كريم خالد عبد العزيز يكتب: رسالة تقوية وتشجيع: ذكريات خالدة وحب متجدد
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
نتذكر ونذكر ما مضى من أقوالنا وأفعالنا ومشاعرنا والأماكن التي ترددنا عليها في لحظات تأملنا، وما رحلوا عن عالمنا ممن نحب. عندما نتذكر أو نذكر كل هذه الأشياء، نكون قد صنعنا ذكريات.... الأهم من صناعة أجمل الذكريات هو الحرص على تخليدها، والأهم من تخليدها معرفة كيفية إحيائها عبر السنين لتكون مؤثرة وعميقة فينا وفي غيرنا ممن نشاركهم ذكرياتنا.
الإنسان المؤمن والمبدع هو من يحول حزنه إلى فرح، وما يحزنه من ذكريات مؤلمة إلى تذكار خالد يسعده أو على الأقل يضمد جرح قلبه.... كم يؤلمنا فراق من رحلوا عن عالمنا ممن نحب، وكم يؤلمنا شعورنا بالعجز عن إعادتهم وإستعادة لقائنا بهم.... بالإيمان نقوى وندعو لهم بالرحمة ونؤمن أن صلواتنا تصل إليهم وأننا سنلتقي بهم يوما ما.... وبالإبداع نظهر ونبرز أجمل ما كان بيننا من ذكريات ونحكي عنها للجميع ونفتخر بها لتكون ذكريات خالدة ومتجددة.
كما ندرك أننا إمتداد لهم وإستمرارنا في الحياة هو إستمرار لدورهم وحصاد لما زرعوه فينا ومعنا. يستطيع الإنسان أن يخلد بروحه وبما ترك من أثر طيب في قلوب الناس رغم رحيله بالجسد، بينما هناك أشخاص أحياء بالجسد لكنهم أموات بالروح لا يتفاعلون ولا يؤثرون في غيرهم.... الإبداع والفن والقدرة على التعبير والتأثير، المحركات الرئيسية لترك أثر وبصمة خالدة.
جميعنا كبشر رسل لغيرنا مستعملين من الله، خلقنا لرسالة محددة، حتى الشخص السيء والفاسد له دور في الحياة ورسالة، دوره ورسالته تكمن في حرص الصالحين الإبتعاد عنه كونه نموذج لا يحتذى به. الحكمة هي قمة الفهم العميق للأمور، الحكمة تجعلنا أذكياء ولدينا فلسفة خاصة في فهم الأشياء والحياة حولنا.... لا يمكن أن نعلم أو نتعلم الحكمة وإنما هي فطرة يوجدها الله في بعض البشر وينميها الإنسان بالتأمل والتحليل والتثقيف والإيمان.... ومن الحكمة أن نعرف كيف نبدع في صناعة ذكرياتنا مع من نحب، وفي تخليد تلك الذكريات وإحيائها بين الناس.
نعمة الحياة نعمة عظيمة لا تقدر بثمن علينا أن نشكر الله عليها وأن نقضي أوقات جميلة مع من نحب، مع منح العائلة الوقت الأكبر.... علينا أن نستفيد من وجود من نحب وهم لا يزالون على قيد الحياة، ونستغل الجوانب الإيجابية للتكنولوجيا من التقاط الصور ومقاطع الفيديو لأنها أدوات تسهل الاحتفاظ بذكرياتنا الجميلة لم تكن تلك الأدوات موجودة في الماضي.
