كتب: علي محمود الأبرز


"لا وطنٌ يضمّنا، ولا هوية تجمعنا، نعيش على هامش التاريخ في دوامة الصراع الطائفي"، بهذه الكلمات وصف المفكر العراقي علي الوردي أزمة الطائفية التي تستنزف العراق منذ عقود. فالصراع الطائفي لم يكن مجرد عارضٍ تاريخي، بل أصبح بنية تحتية متجذرة في المشهد السياسي والاجتماعي، تغذيها عوامل داخلية وخارجية، وتجعل من العراق ساحةً دائمة للاحتقان والتوتر.


ظلال الساحل السوري على المشهد العراقي

لم تكن التطورات في الساحل السوري مجرد أزمة محلية تخص سوريا وحدها، بل وجدت طريقها إلى العراق، حيث تفاعل معها الشارع العراقي بحدة، وانقسمت مواقفه وفق الاصطفافات الطائفية التقليدية. الاشتباكات بين القوات الحكومية السورية والمكوّن العلوي هناك أعادت إلى الأذهان مشاهد الصراع الطائفي في العراق، وحفّزت موجةً من الخطابات المتشنجة التي اجتاحت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.

من جديد، أُعيد فتح الجروح القديمة، وكأن العراق لم يخرج بعد من مستنقع الحرب الطائفية التي كادت تفتك به قبل سنوات. التعليقات الملتهبة والتحليلات التي تستحضر الماضي الدامي كشفت أن الشرخ الطائفي لا يزال قائمًا، وأن أي حدث خارجي يمكن أن يعيد إشعال فتيل الأزمة من جديد.


الانتخابات العراقية: مزاد الطائفية المفتوح

كلما اقترب موعد الانتخابات، عاد الخطاب الطائفي ليأخذ موقعه في الصدارة. الأحزاب السياسية، التي كان يُفترض أن تقدم برامج تنموية واقتصادية تعالج الأزمات المتراكمة، فضّلت العودة إلى استثمار التوتر الطائفي لضمان تأييد جماهيرها.

وكما في كل دورة انتخابية، تُستخدم مصطلحات التخويف والتعبئة الطائفية كأدوات مضمونة لاستقطاب الناخبين، إذ تدرك القوى السياسية أن تأجيج المخاوف من "الآخر" هو وسيلة ناجعة لحشد التأييد الشعبي. وهكذا، تتحوّل الانتخابات في العراق إلى منافسة في صناعة الأزمات، بدل أن تكون فرصةً لحلها.


المرجعية الدينية: صمت محسوب أم موقف حذر؟

لطالما كانت المرجعية الدينية في النجف لاعبًا رئيسيًا في تهدئة الأوضاع، خصوصًا خلال الفترات الأكثر دموية في تاريخ العراق الحديث. لكنها اليوم تتخذ موقفًا أكثر حذرًا، مكتفيةً بمراقبة المشهد دون التدخل المباشر.

هل هو إدراكٌ بأن أي خطوة قد تُفسّر سياسيًا وتجرّ المرجعية إلى صراعٍ غير مرغوب فيه؟ أم أن المرجعية وصلت إلى قناعة بأن الحل ليس بيدها، وأن الطبقة السياسية باتت تستخدمها كصمام أمان لا أكثر؟ الأيام المقبلة ستكشف إن كانت ستتدخل بقوة، أم أنها ستبقى في موقع المراقب الذي يكتفي بإصدار البيانات التوجيهية.


الحكومة العراقية: وعود بلا أفعال

على الورق، ترفع الحكومة شعار "رفض الطائفية"، لكن في الواقع لا توجد خطوات ملموسة لوقف التحريض أو محاسبة المسؤولين عن تأجيجه. بل إن بعض القوى المتنفذة داخل مؤسسات الدولة نفسها تغذّي هذا الخطاب حين تجد فيه أداةً مناسبة لحماية نفوذها.

ما تزال التصريحات الرسمية حول "تعزيز الوحدة الوطنية" حبرًا على ورق، إذ تغيب أي سياسات جدّية لإعادة بناء النسيج الاجتماعي، أو لمحاسبة الإعلاميين والسياسيين الذين يكرّسون الطائفية عبر منابرهم.


الإعلام والتواصل الاجتماعي: وقود الفتنة

أصبحت وسائل الإعلام العراقية، سواءً التقليدية أو الرقمية، ميدانًا مفتوحًا للمزايدات الطائفية. القنوات الحزبية لا تتردد في تكريس الانقسام، وبرامج "الحوار السياسي" تحوّلت إلى منصات للتراشق، حيث يُطلق الضيوف اتهامات متبادلة دون أي ضوابط مهنية.

أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد تحولت إلى ساحةٍ أشد خطورة، حيث يمكن لأي خطاب تحريضي أن ينتشر كالنار في الهشيم. تغريدات ومنشورات مليئة بالكراهية تجد جمهورًا واسعًا مستعدًا لإعادة تدويرها، مما يزيد من تعقيد المشهد العراقي.

"الكراهية التي تُزرع اليوم، ستُزهر دماءً غدًا"، عبارة قد تلخص واقع الإعلام العراقي، الذي يبدو بعيدًا كل البعد عن دوره المفترض في تعزيز الوعي وتقديم خطاب جامع.


إلى أين يتجه العراق؟

إذا استمر هذا النهج، فإن العراق سيبقى عالقًا في دوامةٍ لا نهاية لها. الأزمات الطائفية المتكررة ليست مجرد أحداث معزولة، بل هي انعكاس لفشل مستمر في بناء مشروع وطني جامع.

غياب الإرادة السياسية، وتقاعس المؤسسات الدينية والثقافية عن لعب دور فعّال في رأب الصدع، يجعل من إعادة إنتاج الطائفية أمرًا حتميًا. وإذا لم يحدث تغيير جذري في طريقة إدارة الدولة والمجتمع، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار هذا الانقسام، وربما انفجاره في أي لحظة.


هل من مخرج؟

الخيار المطروح أمام العراق واضح: إما الاستمرار في استنزاف ذاته عبر صراعات لا تنتهي، أو البحث عن مسارٍ جديد يُعيد الاعتبار لفكرة المواطنة، حيث تكون الهوية العراقية جامعةً وليست ساحةً للصراعات المذهبية.

السؤال الكبير الذي يواجه العراق اليوم ليس عن الماضي، بل عن المستقبل: هل ستتمكن البلاد من كسر الحلقة المفرغة، أم ستظل رهينةً لتاريخها الدموي؟

لا أحد يملك الإجابة الحاسمة، لكن ما هو مؤكد أن الشعب العراقي يستحق مستقبلاً أفضل، بعيدًا عن أزمات الانقسام التي حوّلته إلى رهينة لصراعات لا تنتهي.

وكما قال بدر شاكر السياب:

"ما مر عامٌ والعراقُ ليس فيه جوعُ

ما مر عامٌ والعراقُ ليس فيه قهرُ"

ربما تكون هذه الكلمات تلخيصًا لحقيقة العراق: بلدٌ يمتلك من الإمكانيات ما يؤهله للنهوض، لكنه لا يزال عالقًا في دوامة أزماته، بانتظار اللحظة التي يقرر فيها كسر قيوده والمضي نحو مستقبل مختلف.


المصدر: وكالة بغداد اليوم

إقرأ أيضاً:

سعد: في زمن التيه الطائفي المذهبي البغيض تبقى صيدا منارة الرقي

كتب الأمين العام لـ "التنظيم الشعبي الناصري" النائب أسامة سعد عبر حسابه على منصة "أكس":

" في زمن السفه وحقارة الكلام وضحالة العقل ورعونة التصرف. في زمن التيه الطائفي المذهبي البغيض تبقى صيدا منارة الرقي ورجاحة العقل ورحابة الصدر وموئل الاحرار. تبقى على وطنيتها الجامعة وعروبتها الحضارية.ترذل سرديات الزمن الرديء.تصون كرامة الانسان وكرامة الوطن التحية لناسها الطيبين". مواضيع ذات صلة رئيس جيبوتي: قصف الدوحة ليس حادثا عابرا بل هو صفحة مدوية في وجه الصمت الدولي وكشف فاضح لطبيعة المشروع الاحتلالي الإسرائيلي البغيض Lebanon 24 رئيس جيبوتي: قصف الدوحة ليس حادثا عابرا بل هو صفحة مدوية في وجه الصمت الدولي وكشف فاضح لطبيعة المشروع الاحتلالي الإسرائيلي البغيض 13/10/2025 09:33:35 13/10/2025 09:33:35 Lebanon 24 Lebanon 24 التواصل مقطوع مع" حزب الله" منذ المهرجان.. سعد: مواقفي الوطنية تتجاوز المذهبية والطائفية Lebanon 24 التواصل مقطوع مع" حزب الله" منذ المهرجان.. سعد: مواقفي الوطنية تتجاوز المذهبية والطائفية 13/10/2025 09:33:35 13/10/2025 09:33:35 Lebanon 24 Lebanon 24 سعد استقبل وفد بائعي الخضار في صيدا: لحلول عادلة تحفظ الحقوق وتراعي الأوضاع Lebanon 24 سعد استقبل وفد بائعي الخضار في صيدا: لحلول عادلة تحفظ الحقوق وتراعي الأوضاع 13/10/2025 09:33:35 13/10/2025 09:33:35 Lebanon 24 Lebanon 24 سعد يلتقي مهندسي صيدا لتعزيز الوحدة الوطنية Lebanon 24 سعد يلتقي مهندسي صيدا لتعزيز الوحدة الوطنية 13/10/2025 09:33:35 13/10/2025 09:33:35 Lebanon 24 Lebanon 24 قد يعجبك أيضاً بعد 6 سنوات على توقفها.. القروض والتسليفات المصرفية عائدة!؟ Lebanon 24 بعد 6 سنوات على توقفها.. القروض والتسليفات المصرفية عائدة!؟ 09:30 | 2025-10-13 13/10/2025 09:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 غدًا... اجتماع لرؤساء تحرير المواقع الالكترونية الاعلامية في المجلس الوطني للاعلام Lebanon 24 غدًا... اجتماع لرؤساء تحرير المواقع الالكترونية الاعلامية في المجلس الوطني للاعلام 09:23 | 2025-10-13 13/10/2025 09:23:06 Lebanon 24 Lebanon 24 ضو: فعلها ترامب أتمنى أن ينجز الاتفاق كله Lebanon 24 ضو: فعلها ترامب أتمنى أن ينجز الاتفاق كله 09:19 | 2025-10-13 13/10/2025 09:19:04 Lebanon 24 Lebanon 24 رفض معوض قد يوقف التحالف Lebanon 24 رفض معوض قد يوقف التحالف 09:15 | 2025-10-13 13/10/2025 09:15:00 Lebanon 24 Lebanon 24 الانتخابات النيابية بالنسبة إلى "الثنائي" وجودية هذه المرّة Lebanon 24 الانتخابات النيابية بالنسبة إلى "الثنائي" وجودية هذه المرّة 09:00 | 2025-10-13 13/10/2025 09:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة بعد تعرّضه لاعتداء مروّع.. وفاة فنان في المستشفى متأثراً بإصابته الخطيرة (صورة) Lebanon 24 بعد تعرّضه لاعتداء مروّع.. وفاة فنان في المستشفى متأثراً بإصابته الخطيرة (صورة) 16:30 | 2025-10-12 12/10/2025 04:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 لم تكشف لأحد إصابتها بسرطان مميت... لماذا لم تُدفن الإعلاميّة يمنى شري في لبنان؟ Lebanon 24 لم تكشف لأحد إصابتها بسرطان مميت... لماذا لم تُدفن الإعلاميّة يمنى شري في لبنان؟ 