قدّم لي صديقي الأخ الكريم، البروفيسور إبراهيم باني، دعوة كريمة لحضور مأدبة عشاء جمعتني مع مجموعة من زملائي الأطباء خريجي جامعة الخرطوم. شاركنا اللقاء أيضًا عدد من خريجي مدرسة خورطقت الثانوية، وكان لقاءً مميزًا حضره كبار المسؤولين من وزراء اتحاديين وإقليميين، بالإضافة إلى رجال أعمال وأطباء ومهندسين، وبعض من عمل في منظمات الأمم المتحدة.


استعرض الحاضرون ذكرياتهم الجميلة، متحدثين عن أساتذتهم الأجلاء وليالي السمر التي أحيتها فرقة الفنون الشعبية المتنوعة في المدرسة. كانت هذه الفرقة تجوب السودان وخارجه، معبّرة عن ثقافة السودان الغنية والمتعددة. لم تكن تفرّق بين الناس، بل قدمت السودان لوحة واحدة نابضة بالحياة. أدركت من خلال حديثهم كيف ساهم هذا التلاقي القديم في ترسيخ الشعور بالوطنية وتعزيز النشاط الوطني الذي دعم حركة الاستقلال السوداني. كان مشهدًا جميلاً يستحق التأمل والاحتفاء، بل والاستفادة منه لبناء مستقبل أفضل عبر إعادة إحياء المبادرات الثقافية التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم.
أثار اللقاء انتباهي بروح المحبة العميقة والألفة الصادقة التي سادت بين الحاضرين، رغم أن الكثيرين منهم لم يلتقوا منذ أكثر من ثلاثين أو أربعين عامًا. سألت نفسي عن سر هذا الود، فجاءني الجواب من سعادة السفير الفاتح عبد الله يوسف الذي قال: لقد نشأوا جميعًا في مدارس داخلية جمعتهم من مختلف أنحاء السودان، حيث سادت بينهم بيئة يسودها التعاون والتآخي بعيدًا عن العصبية الجهوية أو القبلية.
زادني هذا اللقاء قناعة بأننا بحاجة ماسّة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى استعادة هذه الروح لبناء سودان موحد يقوم على قيم المحبة والانتماء الوطني. ومن هنا تبرز ضرورة إعادة النظر في سياساتنا التعليمية، بحيث تقوم على التنوع والشمول والانفتاح، وليس على الانغلاق المحلي الضيق. ينبغي أن نجعل التعليم منصة لترسيخ الوحدة الوطنية وصناعة مستقبل أكثر إشراقًا.
التنوع الثقافي يمكن أن يكون مصدر قوة للدولة حين تتم إدارته بطريقة عادلة تضمن الاحترام المتبادل والمساواة بين مختلف المجموعات، وعندما يُستخدم لتعزيز الإبداع والتجديد، حيث يؤدي تنوع الخلفيات إلى تعدد الأفكار والحلول. ويكون جسرًا للتواصل مع العالم مما يساعد على بناء علاقات خارجية قوية مع دول وثقافات متعددة، وعندما يشعر جميع المواطنين بأنهم متساوون دون تمييز ثقافي أو عرقي، مما يعزز الانتماء الوطني والاستقرار الداخلي.
أما حين يُستغل التنوع لإثارة الفتن والصراعات الطائفية أو العرقية، أو حين تفشل الدولة في تحقيق العدالة والمساواة بين مكوناتها المختلفة، أو تغيب السياسات التي تنظم التنوع وتحوله إلى مصدر إثراء لا صراع، فإن التنوع يتحول إلى نقطة ضعف خطيرة. كذلك عندما تكون الهوية الوطنية ضعيفة أو مشوشة، تقدم بعض الفئات انتماءاتها الضيقة على الولاء للوطن.
للتنوع الثقافي مظاهر إيجابية كثيرة. فهو يعزز الإبداع والتجديد حيث يؤدي تنوع الثقافات إلى تنوع الأفكار والأساليب ويغني الفنون والآداب والعلوم. كما يعزز التسامح والانفتاح لأن العيش مع ثقافات مختلفة يربي على قبول الآخر واحترامه. ويساهم في تقوية الهوية الوطنية الجامعة عندما يشعر الجميع أنهم جزء من نسيج واحد. ومن مظاهره الغنية أيضًا الثراء الاجتماعي عبر تبادل العادات والتقاليد والمأكولات والفنون. التنوع الثقافي يشكل كذلك قوة اقتصادية وسياحية، لأنه يجذب السياح والمستثمرين ويقوي العلاقات مع الدول الأخرى، ويسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا عندما يُدار بشكل عادل ومنفتح.
هناك دول كثيرة استفادت من تنوعها الثقافي بشكل رائع. فالولايات المتحدة، المعروفة بأمة المهاجرين، جعلت من التنوع مصدر قوة في الابتكار والاقتصاد والفن. وكندا تبنت التعددية الثقافية كسياسة رسمية، مما جعل التنوع جزءًا أساسيًا من هويتها الوطنية. وسويسرا استطاعت عبر اللامركزية السياسية أن تحترم تنوع لغاتها الأربع وتصبح واحدة من أكثر الدول استقرارًا وازدهارًا. وسنغافورة، رغم صغر مساحتها، نجحت في إدارة تنوعها الثقافي بين الصينيين والملاويين والهنود بطريقة جعلتها من أهم المراكز الاقتصادية في العالم.
على الجانب الآخر، هناك دول كان يمكن أن يكون تنوعها مصدر قوة، لكنها فشلت في ذلك بسبب سوء الإدارة. فمثلاً يوغوسلافيا السابقة تفككت بعد حروب أهلية دامية بسبب النزاعات العرقية. ورواندا شهدت واحدة من أبشع الإبادات الجماعية نتيجة لصراع الهوتو والتوتسي. والعراق، رغم تنوعه الغني، عانى من الطائفية والاقتتال. ولبنان، رغم ثرائه الطائفي والثقافي، عانى طويلاً من النزاعات بسبب النظام الطائفي العميق.
من أهم أدوات إدارة التنوع الثقافي بنجاح هي السياسات التعليمية الممتازة. التعليم يغرس قيم الاحترام والتسامح منذ الصغر، ويوازن بين الخصوصيات الثقافية المختلفة وبناء ولاء مشترك للوطن. من خلال تعليم تاريخ وإنجازات جميع المكونات، وتطوير مناهج تشجع التفكير النقدي والحوار، يخلق التعليم جيلاً قادرًا على التفاهم الحضاري. كما أن توفير فرص تعليم متساوية لجميع الفئات بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو العرقية يسهم في تقليل الفجوات الاجتماعية. دعم التعدد اللغوي في المدارس يعزز التنوع بدلاً من أن يجعله مصدرًا للتهميش.
التعليم الممتاز لا يقتصر على تلقين المعرفة، بل يصنع عقولاً واسعة الأفق، ويحول التنوع إلى طاقة دافعة نحو الوحدة الوطنية والازدهار.
من المدارس القومية الرائدة التي صنعت هذا الاندماج الوطني، مدرسة خور طقت الثانوية التي تأسست عام 1952م في مدينة الأبيض. سميت المدرسة نسبة إلى خور مائي موسمي يُسمى خور طقت. وقد كانت واحدة من أعرق المدارس الثانوية في السودان، وأسهمت في تخريج نخبة من القادة والمفكرين، وعُرفت بانضباطها ومستواها الأكاديمي الرفيع، وكانت تعتمد نظام السكن الداخلي الذي عزز الألفة بين الطلاب من مختلف أنحاء السودان.
المدارس القومية مثل خورطقت ووادي سيدنا وحنتوب، وكذلك جامعة الخرطوم، كانت معاقل لصناعة الوحدة الوطنية في السودان. استقطبت هذه المؤسسات الطلاب من مختلف الأقاليم، مما أتاح لهم فرصة التفاعل والاندماج، وأسهمت في بناء جيل قادة يؤمنون بوحدة السودان ويتجاوزون الانتماءات الضيقة.
من الأفكار التي طرحت في لقائنا المبارك بإذن الله ضرورة إنشاء مدارس قومية في كل ولاية، تستقطب طلابًا من جميع أنحاء البلاد وتوفر لهم تعليمًا داخليًا. ستسهم هذه المدارس في تعزيز الوحدة الوطنية وبناء مجتمع أكثر تلاحمًا، رغم التحديات التي قد تواجهها، مثل العزلة الثقافية أو تفاوت جودة التعليم، وهي تحديات يمكن معالجتها بالتخطيط الحكيم. وتسعى دفعة خريجي خورطقت التاسعة عشرة بحماس وإصرار إلى إعادة الروح لمدرستهم العريقة وبناء مدرسة جديدة تحمل ذات الاسم المحفور في ذاكرة المواطن السوداني ونهج ذات المنوال الذي نأمل أن يساهم في تقوية الوحدة الوطنية.
ختاماً، التنوع الثقافي ثروة عظيمة، تظهر في الفنون الشعبية والعادات والتقاليد واللغات والحكايات الشعبية. هذا التنوع يعزز الفهم المتبادل، ويحفز الإبداع والابتكار، ويقوي الهوية الوطنية الجامعة. يجب أن يكون التنوع مصدر فخر وقوة، وأن يحتفى به كرمز لثراء الأمة السودانية.

بقلم الدكتور حسن المهدي البشري الغبشاوي

hassanemelbushra@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الوحدة الوطنیة التنوع الثقافی جمیع ا

إقرأ أيضاً:

معهد التخطيط القومي يشارك في مؤتمر أوروبي حول تعزيز دور العلوم في صنع السياسات

شارك معهد التخطيط القومي في فعاليات مؤتمر "بناء الجسور لتشكيل مشهد السياسات الأوروبية المبنية على العلم"، من خلال مركز شمال إفريقيا لتطبيق تحليلات النظم NAASAC، والذي نظمته آلية تقديم المشورة العلمية للمفوضية الأوروبية (SAM)، واستضافته الأكاديمية النمساوية للعلوم في فيينا، بحضور نحو 300 مشارك من الباحثين وصانعي السياسات وممثلي الأكاديميات والمؤسسات العلمية المعنية بعلاقات العلوم بالسياسات.


مثّل المعهد في المؤتمر الأستاذة الدكتورة/ أماني الريس، أستاذ علوم الحاسب بمركز الأساليب التخطيطية ومديرة مشروع مركز شمال إفريقيا لتطبيق تحليلات النظم (NAASAC) وشاركت في جلسة بعنوان "The great policy debate: national interests vs global goals"، حيث أكدت على أن التحديات المعاصرة، مثل تغير المناخ والأوبئة، تتجاوز الحدود الوطنية وتتطلب تنسيقًا عالميًا. وأشارت إلى أهمية تحقيق توازن بين تقديم حلول علمية قابلة للتطبيق عالميًا، والاعتراف بالسياقات الوطنية المختلفة عند صياغة السياسات العامة.


كما شاركت الريس في جلسة أخرى بعنوان "Partnering for progress: Strengthening science and policy through multilateral collaboration for tomorrow"، والتي ناقشت الدور الحيوي للشراكات الدولية في تعزيز البحث العلمي والمشورة العلمية الفاعلة في السياسات. وأشارت المناقشات إلى تنامي التأليف العلمي المشترك دوليًا، وأهمية الشبكات العلمية العالمية في دعم الابتكار والتنوع البحثي.


وخلال الجلسة، تم استعراض عدد من نماذج التعاون الناجحة، من بينها مركز شمال إفريقيا لتطبيق تحليلات النظم (NAASAC) كنموذج متميز للتعاون بين معهد التخطيط القومي، والمعهد الدولي لتحليل النظم التطبيقية (IIASA)، وأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا المصرية (ASRT).

مقالات مشابهة

  • البركل: نفير لإعادة توصيل المياه إلى المنازل من نهر النيل – فيديو
  • وكيل تعليم الجيزة يبحث مع مديري الإدارات التعليمية الاستعداد لانطلاق امتحانات الثانوية العامة
  • خارجية “الوحدة الوطنية” تنفي صلة أي قوة ليبية رسمية بهجمات على الحدود السودانية
  • معهد التخطيط القومي يشارك في مؤتمر أوروبي حول تعزيز دور العلوم في صنع السياسات
  • وزير التربية الوطنية : “الأحرار” أكثر الغشاشين في الباكلوريا
  • برنامج الأغذية العالمي: نحتاج إلى 500 مليون دولار في السودان لتقديم مساعدات طارئة
  • السودان : بدء حملة التطعيم بلقاح الكوليرا و توفير أكثر من 2 مليون جرعة
  • لدي مشاركته في اجتماعات مجلس محافظي الطاقة الذرية، السودان يدعو المجتمع الدولي لدعم جهوده لإعادة الإعمار
  • صوفان: هذه الإجراءات ليست بديلاً عن العدالة الانتقالية والتي بدأت بالفعل، وهذه مهمة اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية التي شكلت بمرسوم رئاسي
  • “المياه الوطنية” توزع أكثر من 45 مليون م3 من المياه خلال موسم حج 1446هـ