعها لا تكون كفيلة بأن تقوم بهذا الدور على وجهه الأفضل بمجرد حلولها في التصور على سبيل الإيمان مهما يكن عليه ذلك الحلول من سطحية ومن تقليدية وراثية؛ لأنها في هذه الحال لا تكون مكتسبة من قوّة الدفع ما تحرّك به النفوس إلى العزم، وتدفع به الإرادة إلى الفعل، فيقصر المسلم إذن عن أن ينطلق في إنجاز المقتضيات العملية السلوكية التي تقتضيها المعتقدات النظرية التصورية، وهو الأمر الذي وقع فيه المسلمون في بعض تاريخهم، وأحسب أنهم يقعون اليوم في شطر كبير منه هو الذي يمكن أن تفسّر به عطالتهم عن الإنجاز الحضاري، وذلك أمر يدعو إلى مراجعة المعتقدات التي يتحمّلها المسلمون إيمانا من حيث ما تكون به فاعلة في النفوس، دافعة نحو الفعل، وهو ما يمكن أن يتمّ من خلال طرق متعدّدة.
أولا ـ التأطير العقدي الشامل
ليست العقيدة الإسلامية مفاهيم تنحصر قيمتها في التصديق القلبي بها في حدّ ذاتها، وإنما ذلك جزء من قيمة الإيمان بها فحسب، باعتبار أن معرفة الحق والإيمان به فضيلة مطلوبة في ذاتها، والجزء الثاني من تلك القيمة هو ما يحدثه الإيمان بالعقيدة من أثر شامل في حياة الإنسان الفكرية والعلمية. وتلك نقطة فارقة بين العقيدة الإسلامية وبين سائر العقائد في المذاهب والأديان.
وفي نصوص القرآن والحديث تأكيد مستمر على هذه الحقيقة، وإرشاد دائم إليها، علما من الله تعالى بسرعة ما يقع للناس من الانحراف فيها بالفصل بين الاعتقاد وبين العمل الفكري والسلوكي، وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران/191) الذي يجعل التفكّر في خلق الله من مظاهر الكون بعدا من أبعاد الإيمان بالله،
وقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ.../النور55
وقد ازداد هذا الانفصال بين الإيمان والعلم استفحالاً في واقع الأمّة لما نبتت فيها طائفة لا تكتفي بتأخير الأعمال غفلة وجهلا، ولكنها تؤمن بذلك مبدأ نظريا، وتعدّه فهمًا من أفهام الدين، وإذا كانت هذه النابتة قليلة العدد في إطار الأمة الواسعة، إلا أنها تسيطر على حظوظ الأمّة ومواقع القرار فيها، فأجرت الحياة العامّة على نمط لا صلة له بالعقيدة التي تبقى إيمانا مجردا في الأذهان لا علاقة له بتوجيه الحياة، وتلك النزعة هي المعروفة بالعلمانية في نوعها الذي لا يجحد المعتقدات ولكنه يراها حبيسة الشأن الشخصي غير معنية بالشأن العام.
ويقتضي ترشيد الاعتقاد في الذهنية الإسلامية أن تراجع في الأذهان علاقة المعتقد بالسلوك في اتجاه أن يعاد ربط الصلة بين الإيمان بالعقيدة وبين كل نوازع المؤمن إلى الفكر والعمل، بحيث يكون ما يعمر العقل من الاعتقاد كالإطار الذي يحيط بكل فكر وبكل عمل، أو كالمرجع الذي ينطلق منه ويعود إليه كل تصرّف المسلم بالفكر وبالسلوك.
إقرأ أيضا: العقيدة الإسلامية أساس الدين كله والمرجع الذي يوجّه الأحكام..
إقرأ أيضا: العقيدة الإسلامية من الدلالة الغيبية النظرية المؤسّسة إلى البعد العملي
إقرأ أيضا: ترشيد مدلول العقيدة في تصوّر المسلمين يستلزم نظرا جديدا في المفردات
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير العقيدة مفاهيم الدين دين عقيدة مفاهيم مقومات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العقیدة الإسلامیة العقدیة فی ب المفردات العقیدة من ت العقیدة ر العقیدة من حیث
إقرأ أيضاً:
غزة ليست الحصار .. غزة هي السؤال
يتصور البعض أن الخطاب العربي السياسي العاجز تماما عن أي فعل حقيقي تجاه أطفال غزة الذين يبادون بالنار والجوع أمام أنظار العالم هو ذروة المأساة العربية، لكن الحقيقة أن مأساة غزة رغم مرارتها وقسوتها وجه واحد من وجوه كثيرة جدا لمآسي الأمة العربية العميقة، ووجه من وجوه انكشافها الحضاري، وأزمتها الفكرية التي لم تستطع تجاوزها بعد. وهذه الوجوه التي نراها في غزة وفي سوريا وفي لبنان وفي العراق والسودان وليبيا وفي بنية الوعي العربي عامة ليست مفاجئة لمن يقرأ البنية العميقة للعقل العربي خلال القرن الأخير على أقل تقدير؛ ولذلك لا غرابة أبدا ألا يكون لدى الأمة العربية موقف حضاري مما يحدث في غزة. والحقيقة أنها لم يكن لديها موقف حضاري مما حدث قبل ذلك في العراق، ومما قد يحدث في قادم الأيام في دول عربية أخرى؛ والسبب أنها وصلت إلى مرحلة باتت فيه غير قادرة تماما على بناء المواقف الحضارية تجاه قضاياها قبل القضايا الإنسانية العامة بعد أن وصلت إلى حالة من الانسداد الحضاري.
نشر مفكرون عرب كثر خلال العقود الخمسة الماضية أطروحات ناقشت هذه الأزمة الحضارية التي تمر بها بنية العقل العربي لا من خلال الأحداث السياسية اليومية، ولكن عبر الغوص في بنية العقل، وما يحيط به من قيود النص، وقدرته على الإبداع، والخيال، والإنتاج المستقل، والبنى الثابتة التي حالت كثيرا دون تشكيل مشروع حضاري عربي قادر على مواكبة الحداثة بمعناها العميق والمبدع والمنتج لا بمعناها الشكلي والاستهلاكي. لكن تلك الأطروحات بقيت في أفضل الأحوال نخبوية وبعيدة عن التبني من قبل المؤسسات البحثية والأكاديمية التي تصنع الأجيال العربية، فيما حورب الكثير منها تحت دعاوى مختلفة وواهية؛ الأمر الذي فاقم الأزمات العربية، وجعل الأمة أقرب إلى أن تكون رخوة ومنكشفة حضاريا منها إلى أمة صلبة وقادرة على الإبداع. فعصفت بها الأوهام، وسيطرت عليها الخطابات الشعبوية، وكثر الدجالون، وغاب المفكرون الحقيقيون، بل غابت الفلسفة والمنطق عن أمة كانت متقدمة في إنتاج المعرفة وبشكل خاص الفلسفة والمنطق.
وأمام هذا المشهد وهذه المعطيات لا غرابة أبدا أن يكون الوضع العربي كما نراه اليوم، عالم يكاد يكون بلا موقف حضاري، ولا فعل ثقافي، فهذا ما جنته الأمة على نفسها قبل أن يجنيه عليها الآخرون، وقبل أن تعيد اجترار نظرية المؤامرة، وهي وإن كانت حقيقية إلا أن الأمة نفسها فتحت المساحة للمؤامرات لتبني لها بنى راسخة في العقل العربي قبل مؤسساته.
ناقش جورج طرابيشي على مدى عقود قيود الماضي والتراث خلال مشروعه لنقد العقل العربي، كما ناقش محمد أركون البنى الدوغمائية التي تحرس «اللامفكر فيه» مؤكدا أن لا تقدم في ظل غياب العقل النقدي والإنساني في بنية الفكر العربي الإسلامي. وهكذا فعل نصر حامد أبو زيد، ومالك بني نبي، وعبدالإله بلقزيز، وغيرهم. ورغم أن أطروحاتهم كانت قابلة للنقاش والنقد في سياق السجال المعرفي؛ إلا أنه حتى هذا السجال اختفى من أجندات الوطن العربي، واستبدل به جدالات عقيمة وشعبوية قائمة على التكفير المذهبي، والإثني، والخطابات التعبوية التي تهدم ما تبقى للأمة، وتحاول تقويضه؛ نتيجة أحقاد تاريخية قائمة أيضا على المذهبية، والإثنية، ووهم الكيانات الوطنية.
ولذلك نحتاج أن ننظر إلى مأساة غزة من بُعد آخر لا يمثله الحدث السياسي، ولكن تعكسه المأساة الحضارية؛ لنستطيع اكتشاف حجم العطب البنيوي في بنية العقل العربي المتمثل في غياب الفعل وشلل الإرادة. ورغم التاريخ الطويل من غياب الفعل العربي الحقيقي إلا أن هذه اللحظة هي أكثر تلك اللحظات تأثيرا، وأعمقها تمثيلا لواقع ما وصلت له الأمة العربية.
وإذا كانت غزة كاشفة لمأزق الضمير العالمي، ولأخلاقه، ولقيم النظام العالمي فإنها كاشفة بشكل أكبر للمأزق الحضاري العربي الذي بدا بشكل واضح أنه خارج السياق وعيا بما يحدث، وقدرة على بناء خطاب حضاري معرفي قادر أن يشكل موقفا يتناسب وما يحدث في الأمة من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها.
وهذا الوضع العربي من الفشل والخنوع وتآكل الوعي لا يخص القيادات السياسية فقط رغم مسؤوليتها الكبيرة والأساسية، ولكنه يخص المثقف، والمؤسسات الثقافية، والفكرية، والأكاديمية، ومؤسسات التعليم، والمؤسسات «الدينية»، ومؤسسات الإعلام، ويخص الجمهور العربي. العالم العربي بكل مؤسساته مسؤول مسؤولية تضامنية وتشاركية عن الحال الذي وصلت إليه الأمة!
وإذا كان العالم يتحول جذريا أمامنا؛ حيث يعاد بناء نظام عالمي جديد تتآكل فيه الهيمنة الأمريكية على العالم، وتسقط شيئا فشيئا قطبيتها الواحدة، وتبني الصين مشروعها بكثير من الهدوء، ويعيد الذكاء الاصطناعي تعريف المعرفة ورسم حدودها- فإن العرب يبقون وسط هذا كله بلا مشروع حضاري قادر على الذهاب الآمن نحو المستقبل، ويديرون تحدياتهم الراهنة بعقلية القرون الوسطى، ومرجعية الفتنة الكبرى فيما يعيش العالم نهاية الحداثة، ويدخل إلى عصر ما بعدها.
ولذلك؛ فإن من يتفجع على ما يحدث في غزة فإنه يتفجع من حيث يدري أو لا يدري على حال الأمة ومصيرها ومستقبلها، يتفجع على الفجوة بين ما ندّعيه وما نحن عليه، وعلى التناقض بين خطاب القوة ووهم الفاعلية. لا تكشف غزة ضعفنا بقدر ما تكشف الفراغ الكبير الذي نحن فيه، ومأزق العقل العربي المحاصر بالأوهام والفراغ.
لا يتحقق الخلاص من كل هذا بوقف الحرب على غزة رغم أهميته في السياق الأخلاقي والإنساني، ولا بالانقلابات السياسية، ولا بسلام مزيف مع العدو الصهيوني، ولكن تحتاج الأمة للخلاص مما هي فيه إلى ثورة معرفية تعيد طرح مفاهيم الحرية والهوية والدين والتراث والمقدس والفلسفة والحداثة من جديد، وتحرر العقل العربي من كل القيود والأغلال التي تسيطر عليه. وهذه الثورة المعرفية لا تختص بالهوامش العربية والمراكز المزعومة، ولكن تشمل المراكز والأطراف، والعواصم ومدن المهمشين الذين لا مكان لهم في خطاب «الهوية الرسمية». والنتيجة ليس إحداث قطيعة مع الماضي أو التراث العربي، ولكن الانطلاق منه نحو المستقبل عبر قراءة العقل والذات والنصوص الثقافية العربية بشكل منطقي ومنهجي، وإعادة تعريف علاقة العربي بغيره من الحضارات بعيدا عن تصنيف الآخر باعتباره العدو اللدود بالضرورة، وأن نعيد منهجية مواقفنا مع الحضارات الأخرى بناء على منظومة القيم والمبادئ الإنسانية، وليس وفق التصنيفات الدينية والمذهبية والإثنية.
تحتاج النهضة التي نبحث عنها للعالم العربي إلى لحظة وعي، واعتراف شجاع بحالة الفشل التي وصلت لها الأمة، ثم اشتغال حقيقي لبناء وعي جديد مؤسس وفق مقولات فلسفية وفكرية وطرح معرفي، وحينها سنرى التغيير يتحقق ليس في وعي الأفراد فقط، ولكن في بنية المؤسسات السياسية، وخطاباتها الجديدة. والأمم لا تنهض بالعواطف والأمنيات، ولكن بالأفكار والعمل من أجلها، وبتحليل الهزائم، وبناء سيناريوهات لمسارات جديدة.
وهذا المسار ليس سهلا على الإطلاق، ولكنه ليس مستحيلا؛ فلا يمكن منطقا لعقل عربي حُرم من الفلسفة والنقد والتساؤل أن يُبدع فجأة مشروعا حضاريا دون أن يمر أولا عبر جراح الذات وخرائط الفقد؟
ولذلك من المهم أن ننظر في مرآة غزة إلى ما هو أبعد من الكارثة؛ ننظر إلى سؤالنا الحضاري الذي بات على هامش التاريخ قبل أن يصبح خارجه تماما. تغدو غزة بهذا المعنى مرآتنا بكل ألمها ونارها، وهي أيضا فرصتنا الأخيرة التي تمنحنا إياها الحضارة لننظر إلى أرواحنا كما هي، لا كما نُحب أن نتخيلها.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان