الجزيرة:
2025-05-23@21:50:41 GMT

احذروا.. الليبرالية الفاشية على الأبواب

تاريخ النشر: 8th, April 2025 GMT

احذروا.. الليبرالية الفاشية على الأبواب

قال نابليون عن تاليراند، الوزير الذي خدم كل الأنظمة المتتابعة وخانها كلها، وكان معروفًا بأناقته وظرفه وطراوة لسانه، إنه مثل النُفايات المخفية داخل جورب من الحرير الفاخر. جاءتني نفس الصورة وأنا أتفحص كتابات المدعو كرتيس يارفين، الذي يعتبره البعض المنظّر الأول للسياسة الأميركية الحالية، والرجل الذي يستقي منه حكامها بعض الأفكار و"القيم".


أما جورب الحرير الفاخر، فكلمات رنانة مثل "التنوير المظلم" (Dark Enlightenment)، أو "الكاتدرائية" التي ترمز لكبرى الجامعات ومراكز البحث والصحافة والتي يجب تدميرها؛ لأنها هي التي تنتج وتصدر الأفكار والقيم الهدامة للديمقراطية، وبقية ما يسمى حقوق الإنسان.

ثمة أيضًا مفهوم "الرجعية الجديدة" التي ستعيد للرجعية القديمة شبابها وسمعتها. يبقى أنك عندما تدقق النظر فيما يختفي وراء هذه الكلمات المثيرة لن تجد إلا جلّ النفايات الفكرية المتعفنة لفاشية بداية القرن العشرين في أوروبا.

على سبيل العد لا الحصر:

الأعراق البشرية ليست متساوية في الطاقات والقدرات، والعرق الأبيض هو العرق المتفوق. الديمقراطية ليست الحل وإنما المشكل؛ لأنها تضع القرار بين يدي جهلة. السلطة الفاعلة هي السلطة التنفيذية الممركزة كليًا بين يدي زعيم أوحد، أما السلطتان التشريعية والقضائية فمجرد هيئتين استشاريتين في أحسن الأحوال. إعلان

والآن الفكرة الوحيدة المضافة لسجل ثوابت الفكر الفاشي:

الدولة- الأمة تنظيم تقادم عهده ويجب التخلص منه لصالح تنظيم جديد يُساس فيه المجتمع كشركة اقتصادية خاصة، على رأسها مدير عام يتمتع بكل الصلاحيات. تحته مجلس إدارة يأتمر بأوامره، مكوَّن من نخبة النخبة، وهي بالطبع غير منتخبة ولا تدين بالولاء إلا للمدير العام.

أما ما يسمى الشعب، فيجب التعامل معه كما تتعامل الشركات مع مالكي أسهمها. هذا ما سيجبر المديرين العامين للأوطان على التنافس فيما بينهم لاكتساب أكبر عدد من الحُرفاء، ولا عزاء لكل الأوطان- الشركات المفلسة.

بطبيعة الحال، لا مجال في مثل هذا التنظيم لدولة خدمات مكلفة، ولبيروقراطية تتكفل بشحن المساعدات لمن لا يستأهلون البقاء في مجتمع عادَ لأوّل قوانين الطبيعة – كما يتصورها الفاشيون- أي غاب لا مكانَ فيها للتعاضد، وإنما للصراع الأزلي والبقاء فيها فقط للأقوى.

لقائل أن يقول: هراء في هراء. لكن، انظر لما يجري في أميركا اليوم. هناك رئيس يجمع بين يديه كل السلطات، يحل مؤسسة التعاون الدولي (USAID – الوكالة الأميركية للتنمية الدولية) التي سماها نائبه منظمة إجرامية دون إذن من الكونغرس، ناهيك عن تجاهل قرارات القضاء.

هو يتحدّث من الآن عن دورة ثالثة يمنعها الدستور الأميركي، إلا إذا انقلب على هذا الدستور وغيره، كما يحدث في العالم العربي وأفريقيا.

