بقلم: كمال فتاح حيدر ..
اغلب الظن ان الاعلامي (جلال النداوي) قرأ مقالتي القديمة الموسومة: (ارحموا شنشل يرحمكم الله)، والتي سبق لي ان نشرتها باسم مستعار (صابر بن حيران) عام 2008 على صفحات منصات التواصل، ومازالت منشورة على النت حتى يومنا هذا. لكنه تعمد التغافل عنها وعن كاتبها وعن الظروف التي دفعت الكاتب لنشرها، فجاءت حلقته الأخيرة في برنامجه (أوراق مطوية) على قناة التغيير خالية تماما من الإشارة إلى الكاتب لأسباب أنا اعلم بها.
والحقيقة ان فكرة المقالة جاءت بطلب من استاذي اللواء البحري الركن (قيس عبدالرحمن محمد عارف) رحمه الله، الذي طلب مني إعداد مقالة موجهة إلى الحكومة العراقية نطالب فيها باستعادة حقوق هذا الرجل الذي لعب دورا كبيرا في تنظيم صفوف الجيش العراقي منذ أربعينيات القرن الماضي، وكنت بحاجة إلى التعرف على سيرته الذاتية منذ ولادته وحتى رحلته العلاجية إلى الأردن. فكان لابد من التواصل مع نجله الأكبر الدكتور (مثنى)، وهكذا اكتملت اركان المقالة المرفقة وكانت بهذا العنوان، وموجهة إلى مكتب رئيس الوزراء، الذي امر باخلاء بيت الرجل في بغداد، وإخلاء بيته في الموصل، وصرف استحقاقاته التقاعدية، لكن الاخ (النداوي) لم يلتزم بالأمانة الادبية ولا بالملكية الفكرية فتغافل عن المقالة وكاتبها. .
واسمحوا لي ان أضع بين ايديكم النص الكامل للمقالة التي نجحت في إنصاف الفريق الاول الركن عبدالجبار شنشل رحمه الله:
[[ ارحموا شنشل يرحمكم الله
بقلم: صابر بن حيران
من منا لا يعرف الفريق الأول الركن عبد الجبار شنشل هذا الجندي الذي خدم الجيش العراقي منذ يوم تخرجه في الكلية العسكرية العراقية ببغداد عام 1940 وحتى عام 2003 ؟؟ ومن منا لا يعرف إنه خدم في صفوف الجيش في الحقبة الملكية, وتدرج في المراتب الحربية في تشكيلات الأنظمة الجمهورية التي جاءت بعد الحكم الملكي ولم يكن متحزبا ولا متحيزا ولا متطرفا ولا متعصبا, كان عبارة عن جندي وطني حريص على أداء الواجبات المنوطة به على الوجه الأكمل ؟؟. ومن منا لا يعرف نزاهته واستقامته وتواضعه وصراحته وانضباطه العسكري ؟. ومن منا لا يعرف ان اسمه صار من العلامات الفارقة لصنف المشاة الآلي في الجيش العراقي على وجه العموم ؟. ومن منا لا يعرف انه قاتل الصهاينة عام 1948 ، وقاتلهم في حرب (1973) ؟ . ومن منا لا يعرف انه أسهم إسهاما مباشراً في بناء الجيش العراقي, ولعب دورا كبيرا في تحديثه وتطويره والانتقال به من ست فرق إلى ستين فرقة ؟ . ومن منا لا يعرف انه لم توجه إليه أي تهمة ؟ ، ولم تسجل ضده أي شكوى ؟ ، ولم يصدر بحقه أي قرار من قرارات المحاكم العراقية ؟. ومن منا لا يعرف انه تميز عن أقرانه من كبار الضباط ببساطته وطيبته وعفويته, وتميز أيضاً بلكنته الموصلية الجميلة على الرغم من انه غادر الموصل إلى بغداد وهو في سن الخامسة, لكنه ظل متمسكا بمفرداتها حتى يومنا هذا ؟؟ ومن منا لا يعرف إنه غادر العراق ليستقر في الأردن من دون أن يعترضه أحد ؟, ومن منا لا يعرف إن الرجل يرقد الآن على فراش الموت في بيت ابنته بعد إصابته بالجلطة الدماغية ؟ ويمر اليوم بأصعب الظروف المعيشية ويتعذر على أفراد عائلته أحيانا تأمين ابسط مستلزمات علاجه ورعايته ؟ ومن منا لا يعرف انه أقترب كثيرا من العقد التاسع من العمر (88) عاماً) ؟ وانه فقد ذاكرته العسكرية والمهنية والإدارية, فهل فقدنا نحن ذاكرتنا حتى نتجاهل ابسط الأعراف والقواعد الإدارية, ونشطب حقوقه كلها من دون الرجوع إلى القوانين وأحكامها الشرعية ؟ وهل من العدل أن تتجاهل المؤسسة العسكرية العراقية استحقاقاته التقاعدية وتغض النظر عنها؟ وهل يجوز السماح للمتنفذين بالاستيلاء على ممتلكاته الخاصة المسجلة باسمه في دائرة التسجيل العقاري, والتي يقول عنها ابنه الدكتور يوسف: ان دار والده تمت مصادرتها من قبل أحد قادة الصحوة), وان داره الأخرى استولى عليها شخص آخر من مدينته في الموصل, فهل من العدل والإنصاف الاستيلاء على بيوت الناس من دون وجهة حق ؟ أليس العدل أساس الملك ؟ وهل يصعب على الدولة العراقية شمول هذا الشيخ العجوز برعايتها وعنايتها ورحمتها وحمايتها ؟…
ترى متى نسعى لتطبيق أبسط مفردات التسامح فيما بيننا في الميادين السياسية والاجتماعية ؟ ومتى يدرك الساسة إن التسامح هو القنطرة المتينة التي تقودنا نحو بر الأمان, وأن غيابها يفرض علينا الانكماش في نقطة الصفر فيما يسمى في السياسة بالتقوقع في دائرة الصراع المغلق..
الا يعلم الساسة أن التسامح الديني يقتضي عدم التجاوز على حقوق الناس, وعدم التفريط بهم, فما بالك برجل عجوز مشرف على الموت يطلب النجدة من السيد رئيس الجمهورية لإسعاف وضعه الصحي, ويطلب من قادة العراق التدخل لصيانة حقوقه المدنية التي أقرتها الشريعة الإسلامية, وأقرتها الأعراف السماوية كلها, وأكدت عليها اللوائح الإنسانية ؟؟.. ارحموا هذا الرجل حتى لو كانت بينه وبينكم عداوة, وكونوا كالذين قال فيهم رب العزة : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)), ((والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)), ما أروع هذه القوانين الربانية التي يفترض أن نتمسك بها حتى لا نفقد التحكم بانفعالاتنا, ولا نكون طرفا في ظلم الناس ومصادرة حقوقهم. .
لم يعد شنشل قائداً عسكريا كما كان ولا وزيرا للدفاع ولا رئيسا لأركان الجيش, فالرجل يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة في الغربة, ويتطلع للعودة إلى العراق ليودع الحياة كمواطن نشأ وترعرع على تربته الطيبة, وذاد بالدفاع عن حياضه, لكنه خرج منه صفر اليدين, ولا يملك من حطام الدنيا سوی دراهم معدودات لا تكفي لعلاجه في الوقت الذي حرمت فيه عائلته من مسكنها في العراق وحرمت من راتبه التقاعدي كوزير, أو كقائد, أو كملازم أول, أو كجندي في الجيش العراقي, وذلك أضعف خيوط الرجاء]]. .
نشرت المقالة قبل وفاته بسنوات وكان لها الاثر الكبير في استعادة حقوقه. .
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات الجیش العراقی
إقرأ أيضاً:
عن العنف الذي لا يبرر
يونيو 11, 2025آخر تحديث: يونيو 11, 2025
وفاء نصر شهاب الدين
كاتبة من مصر
في صغري، أرسلتني أمي إلى بيت جدتي في زيارة كانت تبدو عادية تمامًا، لولا أنها خبأت لي مشهدًا من تلك المشاهد التي تترك ندبة في الذاكرة لا تُشفى بسهولة.
كان هناك كلبٌ أبيض، جميل، شعره كيرلي ناعم كقطن السحاب. بدا لي وقتها وكأنه مخلوق من القصص، من أولئك الذين يرافقون الأطفال في الحكايات القديمة ويحرسونهم من الأشباح. كنت أراه لطيفًا، بريئًا… حتى اللحظة التي ركض فيها خلفي وعقرني.
تغيّر كل شيء بعدها، كبر داخلي خوفٌ لم أفلح في التخلُّص منه تمامًا. كلما اقترب مني كلب في الشارع، تتراجع خطواتي، يتسارع نبضي، وتنهض الطفلة التي بداخلي مذعورة.
لكن، ورغم هذه الذكرى التي جرحت ثقتي، لم أكره الكلاب أبدًا. لم أفهم يومًا كيف يمكن لإنسان أن يؤذي حيوانًا لا حول له ولا قوة، أن يضربه، أن يسحله، أن يسمّمه، أو أن ينظر إليه وكأنه عدو لا بد من القضاء عليه.
الشارع في السنوات الأخيرة صار قاسيًا، ليس فقط على البشر، بل على الكائنات التي لا تملك صوتًا يدافع عنها.
كم من مرة رأيت كلبًا يُركل بلا سبب، أو تُلقى عليه الحجارة وكأن قلوب الناس قد تحجّرت!
كم من مرة سمعت عن حملات قتل جماعي للكلاب الضالة، وكأن الوفاء الذي عُرفت به هذه المخلوقات لم يعد يعني شيئًا في عالمنا.
أين ذهب الحنان؟
أين اختفى التراحم الذي أوصت به الأديان قبل القوانين؟
كيف تحوّلنا إلى بشر يخافون من الطيبة، ويشهرون العداء ضد الكائنات التي لا تطلب إلا الأمان وبعض الطعام؟
الكلب الذي عضّني وأنا طفلة… ربما خاف. ربما رأى فيّ تهديدًا لا أفهمه. ربما أراد أن يلعب ولم يُحسن التعبير.
لكنه، رغم كل شيء، لم يكن شريرًا.
الشر، في حقيقته، ليس في الحيوان، بل في القسوة التي نغلّف بها قلوبنا، وفي الجهل الذي يدفعنا إلى إيذاء كل ما هو أضعف منّا.
ليت الشوارع تتسع قليلًا للرحمة.
ليت البشر يعيدون النظر في علاقتهم بالحيوانات، ليس فقط من منطلق الشفقة، بل من باب المسؤولية الأخلاقية والإنسانية.
فنحن لا نُقاس فقط بما نفعله تجاه من نحب، بل بما نفعله تجاه من لا يستطيع أن يردّ الأذى عن نفسه. نحن نعيش في مجتمع يتحدث كثيرًا عن الأخلاق، عن التدين، عن الفضيلة… لكننا ننسى أن الرحمة ليست شعارًا يُرفع، بل سلوك يومي يُمارس، خاصة تجاه من لا يملك صوتًا يُدافع به عن نفسه.
أحيانًا أسير في الشارع فألمح كلبًا يجلس على الرصيف، عينه قلقة، ذيله بين قدميه، ووجهه ممتلئ بأسئلة لا تُقال:
“هل سأُطرَد؟ هل سأُضرَب؟ هل هذا المارّ طيب أم غاضب؟” كلب لا يريد شيئًا سوى الأمان، وربما قطعة خبز، وربتة على الرأس… أو على الأقل، أن يُترك وشأنه دون أذى. لماذا لا نترك الكلاب وشأنها؟
لماذا لا نعترف بأن هذه المخلوقات، وإن كانت لا تتكلم، إلا أن قلوبها تفهم، وذاكرتها تحتفظ، ووفاءها يتجاوز في كثير من الأحيان وفاء البشر؟ الكلب لا يخون، لا يبيع، لا يؤذي بلا سبب. الكلب لا يكذب.
وما يوجع أكثر من العنف، هو اللامبالاة…أن يُضرَب الكلب في منتصف الشارع، ولا يتوقف أحد. أن يُسمَّم، ويُترك يتلوى في صمت، كأن موته لا يعني شيئًا. أن تتحوّل الكائنات الأليفة إلى أهداف متحرّكة لغضبٍ مكبوت، وعداء غير مبرر، لا تبرّره شريعة، ولا تقبله نفسٌ سوية.
ربما لا أزال أخاف الكلاب قليلًا، لكنني أحبها رغم ذلك، وأدافع عنها ما استطعت. لأنني أؤمن أن الكائن الذي أحبك بصدق حتى بعد أن آذيته، لا يستحق سوى الحماية.
لأن الطفلة التي بداخلي، التي ركضت مذعورة من كلبٍ أبيض، عادت بعد سنوات طويلة، ومدّت يدها لحيوان خائف في الشارع… وربّتت على رأسه. ربما شُفيت بعض الشيء. وربما حان الوقت لنُشفي نحن جميعًا من هذه القسوة التي تسكننا. أقول دائمًا إن ما يفعله الإنسان في الخفاء، مع كائنٍ ضعيف، هو مرآته الحقيقية.
لا يُعرّفنا موقف أمام جمهور، ولا كلمة في ندوة، بل تلك اللحظة التي نمرّ فيها بجانب حيوان جائع أو مذعور… كيف نتصرف حينها؟ تلك هي الحقيقة. الكلب لا يملك لغة ليدافع بها عن نفسه، لكنه يملك قلبًا يفهم ويشعر.
وما أبشع أن نُقابل الوفاء بالخيانة، والوداعة بالقسوة، وأن نغضّ الطرف عن مشاهد الألم لمجرد أنها لا تخصّنا مباشرة
كل كلب مشرّد في شوارعنا هو اختبار صامت لإنسانيتنا. وكل حجر يُرمى، أو قدم تُركل، أو نظرة اشمئزاز تُلقى على كائنٍ أعزل… هي جرح فينا قبل أن تكون جرحًا فيه.
دعونا نتذكر أننا لا نعيش وحدنا، وأن الأرض ليست لنا فقط وأن الرقة ليست ضعفًا، بل رفعة وأن من يُؤذي كائنًا لا يتكلم، سيصعب عليه أن يُحب كائنًا يتكلم. ربما لو أحببنا الكلاب قليلًا، أو على الأقل احترمنا وجودها، لعادت الشوارع أقل عنفًا، وأكثر احتمالًا…وربما لو تذكّر كل واحد فينا كلبًا قديمًا، في طفولته أو في ذاكرته، لكان في قلبه شيء من الحنان لا يُفسَّر.
الكلب الذي عضّني وأنا صغيرة، علّمني شيئًا لا تنقله الكتب: أننا قد نخاف ممّن نحب، لكننا لا نكرههم…وأن الحب الحقيقي لا يزول، حتى إن ترك ندبة.