أزمة ممتدة: جنوب السودان بين صراعات السلطة والعنف العرقي
تاريخ النشر: 7th, April 2025 GMT
يشكل اعتقال رياك مشار نائب رئيس جنوب السودان ووزراء ومسئولين آخرين خلال الأسابيع الماضية اختراقاً لاتفاق سلام هش تم توقيعه عام 2018 بعد حرب أهلية في جنوب السودان بين الرئيس سلفا كير ونائبه، امتدت لخمس سنوات ونشطت خلالها الصراعات القبلية والعرقية التاريخية في جنوب السودان وكانت نتائجها المباشرة مقتل نحو نصف مليون ونزوح مليونى شخص من مجتمعاتهم المحلية.
تصاعد التوتر بين طرفى السلطة في جنوب السودان شهد تطوراً في 4 مارس 2025، حيث استولت مليشيا النوير (الجيش الأبيض) المرتبطة بنائب الرئيس رياك مشار، على قاعدة عسكرية في منطقة الناصر تابعة لجيش جنوب السودان، وهي بلدة رئيسية على الحدود بين جنوب السودان وإثيوبيا، بعد أن اتهم مشار الجيش، بقيادة الرئيس سلفا كير، بشن هجمات على قواته في مقاطعة أولانغ في 25 فبراير الماضي، إضافة لأكثر من هجوم على الموالين له في منطقتين أخريين في غرب البلاد.
وقد اعتقل الرئيس كير العديد من كبار حلفاء مشار رداً على التطورات التي شهدتها الناصر، وتم اتهام نائب الرئيس مؤخراً على لسان المتحدث الرسمي لحكومة جنوب السودان بالتواصل مع “الجيش الأبيض” وتحريضه على التمرد على السلطة الشرعية، وذلك بالتوازي مع ما تشهده البلاد من أعمال عنف مروعة على المستوى المحلي، لا علاقة لها بالتنافس على السلطة بين كير ومشار، ولكنها مرتبطة بالصراعات القبلية التقليدية، وذلك بسبب التعددية في التجمعات العرقية الرئيسية ومنها النيلوتك والدينكا والنوير والتوبوسا واللاتوكا والزاندي والشلك. وكل واحدة من هذه التجمعات الثقافية المكتفية ذاتياً والمنعزلة لها لغتها الخاصة ومعتقداتها الدينية المختلفة. وليس معنى هذا أن العناصر الأفروعربية أو الإسلامية واللغة العربية غائبة تماماً في جنوب السودان، خصوصاً على المستوى اللغوي للعامة وغير المتعلمين فيما يسمى عربي جوبا.
جذور الأزمة
تذهب غالبية الأدبيات السياسية إلى وجود جذور تاريخية للصراع الراهن مرتبطة بشعور القبائل غير الرئيسية في جنوب السودان بالتهميش في التمثيل السياسي لصالح قبيلة الدينكا كبرى قبائل جنوب السودان، الأمر الذي دفع الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري إلى تقسيم جنوب السودان إلى ثلاث ولايات. هذا التقسيم ساهم في تجذير الشعور بالتهميش الداخلي في جنوب السودان بعد انهيار اتفاقية أديس أبابا التي أبرمت عام 1972 بين شمال وجنوب السودان وعودة قبيلة الدينكا- أكبر القبائل جنوب السودان- إلى ممارسة هيمنتها، على أن التحالف القبلي والعرقي الذي أنجزه جون جارانج في إطار الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي تبلورت عام 1983ضد الحكومة المركزية في الخرطوم قد ساهم على نحو ما في صياغة تقارب قبلي على خلفية وحدة الهدف، ولكن هذا التحالف لم يستمر طويلاً، إذ انقسمت الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1991 بين جون جارانج المنتمي إلى قبيلة الدينكا ورياك مشار المنتمي إلى قبيلة النوير، وهو ما أبرز الصراع القبلي من جديد في جنوب السودان، حيث اتخذ العنف الاجتماعي منذ هذا التاريخ أبعاداً قبلية وعرقية.
عوامل تطور الصراع
ساهمت حرب السودان التي اندلعت في أبريل 2023 في تصاعد حدة التوتر في جنوب السودان، حيث فرضت ضغوطاً متزايدة على حكومة الرئيس سلفا كير لسببين: الأول، خسارة ثلثى الإيرادات الحكومية بعد انفجار خط أنابيب تصدير النفط الرئيسي قرب العاصمة السودانية الخرطوم وسط القتال عام 2024. وقد أعاق الصراع العسكري إصلاح الأنبوب، الأمر الذي ساهم في اندلاع أزمة مالية مستحكمة.
والثاني، حالة التوازن الحرج المطلوبة من الرئيس سلفا كير إزاء كل من رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان (حميدتي) للحفاظ على علاقاته مع كليهما، إذ أن أنبوب النفط ينتهي في بورتسودان حيث الإقامة المؤقتة لحكومة السودان، بينما كانت تسيطر قوات الدعم السريع على بعض مناطق مرور الأنبوب، وهو ما فرض على كير التفاعل مع حميدتي لفترة مؤقتة، حيث أن قوات الدعم السريع سمحت عمداً بتدمير خط الأنابيب، نظراً لأن رسوم العبور كانت تذهب إلى منافسيها في بورتسودان، مما أجبر كير على إجراء مفاوضات عالية المخاطر مع قوات الدعم السريع لاستئناف تدفق النفط.
على صعيد موازٍ، تبرز تحديات قادمة من جنوب السودان للجيش السوداني في شمال السودان. إذ أن التحالف بين حميدتي وعبد العزيز الحلو – الذي يسيطر على مناطق جبال النوبة في جنوب كردفان – يسمح بامتداد الفاعلية العسكرية من دافور في غرب السودان إلى جنوب السودان وصولاً إلى مناطق أعالي النيل في جنوب السودان، حيث تعد الأعمال العدائية في أعالي النيل أول امتداد كبير للعنف من حرب السودان إلى جنوب السودان. وإذا كان التحالف يشكل ضغطاً سياسياً وعسكرياً على كل من كير والبرهان، فإنه يوفر فرصة لرياك مشار المتمرد على الرئيس كير لدعم قدراته العسكرية وأوراق ضغطه السياسي.
أما على المستوى السياسي، فإن الرئيس سلفا كير قد أقصى شركاءه في الحكومة الانتقالية التي تم تأسيسها عبر اتفاقية السلام المنشط عام 2018، وهى الحكومة التي تأخرت في إعلانها لعدة شهور عن الجدول الزمني المتضمن في اتفاق السلام، كما أقال الرئيس كير منذ عام 2020 وزيرة الدفاع من منصبها (زوجة رياك مشار)، وأقال أيضاً حاكم البنك المركزي، ومؤخراً أقال وزير النفط كانج شول، ونائب قائد الجيش جابرييل دوب لام، بينما وضع مسئولين عسكريين كبار متحالفين مع نائبه مشار رهن الإقامة الجبرية، وتم اعتقال الوزير المسئول عن جهود إحلال السلام في جنوب السودان ستيفن بار كول، لفترة محدودة، وهو من السياسيين المشاركين في مفاوضات اتفاق السلام عام 2018.
صحيح أن الحكومة التزمت بإجراء المسح السكاني عام 2022 المؤسس للإجراءات السياسية المتضمنة في اتفاقية السلام المنشط، فضلاً عن شروط التنمية المتوازنة، ولكنها تجاهلت التشاور مع الأحزاب بشأن تشكيل الحكومة الانتقالية، ولم يتم وضع دستور دائم للبلاد، كما لم يتم وضع التشريعات اللازمة لتشكيل المحاكم المختلطة، حيث تقع مسئولية إنشاء المحكمة المختلطة على عاتق مفوضية الاتحاد الإفريقي، ونظراً لمعارضة الحكومة المستمرة، فقد ترددت المفوضية في إنشاء المحكمة المختلطة من جانب واحد. وفي الوقت نفسه، تم عرقلة إنشاء هيئة تسوية النزاعات.
وفي عام 2024، ونظراً لتصاعد مؤشرات التوتر السياسي والقبلي وأيضاً الأمني، تم نشر قوات حفظ سلام إضافية وقوات عاجلة في النقاط الساخنة في جنوب السودان التي عانت من خطف للمدنيين، ونزوح نتيجة التغير المناخي والمجاعات.
وهكذا تبلورت عوامل التوتر السياسي، الأمر الذي أسفر عن تأجيل الانتخابات الرئاسية أكثر من مرة لتكون سنوات حكم سلفا كير ١٤ عاماً متصلة، حيث من المقرر أن يتم إجرائها نهاية عام 2026.
تطويق الصراع
التفاعلات المرتبطة بحرب السودان من المنتظر أن تدفع الجيش السوداني إلى تأمين منطقة أعالي النيل في جنوب السودان، عبر قطع الطريق على ممر يوفره التحالف بين قطاع الشمال في حركة تحرير السودان في جبال النوبة وبين قوات الدعم السريع، وهو الممر الذي يتيح لها منطقة عمليات آمنة تمتد من دارفور غرباً عبر جنوب كردفان جنوباً عبر أعالي النيل في جنوب السودان إلى ولاية النيل الأزرق السودانية وإثيوبيا شرقاً.
هذه الأوضاع الميدانية قد تفرض تفاعلاً بين الجيش السوداني وقبائل النوير المتواجدة في هذه المناطق بينما هم أعداء لحليف الفريق البرهان، سلفا كير الذي يدعمه حالياً الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني بقوات موجودة بجنوب السودان شنت قصفاً ضد “الجيش الأبيض” أكثر من مرة.
وتكمن المخاطر الحقيقية في اندلاع قتال في مدنية ملكال عاصمة ولاية أعالي النيل، نظراً لكونها مدينة متعددة الأعراق، وقد تؤدي أعمال العنف فيها إلى نتائج مرعبة على الصعيد الإنساني، خصوصاً وأن مقتل الجنرال ماجور داك قائد منطقة الناصر العسكرية على يد النوير رغم جهود الأمم المتحدة لإنقاذه عبر محاولة إخلاء جوي، ساهم في تصعيد التوتر السياسي والعسكري بين كير ومشار وبالتالي اتخاذ قرار اعتقاله، فضلاً عن احتجاز الرئيس كير حالياً قادة عسكريين مرموقين تابعين لمشار.
وطبقاً لتوقعات الخبراء، فإن تطويق سيناريو اندلاع صراع مسلح في جنوب السودان مطلوب من الاتحاد الإفريقي، فضلاً أنه مطلوب من القاهرة الانتباه لاندلاع هذا الصراع، ومحاولة تطويقه عبر الجهود الدبلوماسية المباشرة بالتعاون مع كل من الاتحاد الإفريقي والسودان وإرتيريا والصومال، إذ أن تفعيل التحالفات المصرية في شرق إفريقيا يتطلب الانخراط الفعال في جهود إحلال السلام في هذه المنطقة المهمة استراتيجياً لمصر.
د. أماني الطويل – بوابة الأهرام
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الرئیس سلفا کیر فی جنوب السودان السودان إلى أعالی النیل الرئیس کیر
إقرأ أيضاً:
اليمن ودول شرق أفريقيا.. بين الحروب بالوكالة والعنف الطائفي.. كيف يمكنها تجاوز ذلك؟ (ترجمة خاصة)
قالت منصة "ملخص السياسات الدولية" إن منطقة القرن الأفريقي واليمن، الغنيتان بالموارد والقيمة الاستراتيجية، لا تزالان محصورتان في الصراع وسوء الإدارة، لكن يمكنهما تحقيق الاستقرار والازدهار من خلال الإصلاحات التكنوقراطية المدفوعة محليًا والتحول في المشاركة الأجنبية.
وأضافت المنصة في تحليل للناشط السياسي الصومالي شيخ نور قاسم إن دول القرن الأفريقي – التي تحيط بأحد جانبي الممر البحري الحيوي – واليمن، على الشاطئ المقابل، تشكل معًا واحدة من أكثر مناطق العالم محورية من الناحية الاستراتيجية ولكنها مضطربة بشكل مزمن. وهذه هي العلاقة التي تربط المحيط الهندي وخليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر.
وحسب التحليل فإن هذه المنطقة التي تواجه تحديات كبيرة تشمل الصومال، وإثيوبيا، والسودان، وإريتريا، وجيبوتي، واليمن - وهي دول تعاني من الإرث الاستعماري، والصراعات على السلطة في الحرب الباردة، والصراعات بالوكالة، والعنف الطائفي، والمجاعة، والصدمات المناخية.
ويرى أن ما تتحمله هذه الدول، على الأقل اسميًا، هو أمر رائع في حد ذاته، نظرًا لحجم الصعوبات التي تحملتها.
وأفاد بأن عدد سكان هذه المنطقة مجتمعة يبلغ حوالي 265 مليون نسمة، ولا تمثل سوقًا ضخمة فحسب، بل تمثل أيضًا قوة ديموغرافية، حيث يقل متوسط العمر فيها عن 25 عامًا.
نص التحليل
جغرافياً، تقع عند نقطة التقاء أفريقيا وغرب آسيا وجنوب آسيا وأوروبا، وتسيطر على الممرات البحرية الحيوية التي تمر عبرها أكثر من 20 ألف سفينة سنوياً، وتنقل البضائع وإمدادات النفط والطاقة، بما في ذلك الغاز.
تاريخيًا، كان هذا الممر يشكل الجناح الغربي للحوض التجاري والثقافي للمحيط الهندي. لقد كانت منذ فترة طويلة قناة للتجارة والحركة والروحانية - مكان تتقاطع فيه السلع والأشخاص والأفكار عبر آلاف السنين.
ومرة أخرى، تتمتع المنطقة بالقدرة على أن تصبح مركزا عالميا للتجارة والطاقة وإنتاج الغذاء والابتكار. ويمكن لمواردها الهائلة أن تدعم تقنيات اليوم والغد.
لكن الحلم يبقى مؤجلا. لعقود من الزمن، كانت المنطقة غارقة في الحرب، ومعوقة بالتدخل الأجنبي، ومجوفة بسبب سوء الإدارة - مما أدى إلى إيقاع الملايين في براثن الفقر وانعدام الأمن. ويؤدي انهيار الاستقرار إلى تعريض حياة الناس وسبل عيشهم وحرية التنقل برا وبحرا وجوا للخطر.
منطقة على حافة الجحيم
وتشمل هذه المنطقة التي تواجه تحديات كبيرة الصومال، وإثيوبيا، والسودان، وإريتريا، وجيبوتي، واليمن - وهي دول تعاني من الإرث الاستعماري، والصراعات على السلطة في الحرب الباردة، والصراعات بالوكالة، والعنف الطائفي، والمجاعة، والصدمات المناخية. إن ما تتحمله هذه الدول، على الأقل اسميًا، هو أمر رائع في حد ذاته، نظرًا لحجم الصعوبات التي تحملتها.
كل دولة تحمل مزيجها الخاص من الآلام. ويعاني الصومال من العنف المتطرف، والتدخل الأجنبي، والسياسات العشائرية المنقسمة، وكلها تتفاقم بسبب المجاعة ويدمر تغير المناخ. إن إثيوبيا ممزقة بالصراع العرقي، وسوء الإدارة، والجوع، والأيديولوجيات التوسعية المتجذرة في التاريخ الأسطوري.
ويواجه السودان الفوضى الداخلية والتلاعب الخارجي، والعنف السياسي، والانهيار الاقتصادي. وعلى الجانب الآخر من البحر الأحمر، يعاني اليمن من حرب أهلية وحشية، وأجندات أجنبية غازية، وأزمة إنسانية حادة يتجلى فيها انعدام الأمن الغذائي والتدهور المؤسسي.
وتتمتع المنطقة بموقع استراتيجي على مفترق الطرق بين غرب آسيا وشمال شرق أفريقيا، ولها آثار تتجاوز حدودها بكثير. وينتقل مصيرها إلى الخارج، مما يؤثر على السلام والصراع عبر قارتين. فموانئها لا غنى عنها للتجارة العالمية، ومن الممكن أن تلعب أصولها الطبيعية ــ النفط والغاز والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ومصايد الأسماك، والأراضي الصالحة للزراعة، ورأس المال البشري الوفيرة ــ دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي.
تاريخ غني ووعد مهدور
تشكل دول القرن الأفريقي واحدة من أقدم مفترق الطرق التجارية في العالم، قبل وقت طويل من ظهور أوروبا كقوة تجارية عالمية. ربطت هذه المنطقة شمال شرق إفريقيا بالجزيرة العربية وبلاد فارس وجنوب آسيا وجنوب أوروبا، مما أدى إلى خلق فسيفساء نابضة بالحياة من الأديان واللغات والثقافات. فهي المكان الذي ولدت فيه المسيحية الأفريقية وتجذر فيه الإسلام قبل وصوله إلى المدينة المنورة.
وهي أيضًا منطقة ذات إمكانات زراعية هائلة - سواء في الزراعة أو الإنتاج الحيواني - مع موارد بحرية واسعة تمتد عبر المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر. وتشمل ثروتها المعدنية النفط والغاز واليورانيوم والذهب والعناصر الأرضية النادرة. ولعل الأمر الأكثر قيمة هو سكانها الشباب: الملايين الذين يستعدون للمساهمة في قوة عمل ديناميكية.
وبوسع المنطقة أن ترسيخ نهضة الرخاء التجاري والتنمية الاقتصادية، بما يعود بالنفع على مواطنيها وشركائها خارج حدودها. لكن تحقيق هذه الرؤية يتطلب الاستقرار السياسي، والقيادة الحكيمة، والحكم الكفؤ - وهي ثلاثة عناصر يتم تقويضها باستمرار بسبب التدخل الأجنبي وضيق الأفق الذي تتسم به النخب الحالية.
إن ما يُفرّق شعوب المنطقة - سواءً أكان عرقيًا أم سياسيًا أم دينيًا - غالبًا ما يكون أقلّ عمقًا مما يبدو. وقد تضخمت هذه الخلافات، بل وافتعلتها، قوى خارجية وانتهازيون داخليون.
التكلفة الباهظة للتدخل الأجنبي
لقد جعلت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة منها ساحة صراع بين قوى عالمية وإقليمية، تُعطي العديد منها الأولوية للسيطرة على الموارد وتحقيق النفوذ الجيوسياسي على حساب رفاهية السكان المحليين. وقد استثمرت دول الخليج، على وجه الخصوص، بكثافة في وكلائها العسكريين والسياسيين، متنافسةً على النفوذ على الموانئ والموارد الطبيعية بدلًا من تعزيز السلام أو دعم التنمية.
وقد أجّجت هذه القوى الخارجية الصراعات بتمويل الميليشيات والتلاعب بالفصائل السياسية. وتُقوّض تدخلاتها سيادة الدولة، وتُعيق المصالحة الوطنية، وتُعيق الإصلاح الهادف. وبدلًا من المساعدة في بناء مؤسسات مستدامة، تُديم هذه القوى الفوضى - مُقوّضةً في كثير من الأحيان، عن غير قصد، مصالحها طويلة الأجل.
لا تزال التنمية متوقفة، والمعاناة الإنسانية مستمرة، ووعد المنطقة لم يتحقق. لم يستفد أي طرف - محليًا كان أم أجنبيًا - من هذا الخلل الممتد. الموارد الطبيعية والبشرية الهائلة في المنطقة راكدة أو تُستنزف، ضائعة في غبار الصراع وسوء الإدارة.
دور أمريكا ومسؤوليتها
بصفتها قوة عالمية ذات مصالح راسخة ووجود عسكري في المنطقة، لا يمكن للولايات المتحدة أن تدّعي الحياد. فبينما تُعطي الولايات المتحدة الأولوية بطبيعة الحال لمصالحها الوطنية، عليها أيضًا أن تُقرّ بتواطؤها - المباشر وغير المباشر - في حالة عدم الاستقرار الحالية في المنطقة. إن اعتمادها المفرط على وسطاء الخليج، الذين لا يفهمون ثقافات المنطقة ولا تعقيداتها الاجتماعية، زاد الطين بلة.
الثروة لا تمنح الحكمة. فالجهات الفاعلة في الخليج، على الرغم من وفرة رأس المال، تفتقر إلى الطلاقة الثقافية والبصيرة التاريخية اللازمتين لتوجيه السياسة في القرن الأفريقي. والأسوأ من ذلك، أن أجنداتهم غالبًا ما تتعارض مع المصالح الأمريكية، مما يُزعزع استقرار المنطقة من خلال سعيهم لتحقيق أهداف اقتصادية ودينية ضيقة.
يجب أن تُغير السياسة الأمريكية مسارها. يجب أن تتخلى عن الاستعانة بمصادر خارجية، وأن تتواصل مباشرةً مع أصحاب المصلحة الإقليميين، بمن فيهم المواطنون، ومنظمات المجتمع المدني، والإصلاحيون، والشباب، والمنظمات النسائية. بدلًا من دعم الأنظمة الفاسدة عبر قنوات غير مباشرة، ينبغي على واشنطن دعم فرق انتقالية تكنوقراطية مُكلفة باستعادة مؤسسات الدولة وإعادة بناء الثقة.
إن الحكم التصاعدي - المتجذر في الهوية الوطنية والشفافية والجدارة - هو الحل الوحيد القابل للتطبيق على المدى الطويل. أما النموذج الحالي، القائم على تقاسم السلطة على أساس العشائر والمحسوبية القبلية، فهو وصفةٌ للتشرذم الدائم. لقد فشل، ويجب استبداله.
يُمثل الصومال حقل اختبارٍ محتمل لهذا النهج الجديد. وفي حال نجاحه، يُمكن تطبيق الإطار نفسه على اليمن ودولٍ أخرى مُعرّضة للأزمات في المنطقة.
تكنوقراطيةٌ محدودة المدة
يحتاج القرن الأفريقي واليمن إلى نموذج حكمٍ جديد: نموذجٌ تكنوقراطيٌّ مؤقتٌّ بصلاحياتٍ واضحةٍ وتاريخ انتهاءٍ مُحدد. ويمكن للصومال، على وجه الخصوص، أن تُجرّب هذا النهج. والهدف هو إعادة بناء الأمن من خلال جيشٍ وطنيٍّ مُجدَّدٍ مدعومٍ بقوات شرطةٍ مُصلَحةٍ وجهازِ استخباراتٍ محترف. وسيُصاحب ذلك صياغةُ دستورٍ جديدٍ مُتجذّرٍ في ميثاق عام 1961 الأصلي.
من شأن هذا الإطار أن يُعطي الأولوية للكفاءة على الولاء العشائري، وللمصلحة الوطنية على المكاسب الفئوية. يمكن أن يُصبح ساحل الصومال الطويل - المُهمَل إلى حد كبير - أساسًا لاقتصاد بحري مُنعش، مما يفتح الباب أمام الاستثمار المحلي والأجنبي.
ينبغي أن تكون الحكومات التكنوقراطية بمثابة قيّمة، لا مجرد كيانات ثابتة. هدفها هو تحقيق الاستقرار، والاستعادة، ثم التنحي جانبًا - مما يسمح باستئناف العمليات الديمقراطية في ظروف أفضل بكثير مما هي عليه اليوم.
دور تركيا والجهات المعنية الأخرى
يتطلب أي حل دائم تحولات جوهرية من الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية الأخرى أيضًا. يجب على الولايات المتحدة التواصل مباشرةً مع الجهات الفاعلة المحلية. يجب على دول الخليج أن تكف عن مؤامراتها المثيرة للانقسام وأن تُعيد صياغة نفسها كشركاء حقيقيين في التنمية.
يجب على تركيا، الناشطة بالفعل في الصومال، أن تظل يقظة لمنع الفساد المُسهِم. يجب أن تُثير التقارير التي تُفيد بأن النخب الصومالية تُغسل الأموال العامة وتُحولها إلى عقارات وشركات تركية قلق أنقرة بقدر ما تُثير قلق مقديشو.
مهما كانت نوايا الجهات الفاعلة الأجنبية حسنة، فإنها لا تستطيع فرض التحول. يجب أن ينبع التغيير الحقيقي من الداخل. يجب أن تتولى شعوب المنطقة زمام الأمور في مصائرها. قد يكون قبول دور القيادة التكنوقراطية المؤقتة خطوة أولى مؤلمة، وإن كانت ضرورية، نحو السلام وتقرير المصير.
حسابٌ أخير
هذه المنطقة مهمة. إنها لا تهم شعبها فحسب، بل النظام العالمي الأوسع أيضًا. لعدم استقرارها عواقب عالمية: تهديد التجارة، وتهجير السكان، واحتضان التطرف. لكن استقرارها يمكن أن يولد الرخاء والأمن والشراكات الاستراتيجية لجيل كامل.
لقد عانى القرن الأفريقي الكثير - الحرب والمجاعة وسوء الحكم والاستغلال الأجنبي. لقد تم تعريفه بما ينقصه. لكن هذا ليس بالضرورة.
إن تحول المنطقة ليس فكرةً مجردة، بل هو ضرورة. بفضل العمل الجريء من شعبها وموقفٍ مُعاد ضبطه من الشركاء الأجانب، يمكن للقرن الأفريقي أخيرًا استعادة كرامته ومصيره. السلام والازدهار ليسا بعيدَي المنال. لكنهما لن يأتيا بالصدفة. يجب بناؤهما - بوعي وشفافية، ومن القاعدة إلى القمة.