«ها هو قد اقترفها هذه المرة، والجميع يرون كيف أنه كارثة». كم مرة سمعنا مثل هذا يقال بحق دونالد ترامب؟ وكم مرة ثبت أنه خطأ؟ ليكن، لعله هذه المرة قد تجاوز الحدود حقا، ففي النهاية قد يؤدي هزله بشأن الرسوم الجمركية، وإطلاقه شرارة حروب تجارية، ثم تراجعه فجأة عن موقفه، إلى ركود عالمي، بل كساد. مؤكد أن أنصاره سوف يتنصلون منه؟ لكنني لا أراهن على ذلك، وإليكم السبب.

لقد شنّ ترامب بالفعل حربًا على كل شيء يحقق الرخاء والرفاهية: أعني الديمقراطية، والنظم البيئية الصحية، والتعليم، والرعاية الصحية، والعلم، والفنون. غير أنه وسط هذه الكارثة، وبرغم بعض التذبذب، تظل نسب تأييده واقعة ما بين 43% و48%، فهي أعلى كثيرا من مثيلاتها لرؤساء آخرين. لماذا؟ أعتقد أن جانبا من الإجابة يكمن في جانب أساسي من طبيعتنا الإنسانية، هو الرغبة في تدمير ما نشعر أننا مستبعدون منه.

وهذه الرغبة في ظني أساسية في فهم السياسة، وإن لم يبد أن أحدًا يدركها. فلا يكاد أحد يراها حقا، إلا اليمين المتطرف الذي يراها في تمام الوضوح.

في أجزاء كثيرة من العالم، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ارتفع التفاوت ارتفاعا حادا منذ سبعينيات القرن الماضي. (والمملكة المتحدة ماضية في هذا المسار). إذ أصبح مليارديرات العالم أكثر ثراء بتريليوني دولار العام الماضي، بينما لم يتغير تقريبًا عدد من يعيشون تحت خط الفقر العالمي منذ عام 1990.

وثمة دليل قوي على ارتباط عرضي بين تنامي التفاوت وارتفاع حركات الاستبداد الشعبوي. فقد تبيّن لورقة بحثية في جريدة السياسة العامة الأوروبية أن ارتفاعًا بمقدار وحدة واحدة في معامل جيني (وهو المقياس المعياري للتفاوت) يزيد من دعم الديماجوجيين بنسبة 1%.

فما السبب في هذا؟ ثمة تفسيرات عديدة ومتصلة: مشاعر التهميش، وقلق المكانة الاجتماعية، والتهديد الاجتماعي، وانعدام الأمن الذي يثير رد فعل استبدادي، وفقدان الثقة في الفئات الاجتماعية الأخرى. وأشعر أن جذر بعض هذه التفسيرات يكمن عميقا في الذات الإنسانية وهو هذا: إذا لم يتيسر لك العدل، فعليك بالشر.

في الولايات المتحدة، يجري إقصاء نسبة مرتفعة من الشعب من كثير من الفوائد التي سردتها. فقد يؤدي العلم إلى تحقيق فتوح، لكنها فتوح ليست على الأرجح لمن لا يستطيعون دفع التأمين الصحي. والتعليم الجامعي قد يفتح الأبواب المغلقة، ولكنه لا يفتحها إلا للقادرين على عشرات أو مئات آلاف الدولارات من الديون. والمسرح والموسيقى يزيدان حياتنا جمالا، ولكنه لا يفعل ذلك إلا لمن يستطيعون شراء التذاكر.

وكذلك الحدائق الوطنية، ولكن لمن يملكون القدرة على زيارتها.

والديمقراطية حسبما يقال لنا تعطي صوتا في السياسة. لكنها لا تفعل ذلك فيما يبدو إلا لمن يملك التبرع لحزب سياسي ببضعة ملايين. ومثلما قال أستاذ العلوم السياسية مارتين جيلنز في كتابه: «الثراء والنفوذ» فإنه «في معظم الظروف، لا يبدو أن لتفضيلات الغالبية الكاسحة من الأمريكيين أثرًا جوهريًا على السياسات التي تتبناها الحكومة أو لا تتبناها».