هناك أيضًا سياسة ممنهجة لإضعاف الدولة الفدرالية والحد من خِدماتها في كل المجالات الحيوية كالتعليم والضمان الاجتماعي. هناك هجوم منظم لتركيع الجامعات والإعلام وتدمير "الكاتدرائية" أي عش الدبابير الذي ينتج أفكار المساواة والعدالة ومناهضة العنصرية والحرب في غزة.

هناك التعامل مع الحرب في أوكرانيا لا كدعم دولة ديمقراطية لدولة ديمقراطية معرضة للغزو، وإنما كمقايضة تجارية، السؤال فيها: ماذا تجني أميركا من هذا الدعم؟ ولماذا مواصلته إن لم تدفع أوكرانيا الثمن بالتخلي لها عن معادنها النادرة؟
ألا يعني كل هذا أن ما كان يهرف به كورتيس يارفين في مكان قصي من الإنترنت المظلم، هو أيديولوجيا الطبقة السياسية المتحكمة في أقوى دولة في العالم اليوم؟

إعلان

تفرض علينا هذه الظاهرة غير المسبوقة الانتباه لتحوّلَين جذريَين في الفكر والسياسة، سيكون لهما تأثير بالغ الخطورة على مستوى العالم، وخاصة على مستوانا نحن العرب.

التحول الأول: هو في مستوى الفكر الفاشي الكلاسيكي

حقًا ما زال يحتفظ بالثوابت القديمة من تأليه القوة، وعبادة الزعيم، واحتقار الأعراق الدونية، وتقسيم المجتمع لنخبة لها كل الحقوق، وأغلبية عليها كل الواجبات.

الجديد هو أن الفاشية الجديدة لم تعد تؤمن بالدولة كأداة ضرورية أو فعالة للتحكم في القطعان البشرية. هي تستخف بالدولة في حدودها الجغرافية الضيقة كتنظيم تقادم عهده ولا ضرورة لبقائه، بسبب التحولات الهائلة في التكنولوجيا وعولمة سيطرة رأس المال.
أي قيمة للسبع والخمسين دولة أفريقية التي لا تصل ميزانيتها لميزانية الشركات العشر الكبرى في العالم مثل: ميتا وغوغل وأمازون وسبيس إكس.. إلخ؟

أي سلطة حتى لدولة أوروبية خارج حدودها مثل التي تتمتع بها هذه الشركات، وهي تتحكم في العقول وفي القلوب، وتستطيع أن تضع في الحكم من تشاء وتمنعه عمن تشاء في أغلب مناطق العالم؟

يجب أن نتذكّر أن الفكرة ليست بالطرافة التي قد نتصور، فشركة الهند الشرقية البريطانية (British East India Company) التي أُنشئت سنة 1600 ولم تختفِ إلا سنة 1858 كانت تملك جيوشًا وتتحكم في التجارة العالمية، وكانت رأس حربة الاستعمار البريطاني في العالم.

هل سيعيد التاريخ نفسه ونشهد يومًا جيوشًا لشركات ميتا وغوغل للتحكم في إمبراطوريات لم تعد مرتبطة بحدود جغرافية أصبحت من مخلفات ماضي ما قبل الثورة المعلوماتية؟

التحول الجذري الثاني هو الذي تشهده النظرية الليبرالية بما هي أيديولوجيا الحرية كقيمة القيم

فمنذ ولادتها في بريطانيا في القرن الثامن عشر وانتشارها في العالم، كانت الركيزة الأساسية أنه لا تناقض، بل كل التكامل ما بين الليبرالية في تعبيرها الاقتصادي أي الرأسمالية، وبين تعبيرها السياسي أي الديمقراطية.

إعلان

هذا التكامل بين غصنين نبتا من نفس الجذع هو الذي أصبح مشكوكًا فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي، عندما تحرَّرت الليبرالية الاقتصادية من كل الضوابط لتعطينا رأسمالية متوحشة، آخرُ همّها مصالح الشعوب ومصلحة الطبيعة.

لذلك كتبت في التسعينيات؛ أنه إذا كانت الشيوعية هي ألد أعداء الديمقراطية في القرن العشرين، فإن ألد أعدائها في القرن الواحد والعشرين ستكون الرأسمالية المتوحشة.

هذا الصراع الذي كان آنذاك جنينيًا، هو الآن واضح وضوح الشمس في النهار.

ألا يقول كورتيس يارفين إن الديمقراطية هي المشكل وليس الحل؟ كيف لا تكون المشكل وهي التي تنتج حركات الاحتجاج ضد تدمير القطب الشمالي بحفريات البحث عن البترول والغاز، أو مواصلة تسميم الهواء والتسريع بكارثة التحول المناخي؟ كيف لا تكون المشكل وهي التي تحث شعب المواطنين في أميركا وأوروبا على التصدي لهيمنة الشركات الكبرى على الفضاء الافتراضي بلا حسيب أو رقيب؟

من الطبيعي أن تكره الأيديولوجيا الجديدة الدولة الديمقراطية، وهي التي تضع الحد الأدنى من القوانين الحامية لحقوق الطبيعة والعمال، أو للحفاظ على خصوصية الأشخاص وما تبقى لهم من حرية. إنها حجر العثرة الوحيد المتبقي أمام زحف الرأسمالية المتوحشة.

ما نشهده اليوم عبر الأيديولوجيا المتسيدة في أميركا، هو تحوّل الليبرالية الكلاسيكية إلى ليبرالية استبدادية، يتقدم فيها رجال الأعمال لإدارة شؤون العالم بدل سياسيين عالقين في منظومة ليبرالية ديمقراطية أصبحت عبئًا على الرأسمالية.

إنه الطلاق بالثلاث بين المكونين الأساسيين لليبرالية الغربية القديمة، وتمازج مكونها الاقتصادي مع العنصرية الفجة والنخبوية المتطرفة. أي أن ما نشهده اليوم في أميركا هو ولادة أيديولوجيا مستحدثة نتيجة التحولين، ويجوز تسميتها بـ"الليبرالية الفاشية".

إعلان

ما تبعات ولادة هذه الأيديولوجيا المخيفة علينا نحن العرب؟

كلنا ندرك الترابط بين وحشية الآلة العسكرية الصهيونية والدعم الذي تتلقَّاه من الإدارة الأميركية الحالية. لكن ما لا ننتبه له أن الصهيونية، كما يجسدها اليوم نتنياهو، ليست إلا الصيغة الإسرائيلية للأيديولوجيا الشريرة.

هي تتغذى من نفس الأفكار العنصرية الفجّة. هي أيضًا تسعى لتطويع القضاء. هي أيضًا أدارت ظهرها للقيم الإنسانية التي حاولت النخب التقدمية طوال القرن العشرين تشريعها لبناء عالم تجمعه أفكار وقيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بكل بنوده، وأساسًا البنود: 19، 20، 21 التي تضمن الحق في الديمقراطية. هي أيضًا لا تؤمن إلا بشرعية القوة وتسخر من قوة الشرعية. هي أيضًا لم تعد تعترف بحدود الدول وتريد الضم والتوسع، (كندا وغرينلاند "الجزيرة الدانماركية"، ناهيك عن إعادة احتلال قناة بنما). ماذا عن الديمقراطية؟

هل يمكننا، نحن الذين أتينا للمشروع الديمقراطي وهو في أخطر الأوضاع، أن ننشد مع المتنبي:
أتى الزمانَ بنوه في شبيبته      فسرّهم وأتيناه على الهرم
أليس المستقبل للنظام الذي يقوم على الاستبداد السياسي والحرية المطلقة لرأس المال، أكان رأس المال الخاص أو رأس مال الدولة الاستبدادية؟
أليس المستقبل لعودة الاستعمار القديم، وفلسطين بداية المشروع؟ والسؤال: من سيكون المستعمر الآخر بخلاف إسرائيل؟

الأهم من كل هذا، ماذا أعددنا لمثل هذا العالم المجنون الذي يتشكل تحت أعيننا، ونحن فيه أكثر من أي وقت مضى كالأيتام على مأدبة اللئام؟
إذا أتتك كل هذه الأفكار السوداء، تذكّر أن مثل هذا النظام لن يتحرك في فراغ يدمر ويبني كما يشاء.

هو سيرتطم بمقاومة جبارة بدأت ملامحها تتشكل في أميركا منذ تسلم الإدارة الجديدة، وستتصاعد ما ستتصاعد في كل مكان.

إن قدر كل نظام سياسي الارتطام بنقيضه الذي لا يوجد بدونه، وأن يكون الصراع بينهما أزليًا، وذلك لسبب بسيط: كل نظام سياسي، أكان ديمقراطيًا أو استبداديًا، لا يعكس إلا جزءًا من الأبعاد الثلاثة للطبيعة البشرية التي سميتها: الإنسان المفترس، والإنسان الفريسة، والإنسان الفارس.
مما يعني أن كل انتصار للإنسان المفترس على الإنسان الفارس، أو للإنسان الفارس على الإنسان المفترس في صراعهما على استعباد أو تحرير الإنسان الفريسة، هو دومًا انتصار مؤقت.
لذلك محكوم على السياسة أن تتواصل صراعًا مريرًا إلى آخر يوم من تاريخ الإنسانية.
بدون وهْم، لكن بدون إحباط، علينا فقط أن نستعد لأصعب وأشرس المعارك لنقوم بدورنا كسدّ للهمجية الجديدة، وكقوى تعيد البناء على الخراب ألف مرة ومرة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فی أمیرکا فی العالم هی أیض ا هی التی

إقرأ أيضاً:

معركة قادمة علي الأبواب مع الذكاء الاصطناعي

ما تشهدُه الحركة العلميّة والمعرفية ببعدها التقني التكنولوجي من تحوّلات كبرى ومهولة في وسائل ووسائط التعليم والوظائف والأدوات، يجعل مسألة الحديث عن الثقافة والمثقف ببعده المعرفي، حديثًا ذا شجون ومثيرًا للنقاش وجالبًا للأسئلة، لما باتت تمثّله التقنية من تحدٍّ كبير للبعد المعرفي، في شخصية المثقف، باعتباره – أي المثقف- رجل المعرفة الأوحد هنا، وباعتبار العمليّة المعرفية عملية ثقافية أيضًا.

ولكن قبل هذا مَن هو المثقّف أصلًا، وأين موقعه في زمن الذكاء الاصطناعي؟

صحيح أنَّ مثل هذا الطرح حول تعريف المثقف وأنماطه هو طرح جدلي دائم، لكني أزعم أنَّ ثمة تجاوزًا كبيرًا لهذه النقطة من الحديث بهذا الخصوص حول المثقف وتعريفاته المختلفة، وأن المقاربة الأهم اليوم لمفهوم المثقف لم تعد تلك المقاربة التقليدية للمثقف القارئ للكتب والحاوي لصنوف المعرفة؛ لأنّ مثل هذه الوظيفة اليوم لم تعد حكرًا على صاحبنا المثقّف في زمن الفضاء الإلكتروني المفتوح، والذي أصبحت فيه المعرفة متاحة، وفي متناول الجميع، ولم يعد المثقف ناقل المعرفة وحاملها الوحيد، وإنما المثقف، اليوم، هو موقف نقدي من كل ما يمسّ الإنسان والمجتمعات وحقوقها وكرامتها وحرياتها.

إعلان

وإذا كانت هذه المقاربة هي اليوم الأكثر حضورًا، أو المفترض أن تكون كذلك، وحاضرة في فهم طبيعة ووظيفة المثقّف الحقيقي، وهو الموقف النقدي، فإننا نكون بذلك قد فصلنا بين الجزء الآلي الأدائي، وبين ما يفترض أن تشكّله المعرفة في شخصية المثقف من بُعد روحيّ وأخلاقيّ ورساليّ يتجاوز فكرة العقل الحاسوبي الوظيفي الذي أصبحت تؤدّيه اليوم التقنية باقتدار، ولم يعد حكرًا على العقل البشري فحسب.

ففي الزمن الرقْمي لم يعد لفكرة المثقف التقليدي أي معنى؛ لأنه لا يمكنه أن يتماشى أو يداني أو ينافس برامج الذكاء الاصطناعي اليوم بأنواعها، وما باتت تقدّمه من خدمة معلوماتية سريعة وبجودة عالية، وكأنها صادرة عن عقل بشري مجرد، مع فارق الدقة والسرعة في تقديم هذه المعلومة، حيث أصبح اليوم الذكاء الاصطناعي يهيمن على سوق المعلومة وبطريقة مدهشة، ما يجعل اليوم فكرة الذكاء الاصطناعي تحتلّ تدريجيًا، ويومًا بعد آخر، مجالات العقل البشريّ الذي ابتكر فكرة الذكاء الاصطناعيّ ذاتها.

لذلك، فاليوم، الحديث عن فكرة المثقّف، وخاصة نمط المثقف الوظيفي تحديدًا، فإنه على وشْك فقدان وظيفته، وهي تلك الوظيفة التي يقوم بها مقابل ما لديه من معارف وعلوم تطبيقيّة أو حتّى إنسانيّة، وهي وظيفة ما يُسمّى بالتكنوقراط، وهو الشخص الذي يسخّر ما لديه من معارف وقدرات لأداء وظيفة معينة يتمكن من خلالها من القيام بما يُراد منه القيام به، لما لديه من المعارف والمعلومات والمهارات والخبرات أيضًا .

فهذا النوع من المثقّفين اليوم باتوا أكثر عرضة للاستغناء عن وظائفهم وأدوارهم في هذه الحياة، في ظلّ ثورة الذكاء الاصطناعيّ التي باتت اليوم تقتحم كلّ المجالات، وتتدخل في كل التخصصات، وهي بالمناسبة ثورة ربما سيكون لها وجه إيجابي كبير، حيث ستعيد الاعتبار كثيرًا لمفهوم المثقف العضوي الغرامشي، ذلك المثقف الذي يعني الموقف النقدي والرساليّ وضمير أمّته، بحسب التعريف البيغوفيتشي (نسبة للمفكّر البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش)، وهو ما يفترض أن يقوم به المثقف في مجتمعه وأمّته، جامعًا بين المعرفة والقيم.

إعلان

أمّا المثقف الوظيفي، فأعتقد أنه سيقع في مأزِق توافر البديل الأكثر سرعة ودقة، ومما لا شكّ فيه أنه سيسلب المثقف الوظيفي أهم خصائصه، وهو توفير المعلومة، ودقتها وسرعة جلبها، على عكس روتينية المثقف الوظيفي، التي تتسم بالبطء الشديد والرتابة أيضًا.

ولهذا، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي اليوم سيشكل تهديدًا كبيرًا لقطاع عريض من الوظائف، وخاصة تلك التي تعتمد على ما يمكن تسميتُه بالمثقف الوظيفي، كالإداريين والأطباء والمهندسين والصحفيين والمترجمين والمحرّرين والمراجعين، وغيرهم الكثير.

بالعودة إلى موضوع الذكاء الاصطناعي والمثقف الوظيفي، فلا شك أنّ المثقف الوظيفي سيفقد دوره تدريجيًا لصالح الذكاء الاصطناعي، وهو ما سينعكس مرحليًا لصالح إعادة الاعتبار لمفهوم ودور المثقف الحقيقي، الذي يفترض أنه سيستفيد من هذا التحوّل لصالح دوره ومكانته كناقد يجمع بين ميزتَين؛ وهما الثقافة التقنية والموقف النقدي معًا، وهو ما لا يتوفر لدى الطرفين: الذكاء الاصطناعي، والمثقف الوظيفي.

ثمة الكثير والكثير من الفوارق والمفارقات، التي يجب أن تسجل في مقام الحديث عن العلاقة الجدلية الناشئة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف، بمعنى أنّ الذكاء الاصطناعي أداة عبقرية، لكنه بلا جسد، بلا ذاكرة حقيقية، وبلا رغبة في الحرية، بعكس المثقف الذي يظلّ ذلك الكائن الهشّ الذي يطرح الأسئلة المحرجة، يعانق التناقضات، ويصرّ على أن الحياة أكثر من مجرد معادلة خوارزميّة رياضية حاسوبية، ليظل المثقف حاضرًا كضمير وقيمة أخلاقية يتجلّى فيها سرّ الإنسان.