رسالتي رسالة تقوية وتشجيع لكل من فقد شخص عزيز عليه، لكي يخلد ذكراه ويحييها ويتحدث عنها بفخر وإعتزاز.... ولكل من لا يزال يتمتع بوجود من يحب، لكي يصنع معهم أجمل الذكريات ليستطيع تخليدها وإحيائها فيما بعد وبعد عمر طويل.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: نعمة الحياة العائلة المزيد من نحب
إقرأ أيضاً:
لماذا تجب علينا المكابدة؟
كابَدَ يُكابِدُ مُكابَدَة فيكون الإنسانُ مُكابِدا. ويُقال كابَدَ الأمر أي تكبَّدهُ؛ فقاسى شدَّته وتحمَّل مشاقه، وركب هوله ومصاعبه. ويُقال كذلك كَبَدَ ابن آدم الأمر أي قَصَدَهُ. وكبَّد العدو خسائرَ أي أنزلها به وكلَّفه إياها. والكَبِدُ وسط الشيء ومعظمه، وهو العضو في الجانب الأيمن من بطن الإنسان، وإليه يُنسب الأولاد، كناية عن إنهم أعز ما وهبنا؛ فيُقال لهم: أفلاذ أكبادنا. وكبِدُ الأرض ما في بطنها من معادن نفيسة. ويوصف الإنسان بغلظة الكبد كناية عن شراسته، والشيء "يُفتِّت الأكباد" كناية عن تسبُّبه بحزنٍ شديد مُمض. وإذا قَدَر الإنسان على الفلاة؛ يُقال تكبَّدها. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
وقد وردت لفظة الكَبَد واشتقاقتها في القرآن الكريم مرَّة واحدة فحسب (سورة البلد؛ اﻵية رقم 4): "لقد خلقنا الإنسان في كَبَد"، بمعنى المشقَّة والشدَّة والعناء، وقيل بمعنى انتصاب القامة واعتدالها، وقيل القوة والقصد. وما من شيء يمنع جمع المقصد القرآني لهذه المعاني كلها؛ فلا تعارُض بينها في شأن الإنسان وحاله، بل هو تكامُل رباني معجز. فإن المكلَّف الذي ألقي به -حرفيّا- إلى داخل هذا التاريخ، ليحيا في مجال التجربة والخطأ، والذنب والتوبة والطغيان والأوبة؛ أي ليخوض غمار اختياره الإنساني -بمشيئة الله وتقديره- هو سائرٌ انتصبت قامته ابتداء -رغم معاناته- فلا تنكسر قامته، وينتكس في هذا السير القصدي الغائي؛ إلا بأن يوكل إلى نفسه والعياذ بالله. فإنه إن لم يَستَعِن صادقا بمن كلَّفه تكبُّد وجوده؛ لم ينَل معونة على ما كُلِّف وضاع.
والكبد والمكابدة هي -باختصارٍ غير مُخِلٍّ- فلسفة التاريخ الإسلامي، التي أشار إليها القرآن إجمالا في سورة البلد، وفصَّلها خاتما سورة العصر؛ إذ بسط مآل الخُسر التاريخي الحتمي وغايته في قوله جلَّ شأنه: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر". فإنه لم يجعل لهذا الخسر الحتمي الذي نُكابده، والتاريخ المحيق الذي نُعانيه؛ مآلا دنيويّا برانيّا مُعينا تنعقد عليه اليد، وإنما غيَّب المآل داخل التاريخ، وجعل التواصي هو كل ما يطمع فيه ابن آدم داخل هذا التاريخ: التصبُّر والتواصي، والتكاتُف في احتمال الخُسر الدنيوي البراني الحتمي؛ لئلا ينعكس انعاكسا انتكاسيّا على المجال الجواني له، فيرتد الإنسان -معاذ الله- من أحسن تقويمٍ إلى الانكباب على وجهه، باعتبار هذا الانكباب الضال المُضِل نقضا للكَبَد والمكابدة، وعكسا لطريق السير المنتصب القامة على صراط مُستقيم؛ قاصدا رب البرية. وبعبارة أخرى، فإن فلسفة الكَبَد التاريخيَّة هذه تعني أننا خلقنا للمشقَّة والمعاناة، ولاحتمال هذه المعاناة، وأن جوهر الإيمان هو التواصي على هذا الاحتمال بحول الله، والتكاتُف أثناء عبور هذه الدار؛ لنعرُج بهذه الآلام إلى الله، وقد أقمنا الحجة على أنفسنا بالسير في هذا الطريق الشاق بزاد التواصي.
ولهذا، فرَّق الإسلام تفرِقَة قاطعة بين المكب على وجهه لا يُبصر طريقه (سورة الملك؛ الآية رقم 22)، ومن يسير سويّا مُعتدل القامة على صراط الله المستقيم؛ إذ هما الطريقان الوحيدان، اللذان تتجسَّد فيهما هذه الفلسفة التاريخيَّة. ولا يستوي من يُقاسي الشدة ويعاني المشاق الحتميَّة، وهو لا يُبصر غايته، ومن يركب الهول والمصاعب، وهو يرى ربه العلي سبحانه؛ إذ تعلَّق بصره بما تجاوز الزمكان وعلا فوق التاريخ. جلَّ شأنه وتبارك اسمه ولا إله غيره. والعجيب أن هذا المصدر الفذ، يطوي من المعاني ما يوافق حال الإنسان في مسيره الدنيوي، ويطابق أموره كلها داخل هذا التاريخ. فإنك ترى المكب على وجهه -والعياذ بالله- قد غلظ كبده، وظهرت شراسته، وعمي إلا عما جُعل في كبد الأرض، وغفل بانكبابه عن النظر إلى كبد السماء، وما يمثله؛ فتفتَّت كبده لكل حزن يُصيبه، إذ أنه لا يرجو من الله ما يرجوه المؤمن، وإن كانت المصيبة تنزلُ بهما معا.
هذه المكابدة ليست موافقة إجمالا للنواميس الإلهية فحسب، بل هي أولا وقبل كل شيء مُفصَّلةٌ على مقاس إنسانيَّة ابن آدم وخصاله المركبة، ومجعولة له جعلا؛ فإنه الكائن الوحيد المكلَّف المفطور على الاختيار، وعلى مكابدة خياراته، ومكابدة وجوده كله -نتيجة هذه الحريَّة- لهذا؛ كانت المكابدة ناموسا لتحقُّق إنسانية الإنسان أولا، ثم لاكتمال إيمانه، وأخيرا لاتساقه مع فلسفة التاريخ الإنساني الموافقة لتركيبه وإيمانه.
هذا التحقُّق يلزمه -أولا- أن تكون المكابدة مُكابدة للنفس دوما، وقبل كل شيء؛ لفجورها وهواها، وضعفها وسقوطها، وشهواتها وإخلادها. فهذه المكابدة الذاتية أصل الفطرة السليمة، ومبتدأ حفظها وشحذها، فإذا انتكست -والعياذ بالله- شرعت في مكابدة السوى، وتمخَّضت عنها أعراض مرضيَّة تُبرئ النفس الأمارة وتعُدُّ الآخرين هم الجحيم -كما ذهب سارتر وأضرابه مثلا- إذ صار الغير أصل كل سوء وبلية. وهذه النفسيَّة نفسيَّة انكباب لا ترى الوجود على حقيقته، ولا تستوعب معنى التكليف، ولا تُدرك حقيقة الحريَّة؛ مُدلَّلة تحسب أنها مركز الكون، وأنها تستحق كل الخير بذاتها ولذاتها، وبمجرد وجودها. فهي دائمة الشكوى من كل شيءٍ وكل أحد، إذا لم تنل ما يوافق هواها من الدنيا؛ فإنما أفسدها توهُّمها المتأله، وإغفالها ثمن حريتها في الاختيار، وغفلتها عن عبوديتها لخالق مُحيط، وعن أن حريَّتها التي أرادها الخالق ابتلاء ومسؤولية؛ لتُميز الباطل من الحق وتختار طريقها بين العناصر التي رُكِّبَت منها أولا؛ فإما الإخلاد إلى الطين أو السمو إلى آفاق الروح.
وانظر إلى إدراك السلف البصير، إذ يقول الجاحظ في المجلَّد الأول من سفره الماتع: "الحيوان"؛ في الفصل الذي عنونه مصلحة الكون في امتزاج الخير والشر: "اعلم أن المصلحة.. امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع.. ولو كان الشر صِرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة، وتقطَّعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز.. ولم تكُن للنفس آمال ولم تتشعَّبها الأطماع. ومن لم يعرف كيف الطمع؛ لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس؛ جهل الأمن.. ولو استوت الأمور بَطُل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة، ولو كان ذلك لبطلت ثمرة التوكُّل على الله تعالى، واليقين أنه الوزَرُ والحافظ والكالئ والدافع.. وأنه يقبلُ اليسير ويهب الكثير".
أي أن امتزاج الخير والشر ضرورة لتعمل آلة التمييز المفطورة في بني آدم، ويتحقَّق تكليفه، وتتحقَّق إنسانيته الربانية المركَّبة. ولو كان الشر صرفا لا خير معه لهلك الخلق لشدَّة وطأته، ولو كان الخير محضا لا شر معه سقطت المحنة وانتفى التكليف؛ فإما جحيم أرضي من الشر أو فردوس أرضي من الخير، وفي الحالين يصير الإنسان إلى القهر؛ مثله في ذلك مثل الملائكة أو الحيوان! إذ ستنقطع مع جدليَّة الخير والشر أسباب التفكير وتضمُر حكمة المعرفة، وينعدم التمييز؛ إذ استوت الأمور وصار الإنسان مقهورا بالجهل والغريزة كغيره من المخلوقات. وقد قرر أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب أن من لم يعرف الجاهليَّة؛ لم يعرف الإسلام. فمن لم يعرف شرور الجاهليَّة؛ لم يُدرك حجم الخير الذي يطويه الإسلام لاستنقاذ الإنسان من نفسه ومن طينه، بغير الجور على هذا الطين أو إلغائه، وهذا هو مكمن المعجزة في الشريعة المحمدية: معونة على الاختيار وتوفيقٌ وسداد، يخلق التوازُن بين البواعث والغايات، ولا ينكر طينك كما لا يُطلق له العنان، بل يدفعك لتُكابده موفقا مسددا بحول الله؛ تغلبه تارة بمكابدتك ويغلبك أخرى بقعودك. والله يهدي من يشاء.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry