تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يُعدّ العيد ظاهرة اجتماعية متجذرة في الوجدان المصري، حيث يمثل مساحة زمنية خاصة تحتفي فيها المجتمعات بالتواصل والتكافل وإعادة إحياء الروابط العائلية. في مصر، يأخذ عيد الفطر طابعًا احتفاليًا مشتركًا بين جميع الطبقات الاجتماعية، لكنه يعكس أيضًا الفوارق الطبقية من خلال أنماط الاحتفال المختلفة.

فعلى الرغم من أن جميع المصريين يشاركون في الطقوس الأساسية مثل صلاة العيد، وتوزيع العيديات، وتحضير الكعك، إلا أن قدرة الأفراد على الإنفاق والاستمتاع بالعطلة تختلف باختلاف أوضاعهم الاقتصادية. وكما يوضح عالم الاجتماع بيير بورديو في تحليله للتمييز الاجتماعي، فإن الطقوس والعادات التي تبدو موحدة غالبًا ما تحمل في طياتها انعكاسًا للبنية الطبقية، حيث يعبر كل فرد عن هويته الاقتصادية والاجتماعية من خلال أسلوب الاحتفال بالعيد.

العيد ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو مساحة زمنية لتعزيز التلاحم الاجتماعي. فمنذ العصور الإسلامية المبكرة، وحتى يومنا هذا، يشكل العيد فرصة استثنائية للتواصل العائلي، حيث تكثر الزيارات بين الأقارب، وتجتمع العائلات حول موائد الطعام في أجواء ودية. ووفقًا لما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته، فإن المناسبات الاجتماعية الكبرى، مثل الأعياد، تسهم في تجديد روابط العصبية والتضامن بين الجماعات، حيث تخلق لحظات من التوافق والاحتفال الجماعي تُعيد إنتاج قيم المجتمع التقليدية (ابن خلدون، المقدمة، 1377م). وفي السياق المصري، يظل العيد وسيلة لإحياء الصلات العائلية حتى في ظل التفكك الذي تشهده بعض المجتمعات الحضرية الحديثة، حيث تصبح هذه المناسبات فرصة ضرورية لتعويض البعد الاجتماعي الناتج عن ضغوط الحياة المعاصرة.

شهدت الاحتفالات بالعيد في مصر تحولات اجتماعية كبيرة بين الماضي والحاضر، متأثرة بعوامل عدة، أبرزها التحضر والتغيرات الاقتصادية والتكنولوجيا. ففي الماضي، كانت الاحتفالات بالعيد تأخذ طابعًا أكثر تقليدية، حيث يخرج الجميع إلى المساجد والساحات الكبيرة لأداء الصلاة، ثم يتجمعون في البيوت لتناول الإفطار الجماعي وتوزيع العيديات. أما اليوم، فقد أصبحت المظاهر الاستهلاكية تهيمن على الاحتفال، حيث تحولت العيديات إلى تحويلات رقمية عبر التطبيقات البنكية، وبدأت العائلات في استبدال اللقاءات التقليدية بالخروج إلى المولات التجارية والمطاعم الفاخرة. ويرى عالم الاجتماع زيجمونت باومان أن هذه التغيرات تعكس ظاهرة "الحداثة السائلة"، حيث تتغير القيم والأنماط الاجتماعية بسرعة، مما يجعل العيد يتحول من مناسبة اجتماعية للتلاحم إلى موسم استهلاكي تُهيمن عليه الدعاية التجارية.

ورغم هذه التحولات، فإن بعض الطقوس العيدية التقليدية لا تزال صامدة، مما يعكس قدرة المجتمع المصري على الاحتفاظ بجذوره الثقافية مع التكيف مع المستجدات. فعلى سبيل المثال، لا يزال إعداد كعك العيد في المنازل طقسًا أساسيًا في كثير من العائلات، حتى مع انتشار المخابز التي توفره جاهزًا. كما أن ظاهرة توزيع العيديات للأطفال لا تزال مستمرة رغم تغير شكلها، مما يدل على أن العيد ليس مجرد مناسبة زمنية تتغير مع الزمن، بل هو جزء من "الذاكرة الجمعية"، وفقًا لما يصفه موريس هالبواكس، حيث يستمر المجتمع في إعادة إنتاج الطقوس والتقاليد بصيغ مختلفة ولكن بروحها الأصلية نفسها.

البعد التاريخي لاحتفالات العيد في مصر

احتفلت مصر بعيد الفطر عبر العصور المختلفة بطقوس احتفالية مميزة، تتأثر بالسياقات السياسية والاجتماعية لكل عصر. في العصر الفاطمي (909-1171م)، اكتسب العيد طابعًا رسميًا وشعبيًا واسعًا، حيث كان الخليفة الفاطمي يخرج في موكب مهيب من قصره بالقاهرة إلى الجامع الأزهر أو جامع الحاكم بأمر الله، برفقة القضاة وكبار رجال الدولة، بينما تُوزَّع الهدايا والصلات على العامة. كما اهتم الفاطميون بإعداد موائد ضخمة وإضاءة الشوارع بالمشاعل والفوانيس، وهي طقوس تعكس سعي الدولة لتعزيز شعبيتها وسط الجماهير (المقريزي، "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين"). أما في العصر المملوكي (1250-1517م)، فقد استمر الاحتفال بعيد الفطر بأسلوب مشابه، حيث أقيمت الاحتفالات الكبرى في القلعة، وشهدت الميادين العامة سباقات الخيل والعروض العسكرية، ما يعكس التداخل بين الطابع الاحتفالي وإظهار القوة السياسية (ابن إياس، "بدائع الزهور في وقائع الدهور").
لعبت السلطات الحاكمة في مصر دورًا رئيسيًا في صناعة الطقوس الاحتفالية للعيد وتوظيفها سياسيًا، حيث استخدم الحكام هذه المناسبات لتقوية شرعيتهم والتقرب من الشعب. خلال العصر العثماني (1517-1798م)، حرص الولاة العثمانيون على تنظيم احتفالات رسمية تتخللها مواكب ضخمة تجوب شوارع القاهرة، حيث كان العيد فرصة لاستعراض قوة السلطة والتأكيد على استقرار الحكم. كما استُخدمت الأعياد لإصدار قرارات العفو عن بعض المساجين وتوزيع الرواتب الإضافية على الجنود، وهو نهج استمر حتى العصر الحديث، حيث درجت الأنظمة الحاكمة على استغلال العيد لتعزيز شعبيتها عبر تقديم الإعفاءات والعطايا الرمزية (الجبرتي، "عجائب الآثار في التراجم والأخبار").
برزت خلال هذه العصور بعض العادات التي صارت أيقونية في الاحتفال بعيد الفطر، مثل إعداد "كعك العيد"، وهو تقليد يعود إلى العصر الفاطمي، حيث كانت الدولة تشرف على توزيعه على العامة، وكانت تُنقش عليه عبارات مثل "كل واشكر". كما أن الخروج إلى الصلاة في الساحات العامة ظل سمة أساسية للعيد منذ العصر الإسلامي المبكر، لكنه اكتسب أبعادًا سياسية في بعض الفترات، إذ كانت ساحات العيد مكانًا لإظهار الولاء للحاكم عبر الخطابات الرسمية والمواكب الاحتفالية (المقريزي، "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"). أما إعطاء العيدية، فيعود أصلها إلى العصر المملوكي، حيث كان السلاطين يوزعون النقود والهدايا على الجنود وكبار المسؤولين، قبل أن تتحول العيدية إلى عادة اجتماعية متوارثة بين الأسر، تعبيرًا عن الفرح والتواصل بين الأجيال (ابن تغري بردي، "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة").
ومع دخول مصر العصر الحديث، شهدت احتفالات العيد تحولات كبيرة متأثرة بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. في عهد محمد علي باشا (1805-1848م)، أصبحت الاحتفالات أكثر تنظيمًا، مع إصدار قرارات خاصة بالعطلات الرسمية والمواكب السلطانية. ومع انتشار وسائل الإعلام في القرن العشرين، أصبح العيد مناسبة لترويج الخطابات السياسية، حيث استُخدمت الإذاعة والتلفزيون في بث خطب القادة وتحياتهم للمواطنين، كما ازدادت المظاهر التجارية المرتبطة بالعيد، مثل بيع الملابس الجديدة والحلويات، مما جعل العيد يتحول تدريجيًا من مناسبة دينية ذات طابع اجتماعي إلى موسم اقتصادي وثقافي واسع التأثير (رشيد، "التغيرات الاجتماعية في مصر الحديثة").

الدولة والاحتفال بالعيد: 

لطالما استغلت الأنظمة السياسية في مصر عيد الفطر لتعزيز شرعيتها أمام الشعب، حيث تحولت هذه المناسبة الدينية إلى فرصة لإظهار قرب السلطة من المواطنين وترسيخ مفهوم "الحاكم الأبوي". فمنذ العصر المملوكي، كان السلاطين يستغلون العيد لإقامة الاحتفالات الضخمة، والتي تضمنت توزيع الأموال والهدايا على العامة، في محاولة لضمان ولاء الشعب وإظهار سخاء الدولة (ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور). ومع دخول العصر الحديث، استخدمت الدولة العيد كأداة لخلق حالة من التوافق الوطني، فعلى سبيل المثال، كان الملك فؤاد والملك فاروق يحرصان على حضور صلاة العيد وسط الجماهير، والتقاط الصور أثناء توزيع العيديات على الأيتام، وهو نهج استمر لاحقًا مع الرؤساء المصريين في فترات الجمهورية (الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار).
من أبرز ممارسات الدولة في توظيف العيد سياسيًا تنظيم مواكب العيد الرسمية، والتي بدأت منذ العصور الفاطمية واستمرت بأشكال مختلفة حتى اليوم. في العصر العثماني، كان والي مصر يخرج في موكب رسمي بعد صلاة العيد، ترافقه شخصيات الدولة وأمراء الجيش، كإشارة إلى استقرار السلطة وإظهار قوتها أمام العامة (المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار). أما في العصر الحديث، فقد تحولت هذه المواكب إلى زيارات رسمية للمؤسسات الاجتماعية ودور الأيتام والمستشفيات، حيث يسعى القادة إلى تقديم أنفسهم على أنهم قريبون من الشعب، وهي ممارسة واضحة في احتفالات العيد التي تواكبها التغطية الإعلامية المكثفة.
كما يُعدّ الإفراج عن المساجين في العيد أحد أهم الإشارات الرمزية التي تستخدمها السلطة السياسية لإظهار التسامح والقوة في آنٍ واحد. هذه العادة ترجع جذورها إلى العصر الإسلامي المبكر، لكنها أصبحت ممارسة ثابتة في التاريخ المصري الحديث، حيث يصدر رئيس الجمهورية قرارات بالعفو عن بعض المسجونين بمناسبة العيد، خاصة في القضايا ذات الطابع غير السياسي. هذه الخطوة تُستخدم لتعزيز صورة النظام كجهة رحيمة، في محاولة لكسب تأييد فئات اجتماعية مختلفة (رشيد، السياسة والمجتمع في مصر الحديثة). إضافة إلى ذلك، فإن هذه القرارات غالبًا ما تُوظف سياسيًا، حيث تُستخدم لتهدئة الأوضاع الداخلية في فترات التوتر السياسي.
أما الإعلام الرسمي، فقد لعب دورًا محوريًا في إبراز صورة الحاكم القريب من الناس خلال العيد. فمنذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، أصبحت التهاني الرئاسية وبث خطب العيد عبر الإذاعة والتلفزيون تقليدًا ثابتًا، حيث ظهر عبد الناصر أكثر من مرة وهو يؤدي صلاة العيد وسط المواطنين، في رسالة رمزية إلى بساطة الحاكم وانتمائه للشعب. استمر هذا النهج في عهد السادات ومبارك، حيث ركزت وسائل الإعلام على تصوير زيارات المسؤولين لدور الأيتام والمستشفيات، في محاولة لإظهار تلاحم الدولة مع الفئات الأكثر احتياجًا (حسين أمين، الإعلام والسلطة في مصر). وفي العصر الرقمي، باتت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا في إعادة إنتاج هذه الصورة، من خلال نشر صور القادة وهم يؤدون صلاة العيد، أو يهنئون الشعب عبر المنصات الإلكترونية، مما يعكس استمرار استخدام العيد كأداة للترويج السياسي.

التحولات الحديثة في احتفال المصريين بالعيد

تختلف مظاهر الاحتفال بعيد الفطر في مصر بين الريف والحضر، حيث لا تزال القرى تحتفظ بالكثير من العادات التقليدية التي تراجعت في المدن الكبرى. في الريف، يستمر التركيز على التجمعات العائلية الممتدة، وصلاة العيد في الساحات المفتوحة، وتحضير الأطعمة المنزلية مثل الفطير والمخبوزات التقليدية، بينما في المدن أصبح العيد أكثر فردية واستهلاكية، حيث يفضل الكثيرون قضاء العطلة في المولات التجارية أو السفر إلى المنتجعات الساحلية (غالي، التغيرات الاجتماعية في مصر المعاصرة). كما أن الأعياد في الريف لا تزال تحمل بعدًا مجتمعيًا قويًا، حيث تكثر الزيارات بين الجيران، ويتمسك الأهالي بتقاليد مثل زيارة المقابر صباح العيد، وهي طقوس تراجعت في المدن مع تسارع نمط الحياة الحديثة.
أثرت العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ على شكل الاحتفال بالعيد في مصر، حيث تحولت بعض العادات التقليدية إلى ممارسات رقمية. على سبيل المثال، حلت التهاني الإلكترونية ورسائل "واتساب" و"فيسبوك" محل الزيارات العائلية التقليدية، وأصبح تقديم العيديات يتم أحيانًا عبر التحويلات البنكية أو التطبيقات المالية بدلًا من تبادل العملات الورقية، وهو ما يعكس تحول العيد إلى تجربة أكثر رقمية (Castells، The Rise of the Network Society، 1996). كما لعبت وسائل الإعلام الحديثة دورًا في تصدير أنماط احتفالية جديدة، مثل السفر للخارج خلال العيد، أو إقامة حفلات ضخمة للفنانين، مما أوجد فجوة بين الاحتفال التقليدي والممارسات العصرية التي باتت أكثر انتشارًا بين الطبقات الشابة والميسورة.
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، تأثر الاحتفال بالعيد في مصر بشكل واضح، حيث أدى ارتفاع الأسعار إلى تقليص الإنفاق على الملابس الجديدة، والحلوى، والخروجات العائلية، وهو ما انعكس على طقوس العيد التقليدية. تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يشير إلى أن متوسط إنفاق الأسرة المصرية على الكعك وحلويات العيد انخفض بنسبة 30% في السنوات الأخيرة، بسبب ارتفاع تكلفة المواد الخام (التعبئة والإحصاء، تقرير 2024). كما أن ارتفاع أسعار وسائل الترفيه مثل السينما والملاهي جعل الكثير من الأسر تعتمد على الأنشطة الأقل تكلفة، مثل زيارة الحدائق العامة أو مشاهدة الأفلام في المنزل، مما غيّر شكل العيد خاصة لدى الطبقات المتوسطة والفقيرة.
في السياق السياسي، أصبح العيد ساحة للجدل حول دور الدولة في دعم المواطن في ظل الأزمة الاقتصادية. فبينما تُعلن الحكومة عن إجراءات مثل زيادة المرتبات أو تقديم معونات محدودة في هذه الفترة، يرى البعض أنها محاولات رمزية لا تعالج المشكلات الهيكلية في الاقتصاد (المصري اليوم، تقرير اقتصادي 2024). كما أن هناك انتقادات متزايدة لغياب الفعاليات العامة التي كانت تُنظم سابقًا خلال العيد، مثل الحفلات المجانية أو العروض في الميادين الكبرى، حيث يُنظر إلى ذلك على أنه تراجع في دور الدولة في خلق مناخ احتفالي مشترك (الشروق، مقال رأي 2023). وبينما تستمر بعض الأسر في الاحتفال رغم الضغوط، فإن الطابع الاقتصادي والسياسي للعيد بات أكثر حضورًا في النقاشات العامة، مما يعكس كيف أن هذه المناسبة لم تعد مجرد تقليد ديني واجتماعي، بل صارت مرآة للتحولات العميقة التي تمر بها مصر.

رمزية العيد في الحراك الشعبي والمقاومة

على مدار التاريخ، لم يكن العيد مجرد مناسبة دينية واجتماعية، بل تحوّل في بعض الفترات إلى ساحة لإظهار الاحتجاجات والتعبير عن التحولات السياسية، خاصة بعد الثورات أو التغيرات الكبرى في الحكم. في مصر، شهد عيد الفطر بعد ثورة 1919 احتفالات ممزوجة بروح الثورة، حيث خرجت المسيرات الاحتفالية حاملة صور سعد زغلول والهتافات ضد الاحتلال البريطاني، ما جعل العيد يتجاوز كونه مناسبة دينية ليصبح لحظة وطنية جامعة (طه، الحركات الوطنية في مصر الحديثة). بعد ثورة 25 يناير 2011، أخذ العيد بعدًا سياسيًا جديدًا، حيث تحوّلت صلاة العيد في بعض الساحات إلى تجمعات سياسية، رُفعت فيها لافتات تطالب باستكمال الثورة، كما استخدمت بعض القوى السياسية العيد كفرصة لإعادة الحشد الجماهيري (السيد، الثورات العربية: ديناميات التغيير).
لطالما كان العيد موسمًا لعودة الخطابات الوطنية والدينية، حيث تستغل الأنظمة الحاكمة ورجال الدين هذه المناسبة لتوجيه رسائل ذات طابع سياسي أو اجتماعي. في العصور الإسلامية المبكرة، كانت خطب العيد تحمل مضامين تعبوية تدعو للجهاد أو الطاعة للحاكم (المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار). ومع تطور الدولة الحديثة، أصبح العيد فرصة لبث خطاب الوحدة الوطنية، ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، كانت خطب العيد تركز على القومية العربية والصراع مع إسرائيل، بينما استخدم الرئيس السادات خطب العيد للترويج لسياساته، خاصة بعد انتصار أكتوبر 1973 (هيكل، سنوات الغليان). حتى اليوم، تستمر هذه الممارسة، حيث يُستخدم العيد لتوجيه رسائل سياسية، سواء عبر الخطب الرسمية أو البرامج الإعلامية، لتعزيز صورة السلطة وتعميق الشعور بالانتماء الوطني.
من جهة أخرى، أدركت القوى السياسية أهمية العيد كوسيلة لتجييش الشارع سياسيًا، خاصة جماعة الإخوان المسلمين التي استغلّت هذه المناسبة لحشد أنصارها وإظهار قوتها. ففي فترة حكم الجماعة لمصر (2012-2013)، نظّمت صلاة العيد في ميادين رئيسية مثل "رابعة العدوية"، حيث رُفعت شعارات دعم الرئيس محمد مرسي، ما أعطى العيد بُعدًا سياسيًا غير مسبوق (عز الدين، الإسلاميون والسلطة في مصر). كما استخدمت الأحزاب السياسية العيد لعقد لقاءات جماهيرية، أو تقديم مساعدات للأسر الفقيرة لتعزيز شعبيتها، وهي ممارسة استمرت حتى بعد سقوط حكم الإخوان، حيث لجأت الجماعة إلى استخدام العيد كفرصة لتنظيم تظاهرات صغيرة في بعض المناطق احتجاجًا على النظام الحاكم.
أما الأنظمة السياسية، فقد تعاملت مع هذه الظاهرة إما بالقمع أو الاحتواء، حيث شهدت بعض أعياد ما بعد الثورات تواجدًا أمنيًا مكثفًا لمنع أي تحركات احتجاجية. في عيد الفطر 2013، وبعد فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، حاول أنصار الإخوان استغلال صلاة العيد لإعادة التظاهر، ما أدى إلى مواجهات أمنية في بعض المحافظات (الأهرام، تقرير عيد الفطر 2013). على الجانب الآخر، استخدمت الدولة العيد لإعادة توجيه المشهد السياسي، عبر بثّ مشاهد الاحتفالات الرسمية، وتنظيم فعاليات وطنية تهدف إلى تعزيز سردية الاستقرار، وهو ما يعكس كيف أن العيد لم يعد مجرد طقس ديني، بل أداة ضمن توازنات القوى في المجال العام المصري.

المستقبل: هل يفقد العيد معناه التقليدي؟

مع تصاعد الأزمات الاقتصادية، باتت قدرة المصريين على الاحتفال بالعيد كما كان سابقًا تتعرض لتحديات متزايدة. فالارتفاع المستمر في الأسعار أدى إلى تراجع مظاهر البذخ التي كانت تميز العيد، مثل شراء الملابس الجديدة، وصناعة كعك العيد في المنازل، والتنزه العائلي في الأماكن العامة. وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2024)، فإن نسبة الإنفاق الأسري على مستلزمات العيد تراجعت بنسبة 25% مقارنة بالسنوات الماضية، ما يعكس ضغوطًا اقتصادية متزايدة تدفع الأسر إلى تقليص احتفالاتها (التعبئة والإحصاء، تقرير 2024). هذا التحول الاقتصادي لا يؤثر فقط على العادات، بل أيضًا على الشعور العام ببهجة العيد، حيث بات يُنظر إليه لدى بعض الفئات كعبء مالي أكثر من كونه مناسبة احتفالية.
ورغم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فإن بعض العادات الأصيلة لا تزال صامدة في مواجهة التحولات الحديثة، مما يطرح التساؤل حول ما إذا كان العيد يفقد معناه التقليدي أم يتطور بشكل مختلف. العيدية، صلاة العيد، وزيارات الأقارب لا تزال قائمة، حتى لو تغيرت أشكال ممارستها. على سبيل المثال، في ظل الغلاء، لجأت بعض الأسر إلى استبدال الكعك الفاخر بالحلويات البسيطة، أو تقليل قيمة العيديات للأطفال، لكن المبدأ ذاته لم يختفِ (الشافعي، التحولات الثقافية في المجتمع المصري). ورغم انخفاض عدد الزيارات العائلية بسبب تسارع نمط الحياة، فإن المصريين لا يزالون يحرصون على لمّ الشمل خلال العيد، وإن كان ذلك عبر مكالمات الفيديو أو الرسائل النصية، مما يعكس قدرة التقاليد على التكيف مع التغيرات.
لكن في المقابل، هناك مؤشرات على أن العيد أصبح يتحول تدريجيًا إلى "موسم اقتصادي" أكثر من كونه ظاهرة اجتماعية. فمع توسع ثقافة الاستهلاك، باتت الشركات تستغل العيد كفرصة لزيادة المبيعات، من خلال حملات إعلانية مكثفة، وعروض خاصة على الملابس والحلويات والترفيه. وأصبح التركيز على الجانب الاستهلاكي للعيد، مثل التسوق والسفر، أكثر وضوحًا في المدن الكبرى، حيث تنتعش الأسواق والمولات التجارية خلال الأيام السابقة للعيد، مما يجعل الاحتفال بالمناسبة مرتبطًا بالقدرة الشرائية أكثر من ارتباطه بالروح الاجتماعية والتقليدية للعيد (Castells، The Rise of the Network Society، 1996).
في هذا السياق، لعب الإعلام الجديد دورًا رئيسيًا في إعادة صياغة صورة العيد، وتحويله من مناسبة روحية واجتماعية إلى منتج استهلاكي. وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت طريقة تفاعل الناس مع العيد، حيث أصبح التركيز على نشر صور الاحتفال أكثر من معايشته فعليًا. فبدلًا من التجمعات العائلية الكبيرة، بات البعض يهتم بإظهار تجربته الشخصية في العيد عبر "إنستغرام" و"فيسبوك"، مما يعزز النزعة الفردية في الاحتفال (المصري اليوم، تقرير 2023). كما أن انتشار الإعلانات الرقمية والمحتوى الترويجي جعل العيد يُختزل أحيانًا في صورة عروض تسوق وسفر، بدلًا من كونه فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية، مما يثير التساؤل حول مستقبل العيد في ظل هذه التغيرات.
 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: العيد العيديات الكعك الطقوس الاحتفال بالعید على سبیل المثال مناسبة دینیة العصر الحدیث هذه المناسبة بعید الفطر خلال العید صلاة العید عید الفطر فی المدن فی العصر العید فی مما یعکس ا سیاسی لا تزال سیاسی ا من خلال حیث کان أکثر من ما یعکس موسم ا فی مصر فی بعض على أن کما أن طابع ا

إقرأ أيضاً:

هل تشهد السياسة التركية في ليبيا تحولا استراتيجيا جديدا؟

نشرت صحيفة "فكر تورو" التركية، تقريرًا، تناولت فيه ما وصفته بـ"التحوّل اللافت -وإن كان هادئًا- الذي طرأ على العلاقات التركية الليبية، خلال النصف الأول من عام 2025، في سياق إعادة تشكيل خريطة التحالفات والتوازنات في ليبيا".

وقالت الصحيفة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21" إنّ: "الأشهر الأولى من العام الجاري قد شهدت تطورات مهمة بين أنقرة وبنغازي، تؤشر إلى تغيّر جوهري في سياسة تركيا تجاه ليبيا، وإعادة تموضع في خارطة النفوذ داخل البلاد".

وأوضحت أنّ: "هذا التقارب يقوم على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي دخول تركيا في مسار تعاون أمني مع الجيش الوطني الليبي بقيادة، خليفة حفتر، وهو الطرف الذي طالما اعتُبر خصمًا لأنقرة في السنوات الماضية. أما التطور الثاني، والذي يُرجّح أن يكون نتيجة مباشرة لهذا الحوار، فيتمثل في تشكيل مجلس النواب الليبي في طبرق لجنةً لمراجعة اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني التي أبرمتها حكومة طرابلس مع تركيا عام 2019".

وتشير الصحيفة إلى أنّ: "تركيا غيّرت بوصلتها في السياسة الليبية خلال السنوات القليلة الماضية، متبنية نهجًا يقوم على البراغماتية والمصالح الاقتصادية والدبلوماسية المتعددة الأطراف. وفي هذا الإطار، قامت أنقرة بخطوات منفتحة تجاه الشرق الليبي، رغم أنه كان يمثل سابقًا الجبهة المقابلة لها في الحرب الأهلية، وكان يُوصف في الخطاب الرسمي بـ:الانقلابي".

"هذه التحولات أفضت إلى تطبيع واضح في العلاقات بين تركيا وكل من مجلس النواب في طبرق والجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تعيد رسم ملامح النفوذ التركي في ليبيا ضمن معادلة أكثر توازنًا وواقعية" بحسب التقرير نفسه.

وأشارت الصحيفة إلى أنّ: "الزيارات المتبادلة خلال السنوات الثلاث الماضية شكّلت مؤشرات ملموسة على هذا التقارب، أبرزها زيارة رئيس مجلس النواب في طبرق، عقيلة صالح، إلى أنقرة في ديسمبر/ كانون الاول 2023، ومشاركة صدام حفتر -نجل خليفة حفتر ورئيس أركان القوات البرية- في معرض الصناعات الدفاعية بإسطنبول عام 2024، ولقائه مع وزير الدفاع التركي، يشار غولر".

وأردفت: "كما استقبلت أنقرة بشكل رسمي كلًّا من عقيلة صالح ونجل حفتر الآخر، بلقاسم حفتر، رئيس صندوق التنمية وإعادة الإعمار الليبي" فيما أبرزت الصحيفة أنّ "هذه اللقاءات أثمرت في أبريل 2025 عن اتفاقيات تعاون ملموسة، إذ وقّع صندوق إعادة الإعمار الليبي عقودًا مع شركات تركية لتنفيذ مشاريع بناء كبرى في مدن بنغازي، البيضاء، شحات وطبرق". 

واسترسلت: "كما استأنفت الخطوط الجوية التركية رحلاتها إلى بنغازي لأول مرة منذ عشر سنوات، وبدأت مباحثات لافتتاح قنصلية تركية في طبرق، في مؤشر واضح على توجه أنقرة نحو إعادة بناء نفوذها في شرق ليبيا من خلال مشاريع تنموية واستثمارية".


إلى ذلك، تشير الصحيفة إلى: "نقطة تحول جديدة في العلاقات، حيث قرر مجلس النواب الليبي في طبرق مناقشة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني الموقعة بين أنقرة وحكومة طرابلس عام 2019، ما يُعد انفتاحًا استراتيجيًا جديدًا لتركيا في الشرق الليبي، قد يُعيد صياغة تموضعها في الملف الليبي برمّته".

وتناولت أيضا، ما وصفتها بـ"الدلالات العميقة للتقارب المتسارع بين أنقرة وبنغازي"، مشيرة في الوقت ذاته إلى أنّ: "سلسلة اللقاءات رفيعة المستوى مع قادة شرق ليبيا تُعبّر عن تحوّل نوعي في العلاقة، لا يقتصر على المصالح الاقتصادية فقط، بل يمتد ليشمل ملفات الأمن والدفاع".

وتلفت إلى أن زيارة صدام حفتر، نجل المشير خليفة حفتر ورئيس أركان القوات البرية في "الجيش الوطني الليبي"، إلى أنقرة في أبريل 2025، شكّلت نقطة تحوّل بارزة، حيث تم استقباله بشكل رسمي من قبل وزير الدفاع التركي، يشار غولر، وبناء على دعوة من قائد القوات البرية التركية الفريق أول سَلجوق بايرقدار أوغلو.

وأورد التقرير: "تبع ذلك سلسلة لقاءات عسكرية أخرى، إذ زارت وفود من ضباط "الجيش الوطني الليبي" أنقرة في يونيو/ حزيران، وأجروا جولات ميدانية في مقرات ومؤسسات تابعة لوزارة الدفاع التركية".
وتُشير الصحيفة إلى أنّ: "هذه الزيارات ليست مجرد بروتوكولية أو رمزية، بل رافقتها مباحثات حول اتفاقيات دفاعية محتملة، قد تشمل التعاون في مجالات الطائرات المسيّرة، والتدريب العسكري، وإزالة الألغام، وتطوير البنية التحتية الدفاعية".

ووفقا للصحيفة، فإنّ بعض المصادر قد تحدثت عن توقيع اتفاق شامل يُنظّم التعاون الدفاعي بين الطرفين، ويتضمن تنظيم مناورات بحرية مشتركة في شرق ليبيا، إضافة إلى برامج تدريب تستهدف نحو 1500 عنصر من قوات الجيش الوطني الليبي خلال عام 2025، في مجالات متعددة.

وترى أنّ: "أنقرة تحاول تطبيق نفس المعادلة التي استخدمتها مع طرابلس -أي "التعاون الأمني مقابل اتفاق بحري"، هذه المرة مع شرق ليبيا، وإذا تم التوصل إلى اتفاق، فقد تصبح تركيا فاعلًا رئيسيًا في إعادة هيكلة القطاع الأمني الليبي في كل من الشرق والغرب، ما يمنحها دورًا استراتيجيًا مزدوجًا".

أما من الناحية السياسية، تتابع الصحيفة: "فإن مصادقة مجلس النواب في طبرق على اتفاقية 2019 لن تكون مجرد خطوة إجرائية، بل ستمنح الاتفاقية شرعية داخلية أوسع، وتساهم في تطبيع العلاقات التركية الليبية، خصوصًا في ملف ظل حتى الآن مثارًا للجدل القانوني والدبلوماسي".

أيضا، تستعرض الصحيفة توقعات كل من تركيا وشرق ليبيا من التقارب الجاري بينهما، موضحة أنّ: "الجانبين ينظران للعلاقة من زوايا اقتصادية وسياسية وأمنية متداخلة؛ وبالنسبة لشرق ليبيا، فيرى في تركيا شريكًا اقتصاديًا مهمًا، خاصة في مجالات إعادة الإعمار والبنية التحتية، حيث تنشط العديد من الشركات التركية في مشاريع كبرى مثل تجديد ملعب بنغازي". 


وفي المقابل، تنظر أنقرة إلى هذه المشاريع كفرصة استراتيجية، لكنها ترتبط بشرط استقرار العلاقات السياسية مع قوى الشرق. وسياسيًا، يسعى معسكر حفتر إلى استخدام هذا التقارب مع تركيا كأداة لتحسين موقعه التفاوضي أمام طرابلس والدول الغربية، وبناء استقلالية اقتصادية ودبلوماسية أوسع. 

ومن هذا المنظور، فإن طرح اتفاقية 2019 على طاولة النقاش مجددًا لا يهدف فقط إلى توثيق العلاقات مع أنقرة، بل يُستخدم كورقة ضغط تجاه قوى إقليمية ودولية مثل مصر، اليونان، روسيا، والولايات المتحدة.

وتفيد الصحيفة بأنّ: "تركيا من جانبها تنتقل إلى سياسة أكثر براغماتية وتعددية في ليبيا، حيث تسعى إلى الانفتاح على كل الأطراف، دون أن تتخلى عن دعمها التاريخي لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس. لكن أنقرة باتت تفضّل خفض مستوى انخراطها العسكري العلني لصالح شراكات اقتصادية ودبلوماسية أهدأ وأكثر توازنًا".

وفي الوقت الذي يشهد فيه شرق ليبيا استقرارًا نسبيًا، يعاني الغرب الليبي -رغم قربه من أنقرة- من ضعف القيادة الموحدة وتصاعد الصراع بين المليشيات، ما يزيد هشاشة الوضع الأمني ويدفع تركيا نحو نهج أكثر حذرًا وتوزانًا.

"في ظل تآكل الاستقرار في طرابلس وارتفاع كلفة استمرار الوضع القائم، بدأت جميع الأطراف، بما فيها تركيا، البحث عن صيغة استقرار أكثر ديمومة. وشرق ليبيا، بدوره، يسعى لتوسيع علاقاته مع القوى الغربية، ما يشير إلى تصاعد التنافس الإقليمي والدولي على إعادة تشكيل مستقبل ليبيا" استرسل التقرير.

واستدرك: "تحوّل التعامل الإقليمي مع ليبيا من ساحة حرب بالوكالة إلى ميدان تنافس أكثر هدوءًا، فخفضت الإمارات وجودها العسكري، ومصر بدأت حوارًا اقتصاديًا، بينما أخذت أوروبا -بفعل التهديد الروسي- موقفًا أكثر ليونة تجاه الدور التركي في ليبيا، معتبرةً أن أنقرة باتت تؤدي بشكل غير مباشر وظيفة موازنة لنفوذ موسكو".

وترى الصحيفة أنّ: "هذا التغير في السياق الدولي منح تركيا هامش مناورة أوسع في الملف الليبي، فبينما كانت تُرى سابقًا كخصم أو فاعل مزعزع، أصبحت اليوم جزءًا من التوازن الإقليمي في نظر بعض العواصم الأوروبية، خاصة في ظل تنامي التهديد الروسي".

وتعرض الصحيفة البعد التركي–الروسي في الملف الليبي، موضحةً أنّ: "العلاقة بين الطرفين تتسم بـ"إدارة تنافس" أكثر من صراع مباشر؛ فمنذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020، لم تنخرط أنقرة وموسكو في مواجهة صريحة داخل ليبيا، بل تبني كل منهما نفوذها في مناطق مختلفة؛ إذ أن روسيا تواصل دعمها القوي لحفتر، وتعزز حضورها في شرق ليبيا عبر قوات فاغنر والبنى اللوجستية".

وتابعت: "بينما رسخت تركيا موقعها في غرب البلاد من خلال الأمن البحري، الاستثمار، والدبلوماسية، وبدأت مؤخرًا فتح قنوات مع الشرق أيضًا"، مذكّرة بأنّ: "هذا التوازن الهش يقوم على "التسامح المتبادل" في النفوذ، حيث يتجنب الطرفان التصعيد المباشر، ويفضّلان تنافسًا منضبطًا يخدم مصالحهما الجيوسياسية".


وأضافت: "رغم دعمهما لأطراف متضادة، فإن أنقرة وموسكو تتقاطعان في معارضة نفوذ الغرب المتزايد داخل ليبيا، وخاصة في مجالات الأمن والطاقة. لذا فإن العلاقة بينهما تميل إلى براغماتية هادئة تقوم على "تحمّل" الآخر، لا التحالف معه، بما يضمن لكل طرف الحفاظ على هامش مناورة في بيئة مضطربة".

وتعتقد الصحيفة أنّ: "التحركات التركية الأخيرة في بنغازي، وكذلك التقارب مع مصر، تُقلق روسيا التي ترى في ذلك تهديدًا لنفوذها التقليدي. ويشير تحليل نشره موقع "إنسايدر" إلى أن تركيا بدأت تزيح روسيا عن موقعها كشريك أول للجيش الوطني الليبي؛ حيث إن الحرب في أوكرانيا حدّت من قدرة موسكو على دعم وجودها في ليبيا، ما أدى إلى تقليص أعداد مقاتلي فاغنر وتحويلهم إلى "فيلق إفريقيا" التابع لوزارة الدفاع".

ومع ذلك، ما زالت موسكو تعتبر ليبيا قاعدة لوجستية مهمة في تحركاتها الإفريقية، كما أن تراجع الثقة في روسيا بين حلفائها -بسبب انسحابها من مناطق عدة كسوريا وناغورنو قره باغ- يدفع فاعلين في شرق ليبيا للبحث عن شراكات بديلة. وهنا تبرز تركيا كخيار عملي يوازن بين التعاون الاقتصادي والدعم الأمني، دون فرض تبعية كاملة.

وتكشف الصحيفة ما تسميه "معادلة صعبة" إذ تحاول تركيا من خلالها التوفيق بين علاقاتها في شرق وغرب ليبيا؛ حيث يمنح هذا التوازن أنقرة فرصًا استراتيجية لتوسيع نفوذها، لكنه يفتح أيضًا الباب أمام تحديات دبلوماسية وسياسية معقّدة. ففي الوقت الذي تسعى فيه تركيا إلى تطوير شراكات اقتصادية وعسكرية مع بنغازي، تحرص على عدم خسارة علاقتها الحساسة مع حكومة طرابلس.

وتبين الصحيفة أنّ: "هذه السياسة المتوازنة تُواجه اختبارات داخلية في ليبيا، خاصةً في ظل الانقسامات بين الميليشيات غرب البلاد وهشاشة تحالفات رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة. كما أن التوسع التركي في الشرق قد يثير شكوك طرابلس، ويؤدي إلى تآكل الثقة".

وهذه التحركات لا تقتصر تداعياتها على الداخل الليبي، بل تمتد إلى شرق المتوسط. إذ تتابع اليونان عن كثب التحركات التركية، وقد ردت بزيارات دبلوماسية مكثفة إلى طرابلس وبنغازي، دون أن تحقق اختراقًا حقيقيًا في ملف مناطق النفوذ البحري. بل إن رفض سلطات شرق ليبيا استقبال وفد أوروبي ضم وزيرًا يونانيًا في يوليو/تموز الماضي، يعكس تعقيد المعادلة.

وتخلص الصحيفة  إلى أنّ: "نجاح تركيا في هذه المرحلة يتطلب دقة عالية في إدارة توازنات داخلية ليبية حساسة، إلى جانب هندسة شبكة علاقات إقليمية مرنة تتجنب التصعيد وتُبقي الأبواب مفتوحة أمام فرص النفوذ المستقر".

وفي سياق متصل، تناقش الصحيفة، "المواقف المتوقعة للأطراف المؤثرة إزاء تصاعد النفوذ التركي في شرق ليبيا، فالاتحاد الأوروبي يعاني من انقسامات داخلية وضعف في صنع القرار، ما يصعب عليه إيجاد رد بديل على تحركات أنقرة، رغم أن مستقبل مواقف دول مثل فرنسا قد يؤثر على توازن القوى داخل الاتحاد".

واسترسلت: "تحاول اليونان، بالتعاون مع مصر، الضغط على حلفاء تركيا لمنع تقنين اتفاقات الترخيص البحري التي أبرمتها أنقرة مع ليبيا، في مسعى لإعاقة نفوذ تركيا المتنامي في المنطقة. وقد طالت هذه الضغوط الولايات المتحدة أيضاً، في إطار محاولات للتأثير على المشهد السياسي في ليبيا".


"قد يهدد التصعيد التركي في شرق ليبيا النموذج غير المعلن لتقاسم النفوذ بين تركيا وروسيا، مما يجعل العلاقة بين البلدين في ليبيا على مفترق طرق بين التصعيد والتفاوض. وقد استؤنفت مؤخراً المحادثات الدبلوماسية رفيعة المستوى بين أنقرة وموسكو لهذا الملف" وفقا للتقرير ذاته.

واختتمت الصحيفة تقريرها بأنّ: "الموقف الأمريكي والأوروبي يتجه إلى قبول الحضور التركي كعامل توازن ضد النفوذ الروسي، خصوصاً وأن الولايات المتحدة تفضل عدم التدخل المباشر في ليبيا. بالتالي، تشكل ليبيا ساحة صراعات استراتيجية بين القوى الكبرى، ويظل دور تركيا مرهوناً بقدرتها على إدارة المكاسب على الأرض بحكمة".

مقالات مشابهة

  • بتمويل من «سلمان للإغاثة».. إسعاف المنية يقدم 26 مهمة خلال أسبوع
  • إسعاف المنية يقدم (26) مهمة خلال أسبوع
  • مها أبو الوفا رشوان.. شابة من صعيد مصر تقتحم ميادين السياسة على خطى والدها
  • السياسة وثقافة العولمة
  • السيسي يبعث برقيات تهنئة إلى ملك المغرب ورئيسة الاتحاد السويسري ورئيس جمهورية فانواتو بمناسبة العيد الوطني لبلادهم
  • من التنجيم إلى النصب.. كيف يُجرّم القانون أعمال السحر والدجل؟
  • حدادًا على لطفي لبيب.. تأجيل احتفالية «المهن التمثيلية» بتأسيس دار كبار الفنانين
  • نقابة المهن التمثيلية تؤجل الاحتفال بالعيد الثاني لتأسيس دار إقامة كبار الفنانين
  • هل تشهد السياسة التركية في ليبيا تحولا استراتيجيا جديدا؟
  • العماد هيكل في أمر اليوم بمناسبة العيد الثمانين للجيش: سنبقى الضامن لجميع اللبنانيين