فالذكاء الاصطناعي قد يعرف عنّا كل شيء، لكنه لا يعرف لماذا نضحك أو نبكي أو نحزن أو نُسرّ أو نُساء؛ أي أن الذكاء دون ضمير هو العبث بعينه، وهذا ربما ما قد يندرج ضمن ما كان يحذّر منه ألبير كامو في رفضه فكرة التكنولوجيا التي تسحق الإنسان.

إعلان

في نفس هذا السياق، ربما تأتي فكرة يورغان هابرماس في تحذيره من أن الذكاء الاصطناعي، أو ما يسميها بخوارزميات المنصات التي تشكل خطرًا على الديمقراطية، وعلى الفعل التواصلي البشري؛ لأن الذكاء الاصطناعي يفتقر لما يسمّيه هابرماس بالعقلانية التواصلية، أي عدم فهم السياق الأخلاقي من قبل الذكاء الاصطناعي، وبالتالي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزّز كفاءة الأنظمة، لكنه لا يستطيع أن يحلّ محلّ الفعل التواصلي بين البشر، وهذا برأي هابرماس يشكل خطرًا على البشرية بأن تصبح القرارات المصيرية حكرًا على خوارزميات لا تخضع للمساءلة.

لهذا كله يرى هابرماس أنّ المثقف ليس خَصمًا للذكاء الاصطناعي، لكنه حارسٌ ضد اختزال العالم الإنساني إلى معادلات تقنية، وإذا تخلّى المثقفون عن هذا الدور، فسيصبح المستقبل مُدارًا بـ"عقلانية صماء" تفتقر إلى المعنى والأخلاق.

وهنا تكمن أهمية وضع حدود واضحة بين العقل البشري والعقل الحاسوبي الخوارزمي لذكاء الآلة الصماء، أو ما بات يسمّى بالذكاء الاصطناعي. وهو ربما الاختبار الصعب الذي سقط فيه حتى هابرماس نفسه فيما يتعلق بموقفه من أحداث غزة منذ بدايتها وصمته الطويل عمّا يجري هناك.

وختامًا؛ فإن أخطر ما يمكن أن يشكله الذكاء الاصطناعي على المثقف، هو أنه قد يقوده إلى حالة من الضمور النقدي، ويخلق حالة من الكسل الذهني.

وهو ما يطرح فكرة أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف يجب ألا تقوم على فكرة الاستبدال؛ لأن مجال الذكاء الاصطناعي سيبقى في حدود حفظ المعلومة لا فهمها، وطرح الأسئلة الصعبة حولها، كما يفعل المثقف.

وبالتالي يمكن أن تكون ثمة علاقة تحالف بينهما، لأنه لا يمكن للعقل الاصطناعي أن يحلّ محلّ البصيرة الإنسانية المتجلّية بالموقف الأخلاقي والقدرة على طرح الأسئلة الصعبة والمعقّدة، وامتلاك القدرة على قول "لا"، فضلًا عن رفض فكرة تشيئة الإنسان واختزاله كمجرد رقْم في معادلة خوارزميّة رياضيّة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • بعد إعلان ترامب عن قبته الذهبية.. كيف تحرس دول العالم أجواءها؟
  • بعد إعلان ترامب عن قبته الذهبية.. كيف تحرس دول العالم سماءها؟
  • تحذير عاجل من البريد المصري: احذروا الاحتيال الإلكتروني الجديد
  • «قدمت فنًا وسأفتقدك كثيرًا».. رسالة مؤثرة من «فينيسيوس» لـ «مودريتش» بعد إعلان رحيله عن ريال مدريد
  • رونالدو يودع مودريتش برسالة مؤثرة بعد إعلان رحيله عن ريال مدريد
  • برعاية نائب أمير منطقة الرياض| انطلاق مهرجان بطولة العالم لخيل الجزيرة
  • رقم قياسي.. الأبواب المفتوحة للأمن الوطني تستقطب 2.4 مليون زائر
  • العالم يدير ظهره لإسرائيل.. ومغردون يرصدون تحولا تاريخيا في التعامل الدولي معها
  • معركة قادمة علي الأبواب مع الذكاء الاصطناعي
  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال