كان المثقف في الماضي هو الضمير الحي للمجتمع، وكان العقل الذي يستشرف المستقبل، واللسان الناطق باسم الحقيقة، حتى في مواجهة أكثر السلطات جبروتًا. أما اليوم، فقد أصبح المثقف نفسه يعيش أزمة هُوية، ليس لأنه فقد أدواته الفكرية، ولكن لأنه فقد موقعه ودوره في عالم لا يلتفت كثيرًا للمعرفة العميقة، بل بات يتجه نحو السرعة، والتبسيط المخل، والضوضاء التي تصنع الأبطال الوهميين.

لكنّ هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة الآنية، بل هي تراكم لعقود من التحولات العميقة التي مسّت بنية المجتمعات الحديثة، من تراجع دور الأيديولوجيا، إلى تلاشي المشاريع الثقافية الكبرى، وصولا إلى صعود نخب جديدة لا تستمد قوتها من المعرفة، بل من قدرتها على التأثير في عالم منصات التواصل الاجتماعي. وفي ظل هذا التحول، أصبح المثقف التقليدي يواجه معضلة وجودية: أين موقعه وسط هذا العالم الجديد؟ هل لا يزال بإمكانه أن يكون فاعلا في المجتمع، أو أنه أصبح مجرد ظاهرة من زمن مضى؟

الإجابة عن هذا السؤال معقدة، لكنها تكشف عن مفارقة جوهرية: المثقف لم يختفِ، لكنه فقد البوصلة. فبدل أن يكون قائدا للرأي، أصبح متفرجا على تحولات المجتمع، أو في أفضل الأحوال، باحثا عن دور يناسب المرحلة الجديدة؛ وهنا تكمن خطورة المأزق، إذ لم يعد التحدي مقتصرا على قدرة المثقف على فهم الواقع، بل في قدرته على التأثير فيه وسط حالة الفوضى المعلوماتية التي تصنع «المؤثرين» بدلا من «المفكرين».

ما زاد من تعقيد المشهد هو تحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة الصراع الجديدة، حيث لم يعد التنافس قائما على جودة الفكرة، بل على قدرتها على الانتشار. وفي هذا المشهد المضطرب وجد المثقف نفسه أمام خيارين: إما أن يحافظ على عمقه الفكري ويتقبل العزلة التدريجية، أو أن يلجأ إلى استراتيجيات التأثير الرقمي، وهو ما قاد بعضهم إلى تبني خطاب شعبوي يتماهى مع الجماهير، لكنه يفتقر إلى المضمون الحقيقي.

وهكذا، بدلًا من أن يكون المثقف مرجعية فكرية، أصبح في كثير من الأحيان مجرد «مؤثر» ينافس نجوم الترفيه، لكنه يفتقد إلى تأثيرهم الحقيقي. لقد تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح التفاعل الرقمي معيارا للحضور، حتى وإن كان على حساب الحقيقة والعمق.

ولكن رغم قتامة المشهد ومرارته إلا أن المثقف لا يزال يمتلك دوره، شرط أن يعيد تعريفه وفق متطلبات العصر.. فبدلا من الانزواء أو محاولة التكيف السطحي، يحتاج المثقف إلى استعادة جوهر مهمته: إنتاج المعرفة، وإثارة الأسئلة الجوهرية، وتقديم رؤية نقدية للمجتمع. لكن هذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن الواقع، بل من خلال فهم الأدوات الجديدة والتعامل معها بذكاء، دون أن يسقط في فخ الاستعراض أو البحث عن الشعبية على حساب الفكرة كما هو حاصل الآن.

إن أهم أزمات المثقف اليوم ليست في قلة الأفكار، بل في تراجع التأثير، والمهمة الحقيقية ليست في العودة إلى الماضي حيث كان للمثقف دور ومكانة، بل في قدرة المثقف على إيجاد موطئ قدم في الحاضر، وإعادة بناء دوره بوصفه صوتا نقديا مستقلا، لا كصدى لضجيج الإعلام الرقمي. فالمجتمع، مهما تغيرت وسائله، لا يزال في حاجة إلى منارة فكرية ترشده وسط العواصف، لا إلى مجرد موجّه آخر في بحر التفاهة.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

إطلاق مشاريع بحثية جزائرية معتمدة الإثنين المقبل

سيتم الإثنين المقبل بالعاصمة، إطلاق مشاريع بحثية جزائرية تم اعتمادها ضمن مبادرة التحالفات العربية للبحث العلمي والابتكار لعامي 2023 و2024.

وحسب بيان للمديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، سيجمع هذا الحدث العلمي، “نخبة من الباحثين والخبراء من مختلف الدول العربية”.

ويُقام الموعد بهدف “خلق بيئة علمية فعالة، ترتكز على الشراكة والتكامل، لمواجهة التحديات التنموية المشتركة”.

وتغطّي هذه المشاريع البحثية مجالات استراتيجية متنوعة، تشمل الزراعة والتكنولوجيا والطاقة والصحة.

وتتعلق مواضيعها بـ “الإنتاج الحيواني الذكي مناخياً في البلدان العربية” و”أنظمة الذكاء الاصطناعي الآمنة والسريعة”، و”تصنيع وتطبيق البلاستيك الحيوي”.

وتمتدّ المشاريع المذكورة لتشمل “إدخال تكنولوجيا السوائل التي تقع بين الحالتين السائلة والغازية، في القطاعات الاقتصادية الوطنية والصناعات الدوائية”.

كما تعكس المشاريع “المكانة الريادية لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي الجزائرية، وكفاءاتها العلمية القادرة على التميز عربياً ودولياً”.

وتعتبر مبادرة التحالفات العربية للبحث العلمي والابتكار من أبرز المبادرات العلمية الإقليمية. وتراهن على “توحيد الجهود البحثية في العالم العربي، لمجابهة التحديات المشتركة. من خلال إنشاء تحالفات علمية عربية متكاملة”.

وتتولى تنفيذ مشاريع استراتيجية، تتماشى مع أولويات التنمية المستدامة”. وتتكفل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي المشاركة بدعم فرقها البحثية.

كما يشرف اتحاد مجالس البحث العلمي العربية على توفير الدعم اللوجستي والتشبيك العلمي ومتابعة التنفيذ إلى جانب الترويج للنتائج.

إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

مقالات مشابهة

  • إطلاق مشاريع بحثية جزائرية معتمدة الإثنين المقبل
  • وزير العمل: حماية الأطفال ليست مجرد التزام قانوني بل استراتيجية وطنية
  • وزير المالية: الدولة ليست مجرد جهة جباية وهي حريصة على الشراكة مع القطاع الخاص
  • ترامب: الهجوم على إيران ممكن لكنه ليس وشيكا وعليها أن تقدم تنازلات
  • لبنان ودولة المواطنة: أيّ رؤية؟.. ورقة عمل في شراكة بين ملتقى التأثير المدني ومؤسَّسة كونراد آديناور – لبنان
  • ماجستير الإعلام الرقمي لـ السليمي
  • رئيس الحكومة يدعو إلى تأهيل الأحياء الجامعية و إعادة هيكلة الخريطة الجامعية
  • المثقف اللبيب الحسَّاس وفضيلة الفكر
  • إبنتي على حافة الضياع بسبب زيف المشاعر
  • هل من علاقة بين الترقيات الأكاديمية والبحث العلمي؟