هل يعيد التاريخ نفسه؟ شركات تسيطر وتحكم العالم؟ لا بدّ أن هذه حقيقة تترسخ الآن.

في عام 1600 بدأت شركة الهند الشرقية البريطانية بالحصول على حقوق حصريّة لنقل السلع التجارية من جنوب وشرق آسيا إلى أوروبا، ثم حصلت تدريجيًا على سلطات شبه حكومية، وانتهى بها المطاف إلى الحكم بقبضة حديدية على المستعمرات البريطانية في آسيا، بما في ذلك الهند.

في عام 1677 حصلت الشركة على الحق في سكّ العملة نيابة عن التاج الملكي.

ما استغرق وقتًا طويلًا في الحقبة الاستعمارية، يتكرّر الآن بسرعة البرق. القوة الغاشمة لشركة الهند التجارية التي حكمت الهند باسم الإمبراطورية، وأسست جيشها الخاص، تحذو حذوها اليوم شركات كبرى تسيطر على تقنيات الاتصالات، وأتيح لها الوصول إلى البيانات والنظم المالية الرقمية في الولايات المتحدة، ليسيطر أصحاب النفوذ الرقمي تدريجيًا على الولايات المتحدة، ثم على العالم.

قد يرى البعض في ذلك الرأي محض أوهام، لكن ما يجري الآن في الولايات المتحدة على يد أغنى رجل في العالم إيلون ماسك، وبتفويض واسع، ليس إلا تفكيكًا للحكومة التقليدية هناك لتحل محلها حكومة رقمية تعتمد على كبريات شركات تكنولوجيا المعلومات بصورة واسعة، تحت دعوى ضغط الإنفاق الحكومي لتوفير تريليوني دولار من الموازنة الفدرالية، ورفع كفاءة الأداء الحكومي.

إعلان

وشيئًا فشيئًا، تضعف الدولة الأميركية أمام سطوة ونفوذ الشركات الرقمية التي تستخدم تقنيات متسارعة في الذكاء الاصطناعي لنرى مستقبلًا "مواطنة رقمية" ينتمي فيها المواطن لهذا الفضاء وسيكون ولاؤه له، ويحمل جواز سفره.

يقود إيلون ماسك تحركات للاستيلاء على السلطة بالمعنى الذي سبق شرحه. فداخل إمبراطوريته التجارية، شركات لديها عقود مع الحكومة الفدرالية وتخضع للوائح الحكومية.

تعمل سبيس إكس، وتسلا، وشركة حفر الأنفاق، وشركة علوم الدماغ، وشركة الذكاء الاصطناعي، في أسواق خاضعة للرقابة الحكومية، التي أصبح المطلوب الآن الحد من دورها.

ومن المهم له – وقد امتلك الفرصة – تفكيك هذه الوكالات الحكومية التي قيدت أعماله. فقد حققت الإدارة الوطنية للسلامة وأخضعت نظام الطيار الآلي لشركة تسلا للفحص، وعاقبت لجنةُ الأوراق المالية والبورصة إيلون ماسك على التغريدات التي تحرّك السوق. كما قيدت اللوائح البيئية أنشطة سبيس إكس.

ويكمن الخطر الأكبر في النفوذ غير المسبوق الذي بات يتمتع به إيلون ماسك على البيانات الرقمية الحساسة، وعلى رأسها أنظمة الدفع الحكومية الأميركية، وأرقام الضمان الاجتماعي، ووثائق ضريبة الدخل. وقد بدأ بالتدخل مباشرة عبر مكتب الخدمات المالية، الذي يشرف على إدارة نحو 5 تريليونات دولار، تشمل مدفوعات الضمان الاجتماعي، وخدمات الرعاية الطبية، واسترداد الضرائب، ورواتب الموظفين الفدراليين.

أرسل ماسك فريقه الفني للسيطرة على نظام أتمتة الدفع، ونظام الدفع الآمن، ما أدّى إلى استقالة ديفيد ليبريك، أحد كبار مسؤولي الخزانة الأميركية.

وأثار ذلك موجة ذعر داخل المؤسسات الحكومية، تبعها طوفان من الإقالات الجماعية عبر البريد الإلكتروني، فيما استقال 21 موظفًا آخرون تحت وطأة الضغوط، بعدما طُلب منهم استغلال خبراتهم في "تفكيك الخدمات العامة الحيوية".

إعلان

استهدفت إدارة "الكفاءة الحكومية" التي يقودها إيلون ماسك تفكيك مؤسسات الحكومة الفدرالية، واحدة تلو الأخرى، وكان من أبرزها وكالة التنمية الأميركية، التي تُعد أداة أساسية في سياسة الولايات المتحدة لضمان وصول المساعدات إلى الدول والمجتمعات الأشد احتياجًا.

ورغم أن محكمة فدرالية حاولت الحد من هذا المسار، فإن تفكيك الوكالة يمهد الطريق أمام بديل رقمي، يتمثل في استخدام البيانات الضخمة التي تمتلكها الشركات الرقمية عن ملايين البشر حول العالم.

هذا النموذج الرقمي يتيح الوصول السريع والمباشر إلى الفئات الأكثر ضعفًا وتأثيرًا في أي دولة، مما يسمح بتنفيذ الأجندات الأميركية بكفاءة أكبر وكلفة أقل. هذه هي الرؤية التي يعمل ماسك على تحقيقها.

انطلاقًا من هدفه لتسريح جيش الموظفين، يسعى إيلون ماسك إلى إعادة هيكلة الإدارة الفدرالية عبر الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. وقد أسس نظامًا متكاملًا يستخدم هذه التقنية لتحليل البيانات، واستخلاص النتائج، ورصد التحولات الاقتصادية، وتحديد مواطن الضعف داخل المؤسسات الحكومية، بل وحتى التنبؤ بسلوك الناخبين. كل ذلك يجري تحت إشراف وسيطرة كبرى شركات التكنولوجيا، ما يمنحها نفوذًا استثنائيًا يؤهلها لأن تصبح القوة الحاكمة الفعلية في العالم.

انقلاب العملة المشفرة؟

ينخرط إيلون ماسك بعمق في عالم العملات المشفرة. ويبدو أنه يقود إستراتيجية منسقة تهدف إلى إحكام السيطرة على السياسة المالية والاقتصادية الأميركية، مما ينقل مقاليد القوة إلى نخبة ضيقة من أصحاب النفوذ.

تكمن الخطورة – وربما العبقرية – في أن ملامح هذه الخطة تبدو، كلًّا على حدة، مبررة ومنطقية: من تحديث الأنظمة الحكومية، إلى تحسين الكفاءة، وتطوير البنية التحتية لعمليات الدفع. لكنها، مجتمعةً، تشكّل أدوات فعّالة لتمكين الأثرياء من التحكم في مفاصل النظام المالي.

إعلان

في ظلّ تماهي الكونغرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون مع توجّهات الرئيس الأميركي الذي يقدم دعمًا واسعًا لماسك، فإن فرص التدخل تبدو ضئيلة. وحتى إن رغب في ذلك، فإن وتيرة تحركات ماسك تفوق بكثير قدرة الكونغرس على المواكبة أو الاحتواء.

ترسم هذه التحركات ملامح مشروع طموح يقوم على ما يسميه مستثمر العملات المشفرة ورجل الأعمال بالاجي سرينيفاسان بـ"دولة الشبكة" (Network State).

تقوم هذه الفكرة على تأسيس كيان افتراضي عبر الإنترنت، يتبلور قبل أن يأخذ أي شكل مادي على الأرض. تخيلها كأنها شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا، تمتلك عملتها المشفرة الخاصة، وتؤسس لنظام اجتماعي رقمي، بدلًا من إعلان الاستقلال التقليدي والنضال من أجل السيادة. وبمجرد أن تنال هذه العملة الرقمية اعترافًا رسميًا، تكون البنية التحتية لهذا الكيان قد اكتملت، وتصبح العودة إلى الوراء شبه مستحيلة.

إنّ المضي قدمًا في تحويل أجزاء متزايدة من النظام المالي العالمي إلى عملات رقمية يسيطر عليها القطاع الخاص يعني، عمليًا، انتزاع السلطة من الحكومات الوطنية التي يفترض أن تكون مسؤولة أمام شعوبها.

وقد شرع ماسك في هذا المسار بالفعل، مستعينًا بثروته الطائلة ونفوذه الواسع على منصات التواصل الاجتماعي، لا للتأثير في السياسة الأميركية فحسب، بل أيضًا في عدد من الدول الأوروبية، بما فيها ألمانيا.

في ظل نظام مالي تحكمه العملات المشفرة، لن تكون السيادة بيد المواطنين المقيمين على أراضي الدولة، بل لأولئك الذين يمتلكون القدرة على شراء هذه العملات.

وفي هذا السيناريو، تتزايد المخاوف من أن يتمكن إيلون ماسك من تحييد سلطة الكونغرس فيما يخص الإنفاق العام والمساءلة السياسية، بل وربما تجاوز سلطة القضاء والمواطنين أيضًا، مما يفتح الباب أمام شبكة معقدة من تضارب المصالح غير المسبوق في التاريخ الحديث، من حيث الحجم والنفوذ.

إعلان

من هنا، لا يكمن السؤال المحوري للأميركيين فيما إذا كانت الحكومة تحتاج إلى تحديث، بل في مدى استعدادهم للتفريط في الديمقراطية لصالح نموذج ماسك المزعوم للكفاءة الإدارية.

فحين يتسلم قادة التكنولوجيا مهامَّ حكوميةً مباشرة، لا يتوقف الأمر عند تبسيط البيروقراطية، بل يتعداه إلى إعادة تعريف العلاقة بين القطاع الخاص – وتحديدًا عمالقة التكنولوجيا – وبين مؤسسات الحكم العامة.

إن هذا التوجّه يُعدّ تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأميركي، ولجوهر مبدأ "نحن، الشعب". والأسوأ من ذلك، أن انعكاسات هذا التحول قد تمتد عالميًا، مؤثرة في علاقة الحكومات بشعوبها، وفي سيطرة الدول على اقتصاداتها وسياساتها الوطنية.

وقد تكون الكارثة الكبرى في هذه المرحلة، ليس في خطورة ما يُنفذ، بل في بطء استجابة الأميركيين له. فالحكومات ليست شركات، والإنفاق العام لا يُقاس بالربح، بل بتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، بينما يوفّر التوظيف الحكومي فرصًا حيوية للطبقات المتوسطة، وتكفل الرقابة المؤسسية حماية النظام من الانهيار والمخاطر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان الولایات المتحدة إیلون ماسک نظام ا

إقرأ أيضاً:

بعد وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل.. مغردون: لماذا لا تنهي أميركا حرب غزة؟

أثار إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل موجة جدل واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، في ظل استمرار حرب الإبادة على قطاع غزة، التي دخلت عامها الثاني دون مؤشرات على قرب نهايتها.

وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أعلن في وقت سابق عن اتفاق تام بين إسرائيل وإيران على وقف إطلاق نار كامل وشامل، يدخل حيز التنفيذ بدءا من السابعة من صباح اليوم الثلاثاء بتوقيت مكة المكرمة، مضيفا أن وقف إطلاق النار يدوم أولا 12 ساعة، ثم ستعد الحرب منتهية رسميا.

وفي المقابل، أبدى عدد كبير من المغردين استغرابهم من قدرة أميركا والأطراف الدولية على إنهاء الحرب بين إيران وإسرائيل خلال أقل من أسبوعين، في حين تستمر الحرب في قطاع غزة منذ أكثر من 625 يومًا، تحصد خلالها أرواح الأبرياء يوميا، وسط تفاقم المجاعة وانهيار شبه كامل للبنية التحتية.

وقد عبّر أحدهم عن هذا الواقع المؤلم بقوله "كل الحروب تبدأ وتنتهي، إلا حرب الإبادة ضد غزة. نحن نموت منذ سنتين، ولا شيء يتغير!".

ومن جهة أخرى، أشار مغردون إلى أن الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل، رغم تهديدها بالتصعيد الإقليمي، انتهت سريعا بفضل وجود إرادة سياسية واضحة من جميع الأطراف مدفوعة بمصالح إقليمية ودولية.

ورأى البعض أن غياب هذه الإرادة ذاتها هي ما يطيل أمد الحرب على غزة، إذ لا يبدو أن أي طرف يمتلك نية حقيقية لإنهائها، رغم استمرار عمليات القصف والقتل اليومي بحق المدنيين وسط عجز دولي وتخاذل عربي واضحين.

وفي هذا السياق، تساءل مغرد مستنكرا "كل الحروب بدأت وانتهت بسرعة، يتدخل العالم بأكمله وتُحسم خلال أيام إلا الحرب على غزة. طيب وإحنا؟ مين بدو يحلّنا؟".

كما تساءل العديد من النشطاء عن أسباب سرعة تدخل القوى الدولية لإنهاء صراعات معينة، بينما يُترك الفلسطينيون وحدهم يواجهون آلة الحرب الإسرائيلية: "كيف تُوقف الحروب في أيام قليلة؟ كيف يتحدثون عن المدنيين هناك، ويوقفون الحروب لأجلهم، بينما غزة لا تجد من يوقف نزيفها؟".

إعلان

وارتباطا بذلك، اعتبر عدد من المدونين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان حريصًا على إنهاء الحرب مع إيران بسرعة، في وقت لا يُبدي فيه أي استعجال لإنهاء العدوان على غزة.

نتنياهو مستعجل يخلص الحرب مع حزب الله ومستعجل يخلص الحرب مع إيران بأسرع وقت ..

لكن حرب غزة؟ هو الوحيد اللي مو مستعجل يوقفها، مع إنها لو توقفت ممكن تنقذ حياة الملايين من الابرياء،بس واضح إنه قاعد يستخدم الحرب كورقة سياسية لمصلحته، مو عشان أمن الناس.

— رأس حربـه | SpearHead (@uat) June 24, 2025

ويرى هؤلاء أن نتنياهو يستغل استمرار الحرب كورقة سياسية تخدم مصالحه الشخصية، بعيدا عن أي اعتبارات إنسانية أو أمنية.

وكتب أحد النشطاء "بقيت غزة وحيدة، تنام جائعة وتنهض في بركة دم".

فضلا عن ذلك، أشار عدد من المغردين إلى أن غزة تبقى المنطقة الوحيدة التي لم تنجح أي قوة دولية أو إقليمية في فرض وقف العدوان عليها؛ بل على العكس، فإن معاناة سكانها تتفاقم مع اشتداد الحصار وتدهور الأوضاع المعيشية والإنسانية يومًا بعد يوم.

 

طيب واحنا؟
واحنا يا عالم
مين بده يحلنا؟
كل الحروب بدأت وانتهت بسرعة
يتدخل العالم بأكمله أيام وتنتهي
إلا الحرب على غزة، الجميع يشاهد ويبارك، الجميع يقبل بما تفعله اسرائيل
من ٦٣٠ يوم ولا احد بده يحلنا

— Alaa Shath | علاء شعث (@3laashaath) June 23, 2025

خلص كثيرون إلى أن الإبادة الجماعية في قطاع غزة لن تتوقف إلا عبر حراك شعبي شامل، يمتد ليشمل القدس والضفة الغربية والداخل الفلسطيني بهدف إيصال رسالة قوية إلى إسرائيل والعالم مفادها أن استمرار الحرب لن يسمح بعودة "الحياة العادية".

مقالات مشابهة

  • شاهد..سألنا الشارع ماذا لو تحكم اليمن إمرأة والإجابات كشفت تطلعات الناس
  • الزعاق للطلاب: استمتعوا بالأشياء التي تمتلكونها ولو كانت بسيطة..فيديو
  • واشنطن و الناتو... مستقبل إمبراطورية الدعوة
  • ماذا تعرف عن ساعة فلسطين التي ضربها الاحتلال في وسط طهران؟ (شاهد)
  • حين يصبح القرار عبئا لا مفر منه.. خيارات أميركا الكارثية في إيران
  • بعد وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل.. مغردون: لماذا لا تنهي أميركا حرب غزة؟
  • لا كهرباء ولا غاز.. عدن تغلي على نار الأزمات وسط عجز حكومي
  • مفتي القاعدة السابق: هذا ما جعل بن لادن يجر أميركا لحرب في أفغانستان
  • شركات الطيران تراجع مدة إلغاء الرحلات بعد الضربة الأميركية
  • الضربات الأميركية تصيب البنية النووية الإيرانية.. ماذا عن المعرفة التراكمية؟