14:23 | 2025-10-12 12/10/2025 02:23:53 Lebanon 24 Lebanon 24 تقريرٌ يحذر من اندلاع "جبهة لبنان" بعد غزة.. ماذا كشف؟ Lebanon 24 تقريرٌ يحذر من اندلاع "جبهة لبنان" بعد غزة.. ماذا كشف؟ 21:00 | 2025-10-12 12/10/2025 09:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 أسرارٌ تخرج إلى العلن... ما الذي عُثِرَ عليه داخل حاسوب السنوار بشأن هجوم 7 تشرين؟ Lebanon 24 أسرارٌ تخرج إلى العلن... ما الذي عُثِرَ عليه داخل حاسوب السنوار بشأن هجوم 7 تشرين؟ 15:00 | 2025-10-12 12/10/2025 03:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 ماذا تريد إسرائيل من لبنان؟ Lebanon 24 ماذا تريد إسرائيل من لبنان؟ 16:01 | 2025-10-12 12/10/2025 04:01:00 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان 09:30 | 2025-10-13 بعد 6 سنوات على توقفها.. القروض والتسليفات المصرفية عائدة!؟ 09:23 | 2025-10-13 غدًا... اجتماع لرؤساء تحرير المواقع الالكترونية الاعلامية في المجلس الوطني للاعلام 09:19 | 2025-10-13 ضو: فعلها ترامب أتمنى أن ينجز الاتفاق كله 09:15 | 2025-10-13 رفض معوض قد يوقف التحالف 09:00 | 2025-10-13 الانتخابات النيابية بالنسبة إلى "الثنائي" وجودية هذه المرّة 08:45 | 2025-10-13 لا مصالحة بين الصحناوي وباسيل فيديو "الشتاء جايي"... فاستعدّوا للغرق بالنفايات لا بالأمطار! Lebanon 24 "الشتاء جايي"... فاستعدّوا للغرق بالنفايات لا بالأمطار! 20:30 | 2025-10-07 13/10/2025 09:33:35 Lebanon 24 Lebanon 24 "نجم جنتلمان".. إعلامية وابنة ممثلة سورية بطلة "فيديو كليب" راغب علامة (فيديو) Lebanon 24 "نجم جنتلمان".. إعلامية وابنة ممثلة سورية بطلة "فيديو كليب" راغب علامة (فيديو) 08:56 | 2025-10-03 13/10/2025 09:33:35 Lebanon 24 Lebanon 24 توقعات ليلى عبد اللطيف.. اغتيالات وانقطاع للانترنت وهذا ما سيحل بالذهب و"واتساب" (فيديو) Lebanon 24 توقعات ليلى عبد اللطيف.. اغتيالات وانقطاع للانترنت وهذا ما سيحل بالذهب و"واتساب" (فيديو) 22:00 | 2025-09-30 13/10/2025 09:33:35 Lebanon 24 Lebanon 24 Download our application مباشر الأبرز لبنان فيديو خاص إقتصاد عربي-دولي متفرقات أخبار عاجلة Download our application Follow Us Download our application بريد إلكتروني غير صالح Softimpact Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24

مقالات مشابهة

  • سعد: في زمن التيه الطائفي المذهبي البغيض تبقى صيدا منارة الرقي
  • الانتخابات العراقية … الديمقراطية المزيفة
  • مشروع «الأنبوب البحري الثالث».. نقلة نوعية بمنظومة تصدير النفط العراقي
  • المرصد السوري: فصل نحو 600 موظف غالبيتهم من الطائفة العلوية في الساحل
  • مدرب المنتخب العراقي يتعهد بالتأهل إلى مونديال 2026
  • العراقي إبراهيم بايش: نتطلع لخطف بطاقة التأهل لكأس العالم أمام السعودية
  • المنتخب العراقي يشعل المنافسة على بطاقة المونديال بعد الفوز على أندونيسيا
  • أرنولد:الطريق ما زال طويلاً أمام المنتخب العراقي
  • التايمز: إسهامات الجامعات العراقية فاقت الـ 10% من البحوث بالمجلات العالمية
  • وزير الخارجية العراقي يبحث ملف المياه مع نظيره التركي في أنقرة