لقد كان نمو إجمالي الناتج الوطني قويًا في ظل حكم جو بايدن، ولكن مثلما يوضح أستاذ الاقتصاد جاسون فيرمان: «في الفترة من 2019 إلى 2023 انخفض دخل الأسرة المعدل حسب التضخم، وارتفع معدل الفقر». فلم يعد هناك رابط بين إجمالي الناتج الوطني والتحسن الاجتماعي.

كل هذه أمور طيبة؟ معذرة، لكنها ليست كذلك بالنسبة لك. ولو أنك تشعر بالرغبة في تدميرها جميعا، وإحراق النظام الفاسد والمنافق والإقصائي بأكمله، فترامب هو الشخص المناسب لك.

أو ذلك ما يزعمه. فالواقع أن أداءه بأكمله ليس إلا تشتيتًا للانتباه عن تفاقم التفاوت وتسريعه في الوقت نفسه. ولا يكاد يبدو أنه يمكن أن يخسر: فكلما فاقم التفاوت، زاد من شعور الانتقام من كباش الفداء: أي المهاجرين، والمتحولين جنسيًا، والعلماء، والمعلمين، والصين.

ولكن هؤلاء المهرجين القتلة لا يستطيعون تحقيق ذلك بمفردهم. وجنودهم الأكثر فعالية في ذلك يتمثلون في أحزاب الوسط المشلولة في مواجهة القوة الاقتصادية. فبسبب الخضوع للممولين الأثرياء، والرعب من وسائل الإعلام فاحشة الثراء، عجزت هذه الأحزاب على مدار عقود عن تحديد المشكلة، ناهيكم بمعالجتها. ومن هنا تأتي العبثية الصارخة في رد فعل الديمقراطيين على ترامب، فكما يلاحظ الصحفي الأمريكي هاملتون نولان فإن «أحد الحزبين خرج للقتل، وبقي الحزب الآخر ينتظر موت زعمائه».

وحزب العمال في المملكة المتحدة، شأن الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، طالما أكد أن مدى اتساع الفوارق الاقتصادية لا يهم، ما دام مستوى الفقراء يرتفع.

ثم إنه الآن تخلى حتى عن هذا التحذير، فبات بوسعنا تخفيض الإعانات، ما دام إجمالي الناتج الوطني ينمو. لكن الأمر مهم. ومهم للغاية. ويتبين من طائفة واسعة من الأدلة المجموعة في عام 2009 والمحدَّثة في عام 2024 في كتاب «المستوى الروحي» لريتشارد ويلكنسون وكيت بيكيت، أن للتفاوت تأثيرًا هائلًا على النتاجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والسياسية، بغض النظر عن مواقف الأفراد المطلقة.

ولو أن هناك ما يسمى بالـ(ستارمرية)، فإنها تنهار أمام ورقة بحثية نشرها أستاذا العلوم السياسية ليوناردو باتشيني وتوماس ساتلر العام الماضي، وخلصت إلى أن التقشف يزيد من دعم اليمين المتطرف في المناطق المعرضة اقتصاديا للخطر.

كما خلصت الورقة إلى أن التقشف هو العامل الرئيسي، وبدونه، لا يرجّح أن يصوِّت الأقل تعليمًا للديماجوجيين اليمينيين أكثر مما يصوّت لهم ذوو التعليم العالي. بعبارة أخرى، يسلِّم كير ستارمر وراشيل ريفز دوائرهما الانتخابية الأساسية لنايجل فاراج.

وهم بالطبع ينكرون فرضهم التقشف، مستخدمين تعريفا تقنيا للتقشف لا يعني شيئًا لذوي الموقف الحرج.

فالتقشف هو ما يعانيه الفقراء، بينما يضطرون لمشاهدة الأغنياء والطبقة المتوسطة العليا، في ظل حكومة حزب العمال، وهم ينعمون بوفرة متزايدة.

يرى ستارمر وأتباعه أنه لا يمكنهم فعل شيء: فالضرائب المفروضة على الأثرياء بلغت أقصاها بالفعل. ولكن بينما تحلّق الطائرات الخاصة والمروحيات في السماء، يمكن لأي شخص أن يرى أن هذا هراء. ومن بين كل ما لفت نظري وأنا أبحث من أجل كتابة هذه المقالة، ربما يكون ما يلي هو الأكثر إدهاشًا. بناء على أحدث الأرقام (من عام 2022)، بمجرد دفع الإعانات، لا يختلف معامل جيني للدخل الإجمالي في المملكة المتحدة تقريبًا عن معامل جيني للدخل بعد الضريبة. أي أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء متساوية تقريبا بعد فرض الضرائب، بما يشير إلى أن الضرائب ليس لها تأثير كبير على توزيع الدخل.

فكيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا، والأغنياء يدفعون معدلات أعلى من ضريبة الدخل؟ ذلك لأن الفقراء يقدمون نسبة أعلى بكثير من دخلهم في ضرائب المبيعات، مثل ضريبة القيمة المضافة. وهذا كل ما في الأمر، وما من خيارات أخرى. وهذا غاية واقعية حزب العمال.

وهكذا، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقف صعود اليمين المتطرف هو الشيء الوحيد الذي ليست الأحزاب السائدة حاليا مستعدة لتحقيقه: أي تحقيق مزيد من المساواة. يجب فرض ضرائب أكبر على الأغنياء، ويجب أن يستعمل هذا العائد الضريبي في تحسين حياة الفقراء. ومهما حاولت الأحزاب الوسطية تجنُّب هذه القضية، فما من سبيل آخر.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الإمارات تؤكد رفع مستوى استجابتها الإنسانية في غزة

نيويورك (الاتحاد)

رحبت الإمارات بتنفيذ وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن والمعتقلين وعودتهم إلى ديارهم، مؤكدة، خلال المناقشة المفتوحة لمجلس الأمن بشأن الوضع في الشرق الأوسط، رفع مستوى استجابتها الإنسانية في غزة، من خلال إرسال سفينتين إماراتيتين محملتين بالإمدادات العاجلة، من المقرر وصولهما الأسبوع المقبل. 
كما شددت دولة الإمارات على رفضها الشديد لدعوات ضم الضفة الغربية، والتي تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، مشيرة إلى المسؤولية الجماعية الواقعة على عاتق المجتمع الدولي للمساعدة في إنهاء دوامة العنف ودعم تحقيق حل الدولتين.
وأوضحت في بيان، ألقاه السفير محمد أبو شهاب، المندوب الدائم للدولة لدى الأمم المتحدة، أنه على مدى العامين الماضيين، شهدنا معاناة ودماراً لا يوصفان في قطاع غزة، لكن الدبلوماسية فتحت الآن أخيراً الباب أمام إمكانية إحلال السلام.

أخبار ذات صلة «الموارد البشرية» تناقش توحيد تاريخ الإقامة وعقد العمل «الشؤون الإسلامية» تدعو الحجاج إلى الالتزام بالاشتراطات الصحية لموسم الحج 1447هـ/ 2026م

وقال أبوشهاب: «ترحب دولة الإمارات بقوة بمخرجات قمة شرم الشيخ للسلام، وباتفاق وقف إطلاق النار، وبالإفراج عن الرهائن والمحتجزين وإعادتهم، أحياءً كانوا أم متوفين، إلى عائلاتهم».
وأشاد بقيادة الرئيس ترامب، مثمناً الجهود الحثيثة التي بذلتها الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا في تيسير الترتيبات التي أفضت إلى هذا الاتفاق التاريخي.
وأضاف أنها شهادة قوية على ما يمكن تحقيقه عندما يتوحد المجتمع الدولي لكسر دائرة العنف ورسم مسار نحو السلام في المنطقة، مشدداً على أنه يتعين على المجتمع الدولي الآن أن يواصل الضغط على إسرائيل و«حماس» للوفاء بالتزاماتهما بموجب الاتفاق.
وتابع: إن مصادقة مجلس الأمن على خطة السلام هذه أمر بالغ الأهمية، فلنا جميعاً مسؤولية جماعية في إنهاء هذه الحرب والمساعدة على تحقيق تسوية عادلة ودائمة.
ونوّه أبوشهاب إلى أن الوضع الإنساني في غزة كان كارثياً بكل المقاييس، لكننا نشهد الآن مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، تدفقاً متزايداً للمساعدات إلى القطاع، مضيفاً: نحن بحاجة عاجلة إلى تكثيف المساعدات الإنسانية على نطاق واسع لتصل إلى جميع المحتاجين.
وذكر أن دولة الإمارات ستواصل تسخير مواردها وخبراتها لإيصال المساعدات للشعب الفلسطيني، ولا سيما النساء والأطفال، مع دعم الشركاء الدوليين في عملهم الحيوي.
وفي إطار جهود دولة الإمارات لتوسيع نطاق الاستجابة الإنسانية في غزة، قال أبوشهاب إن من المقرر أن تصل الأسبوع المقبل سفينتان إماراتيتان محملتان بإمدادات عاجلة، إحداهما بالتعاون مع منظمة «المطبخ المركزي العالمي» World Central Kitchen، وهي من أبرز المنظمات التي تقدم شريان حياة أساسياً لسكان غزة.
وأضاف: يجب ألا يُعاق دخول المساعدات الإنسانية وتوزيعها، كما أكدت على ذلك الفتوى الاستشارية الصادرة أمس عن محكمة العدل الدولية. وقال: نناشد إسرائيل وحماس الالتزام بالتزاماتهما بموجب القانون الدولي.
وحذر أبوشهاب من أن الوضع في الضفة الغربية يتدهور بسرعة في ظل ما يحدث في غزة، فالمستوطنون الإسرائيليون المتطرفون يواصلون إرهاب المجتمعات الفلسطينية بمستويات غير مسبوقة، فيما يستمر التوسع الاستيطاني غير القانوني على نحو سافر، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
وأضاف: في الوقت ذاته، لا يزال بعض الوزراء الإسرائيليين يدعون إلى ضم الأراضي الفلسطينية. وذكر أن دولة الإمارات تدين بشدة موافقة الكنيست الإسرائيلي، في قراءة أولية، على مشروعَي قانون يرميان إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة وتقنين السيطرة على مستوطنة.
وشدد على أن هذا الإجراء يمثل تصعيداً خطيراً ويقوض الجهود الرامية إلى تحقيق حل الدولتين.
وأكد على أن وقف إطلاق النار القائم يمنحنا فرصة تاريخية لتجاوز عقود من إدارة هذا الصراع فقط، والتوجه أخيراً نحو حله.
واختتم أبوشهاب كلمته أمام مجلس الأمن الدولي قائلاً: «من واجبنا جميعاً أن نحوّل الزخم الذي ولّدته خطة السلام إلى تسوية سياسية تضمن السلام والاستقرار والأمن، الذي يحتاجه الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء حاجةً ماسة».

مقالات مشابهة

  • مؤسسة غزة الإنسانية متشبثة بلعب دور جديد في القطاع المدمر
  • استئناف دخول المساعدات الإنسانية من معبر كرم أبو سالم لقطاع غزة
  • منتدى الإعلاميين الفلسطينيين: العدو الإسرائيلي يمنع دخول الصحفيين الأجانب لغزة لأنهم سينقلون الحقيقة
  • علي جمعة يوضح الحقيقة حول «التوسل»: عبادة مشروعة لا علاقة لها بالشرك
  • بعد فيديو تجاهل هشام ماجد.. أحمد فهمي يخرج عن صمته ويكشف الحقيقة | فيديوجراف
  • الشهيد / الفريق / الحبيب / هاشم الغماري سيظل قنديلا متوهجا في مسيرتنا الجهادية الكفاحية اليمنية
  • الإمارات تؤكد رفع مستوى استجابتها الإنسانية في غزة
  • دور التوثيق وكشف الحقيقة في الوقاية من تجدد الصراع
  • السودان.. 30 مليون شخص بحاجة عاجلة للمساعدات الإنسانية
  • واشنطن تدرس خطة مساعدات لغزة قد تحل محل مؤسسة غزة الإنسانية