لكي تقود العالم..على أوروبا التخلي عن تفكيرها الاستعماري
تاريخ النشر: 30th, April 2025 GMT
ثمة شبكة هائلة من اتفاقات التبادل التجاري والمعونات تربط الاتحاد الأوروبي بأكثر من سبعين بلدا. فبوسع الاتحاد أن يصبح لاعبا عالميا مستقلا مهما، بل إن بوسعه أن يزدهر في عالم متعدد الأقطاب. لكن عليه أولا أن ينبذ رؤى العالم ذات المركزية الأوروبية، وينبذ سياسات التساهل، والمعايير المزدوجة.
ثمة نذر مختلطة. لقد أعلنت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، خططا لإقامة «اتحاد أوروبي جديد» قادر على صياغة فعالة لنظام عالمي مختلف.
يناصر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «الاستقلال الاستراتيجي» لأوروبا، ويقول المستشار الألماني الجديد فريدريتش ميرتز ـ برغم تصلبه في الإيمان بالسياسات الأطلنطية ـ: أوروبا لا بد أن تستعيد استقلالها عن الولايات المتحدة. وفي خضم هذه الفوضى الجيوسياسية، فإن من الأنباء السارة تزايد الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي حيث يرى فيه الكثيرون من الجنوب العالمي لاعبا جيوسياسيا مهما.
لكن بعض البلاد، من قبيل إيطاليا والمجر وبولندا ودول البلطيق الثلاث لا تزال تتوق إلى الحياة في ظل حماية من الولايات المتحدة. فضلا عن أن بروكسل لم تفند بعد ما قاله وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار متذمرا من ذهنية الاتحاد الأوروبي. فقد قال بعد غزو روسيا لأوكرانيا سنة 2022 إن أوروبا تظن أن «مشاكلها هي مشاكل العالم، ولكن مشاكل العالم ليست مشاكل أوروبا».
يشعر كثيرون في جنوب العالم بالغضب الشديد من عدم إدانة الاتحاد الأوروبي ـ على سبيل المثال ـ للإبادة الجماعية في غزة حتى وهو يشيد بالالتزام بحقوق الإنسان في أوكرانيا. ومثلما قال لي الأكاديمي كارلوس لوبس المقيم في جنوب إفريقيا، وهو مؤلف كتاب صدر أخيرا عن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإفريقيا، فإن الاتحاد الأوروبي يتمسك بـ«موقف تفوق استعماري» عميق الجذور «يظهر في نوع من فوقية العطف والإيثار».
غير أن الاتحاد الأوروبي يبقى مرتبطا بقواعد التبادل التجاري العالمي، ولديه اقتصاد يسجل نموا متواضعا، ولديه سوق داخلي موحد يتسم بالجاذبية والحيوية. ولقد حان الوقت لترقية علاقات الاتحاد الأوروبي بالجنوب العالمي، ولكن قواعد الاشتباك القديمة بحاجة إلى تغيير عاجل.
تزعم فون دير لاين أن العالم «يتأهب» للعثور على فرص عمل آمنة مع أوروبا تلتزم بسيادة القانون في الوقت الذي ينثر فيه ترامب بذور الفوضى في الأسواق العالمية. ولكنني بتركز عملي الصحفي طوال أغلب حياتي المهنية على علاقات الاتحاد الأوروبي، يتضح لي أن صناع السياسات في الاتحاد لا بد أن يتوقفوا عن الوعظ ويبدأوا في الإنصات. وإلى جانب حماية التبادل التجاري، فإن لدى الاتحاد الأوروبي فرصة لا تسنح إلا مرة في العمر لإعادة تقييم ما لديه من أوراق اعتماد القوة الناعمة، وإن تكن الآن ملوثة بالعنصرية ورهاب الإسلام ومعاداة السامية والهجمات على حقوق النساء.
بعد سنوات من التفاوض، تبدو اتفاقيات التجارة الحرة المحتملة بين الاتحاد الأوروبي وإندونسيا وماليزيا وتايلند والهند مبشرة. ولكن فقط إذا ما سعى المفاوضون الأوروبيون إلى شخصيات من قبيل الرئيس الإندونيسي السابق جوكو ويدودو وهم يواجهون ما يقال إنه قهر من الاتحاد الأوروبي وافتراض من بروكسل بأن «معاييري أفضل من معاييركم». فلقد أبرم الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال أو هو يسعى إلى إبرام اتفاقيات مواد خام مهمة مع بلاد غنية بالموارد من قبيل رواندا وناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وأوروبا بحاجة إلى حماية تحولها الأخضر والرقمي، لكن هذه الاتفاقيات تنطوي على خطر التحول إلى محض استيلاء استعماري جديد على الموارد: فلا عجب في أن إندونيسيا وبعض البلاد الإفريقية تقاومها.
منذ أن قام ترامب بتفكيك هيئة المعونة الأمريكية، يناضل ناشطون أوروبيون أيضا للحفاظ على تمويل الاتحاد الأوروبي لأضعف بلاد العالم. ولكن ما الأمل الباقي حينما تقوم حكومات الاتحاد الأوروبي ـ ومنها فرنسا وألمانيا ـ بتخفيض ميزانياتها التنموية؟
وفي حين تستمر الجهود للحد من الهجرة إلى قلعة أوروبا بكل تجلياتها القاسية، فإن استراتيجية الاتحاد الأوروبي تثير صراعا عنصريا خطيرا بسبب الاعتماد على طغاة البلاد المجاورة الذين يتلقون أموالا لمنع عبور المهاجرين. تقول لي ياسمين العكرمي خبيرة العلاقات بين أوروبا وشمال إفريقيا إن «الرئيس التونسي اتهم المهاجرين الأفارقة بأنهم جزء من مخطط لتغيير التركيب الديموغرافي لتونس. وحجة الاستبدال الشامل هذه لم تسمع من قبل في شمال إفريقيا».
يمكن أن يبدي الاتحاد الأوروبي أيضا مزيدا من الحزم مع توجيه ترامب ضربات عنيفة لمبادرات التنوع والمساواة والاحتواء. ولكن في حين تسعى حاجة لحبيب، مفوضة المساواة في الاتحاد الأوروبي، إلى تعزيز حقوق المرأة، لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن لإحياء قانون مهم لمكافحة التمييز بعد سحبه فجأة في وقت سابق من هذا العام. كما أن سلطة الاتحاد الأوروبي المعنوية تقوضت بقيام ألمانيا ودول أخرى بقمع المتظاهرين المؤيدين لفلسطين.
من نواحٍ عديدة، يتيح ترامب فرصة لصانعي السياسات الأوروبيين. فلديهم الآن فرصة لمراجعة بعض سياسات الاتحاد الأوروبي الأكثر فظاعة، ولإعادة صياغة الاتحاد بشكل حقيقي بوصفه كيانا ذا مصداقية وفاعلية على الساحة العالمية.
وإنني على ثقة من أن تعزيز انخراط الاتحاد الأوروبي مع دول جنوب العالم كفيل بالإسهام في تحقيق استقرار جيوسياسي في عالمنا المضطرب. كما أنه سوف يوفر بديلا مقنعا لدستوبيا ترامب لكن الأمر يتطلب أكثر من محض خطبة تلقيها فون دير لاين أو بعض التفكير التفاؤلي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی
إقرأ أيضاً:
هل تصبح ثماني دول صغيرة ركيزة أوروبا ؟
الآن إذ تشهد أوروبا دوامات سياسية متقلبة تدفعها رياح الشعبوية تكتسب مجموعة من بلاد الشمال الأوروبي ثقلا؛ إذ تصبح مرساة جيوسياسية. تعرف هذه المجموعة باسم (ثمانية شمال البلطيق)، أو NB8 في المعجم الدبلوماسي، وتضم دولا صغيرة في شمال أوروبا قد لا يكون لكل منها منفردة نفوذ ذو شأن في مجال الأمن والسياسة الدوليين. ولكن منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022 تنامى نفوذها معا بوصفها جماعة ضغط من أجل القوة الغربية، تطرح مزيجا بديلا مؤلفا من الأمن الديمقراطي، والتكامل الدفاعي، والمرونة المجتمعية.
أقامت الدنمارك وإستونيا وفنلندا وأيسلندا ولاتفيا ولتوانيا والنرويج والسويد نسق تعاونها الإقليمي في عام 1992 بعد نهاية الحرب الباردة على أساس اجتماعات دورية لرؤساء الوزراء، ورؤساء المجالس النيابية، ووزراء الدفاع، والخارجية، وكبار مسؤولي الحكومات. بدأ ذلك بمنتدى للبلاد الشمالية الثرية المستقرة؛ لإعادة بناء جسور مع بلاد البلطيق المجاورة التي تبادلت التجارة وغيرها معها منذ قرون، ولكنها وقعت وراء الستار الحديدي في ظل الحكم السوفييتي منذ الحرب العالمية الثانية.
ازدادت أهمية المجموعة في الحقبة الجيوسياسية الجديدة لتنافس القوى العظمى؛ إذ أصبحت مناطق القطب الشمالي، وشمال الأطلسي، وبحر البلطيق مناطق عليها نزاع استراتيجي. وقد قالت ميتي فريدريكسن رئيسة وزراء الدنمارك والرئيسة الحالية لثمانية شمال البلطيق: «إن العالم يتغير بسرعة... وأهم شيء الآن هو إعادة تسليح أوروبا». وقد جاء ذلك التصريح في معرض شرحها لما يدعو كوبنهاجن الآن إلى أن ترى أن مكانها لم يعد ضمن البلاد الداعية إلى الاقتصاد في الإنفاق والمعارضة لزيادة الإنفاق في الاتحاد الأوروبي. سوف تتولى الدنمارك أيضا الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي ابتداء من يوليو بما يمنح منطقة الشمال مزيدا من الحضور.
في الوقت الذي اتسعت فيه أرض الساسة الشعبويين القوميين في وسط أوروبا بما جعل المنطقة أكثر تشككا في الفكرة الأوروبية وأقل دعما لأوكرانيا؛ تبقى منطقتا الشمال والبلطيق معقلا داعما لكييف، ولجهود الدفاع المبذولة من أوروبا والناتو، حتى لو اشتدت سياساتها بشأن الهجرة في ظل ضغوط الشعبويين فيها.
شاركت ثمانية الشمال والبلطيق منذ البداية في «تحالف الراغبين» الفرنسي البريطاني الذي تأسس لدعم أوكرانيا عسكريا وسياسيا عندما علّق دونالد ترامب المساعدة الأمريكية لكييف في محاولة لليِّ ذراع فلودومير زيلينسكي؛ كي يوافق على صفقة سلام ذات شروط روسية. فهذه الدول ـ على حد قول فريدريكسن ـ ترى في استقلال أوكرانيا وانتصارها على عدوان موسكو مصلحة حيوية لها، في ضوء قربها الجيوستراتيجي من روسيا.
يعتمد كل من حلف شمال الأطنطي والاتحاد الأوروبي اعتمادا هائلا على كتاب «الدفاع الشامل» الخاص بفنلندا والسويد في إشراك القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني في التأهب العسكري، والاستعداد المدني، والمرونة الاقتصادية في مواجهة تكتيكات الحرب الهجينة الروسية والصينية. ولنا أن نتعلم الكثير من نهجهم المجتمعي الشامل هذا.
ففنلندا على سبيل المثال -بتعداد سكانها الذي يبلغ 5.6 مليون نسمة، وقوات مسلحة تبلغ في وقت السلم أربعة وعشرين ألف مقاتل فقط- قادرة على التعبئة السريعة لجيش حربي قوامه مائة وثمانون ألف جندي، ولديها احتياطي مؤلف من ثمانمائة وسبعين ألف جندي مدرب، بفضل نظام التجنيد، وخدمة الاحتياط النظامية. وغالبا ما يكون قادة الاقتصاد ضباط احتياط أيضا. وهم يشاركون في منتديات أمن دورية، ولديهم التزامات قانونية بالحفاظ على مخزونات، والمشاركة في الخدمات اللوجستية، وامتلاك قدرة إنتاجية فائضة لأوقات الأزمات. وبخوضها حربين مع الاتحاد السوفييتي وحده في أربعينيات القرن العشرين؛ فإن في البلد ملاجئ من القنابل جيدة التجهيز، وكافية لشعبها كله.
في العام الماضي أرسلت السويد عبر البريد الإلكتروني نسخة محدثة من كتيب إلى خمسة ملايين منزل تنصح المواطنين بكيفية التصرف «في حالة الأزمة والحرب»؛ فمن النصائح تخزين غذاء غير قابل للتلف، وامتلاك مذياع ومصباح يعملان بالبطاريات، وصندوق إسعافات أولية وضروريات أخرى. وقد أوصت المفوضية الأوروبية أخيرا جميع الدول الأعضاء باتخاذ إجراءات مماثلة لتهيئة شعوبها لحالات الطوارئ المحتملة.
يجتمع أعضاء ثمانية الشمال والبلطيق بانتظام قبل اجتماعات حلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي -برغم أن النرويج وأيسلندا ليستا عضوين في الاتحاد الأوروبي-؛ لتنسيق جهودها الدبلوماسية عالميا. وعلى المستوى الرمزي تشترك الدول الخمس الاسكندنافية في مجمع سفارات، ومركز ثقافي في برلين عاصمة أكبر اقتصاد في أوروبا.
وفي ظل منظومة القوة المتطورة في أوروبا يحظى حلفاء الشمال والبلطيق بميزة أنها دول ديمقراطية متماثلة التفكير، وبينها إجماع عريض على دعم الدفاع والردع في مواجهة روسيا. وسوف يجعلها ذلك شركاء يمكن أن يعتمد عليها المستشار الألماني فريدريش ميرز، في وقت تواجه فيه بولندا حالة من الاضطراب السياسي، وتفتقر فيه فرنسا إلى أغلبية برلمانية، وتعاني من الديون، وتتردد إيطاليا في تكثيف جهودها الدفاعية.
لقد ربطت الدول الثماني جيوشها بالمملكة المتحدة وهولندا من خلال القوة الاستطلاعية المشتركة مع الحفاظ على قوات عالية الاستعداد مدربة على الاستجابة السريعة للأزمات. وتعمل الدول مع حلف شمال الأطلنطي لحماية الكوابل الحيوية وخطوط الأنابيب تحت الماء من محاولات التخريب الروسية والصينية.
بل لقد مضى بعض هذه الدول إلى أبعد من هذا في التكامل الدفاعي. فعلى سبيل المثال؛ أنشأت أربع قوات جوية من دول الشمال الأوروبي هذا العام فرقة شمالية داخل حلف الناتو، مهمتها تنفيذ مفهوم القوة الجوية الشمالية الذي يمكِّن الأجنحة الدنماركية والفنلندية والنرويجية والسويدية من العمل بوصفها قوة واحدة في عمليات جوية مشتركة واسعة النطاق وعالية الاستعداد. وتقيم دول البلطيق الثلاث خطا دفاعيا مشتركا على حدودها الشرقية على غرار دفاعات أوكرانيا الأمامية. وتناقش دول البلطيق مفهوما إستونيّا لـ«جدار مسيرات البلطيق» باستخدام الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار؛ لمراقبة الحدود، والحماية من الطائرات المسيرة.
وحتى لو تفوقت هذه المجموعة على قدراتها؛ فهناك حدود لنفوذ ثمانية الشمال والبلطيق. فالدول الصغيرة ذات الاقتصادات المفتوحة تعتمد في ازدهارها على التجارة الحرة، والبيئة العالمية المستقرة. وفي إطار الاتحاد الأوروبي كافحت المجموعة دون جدوى لمنع المفوضية الأوروبية من تخفيف قواعدها المتعلقة بإنفاذ المساعدات الحكومية؛ للسماح بمزيد من الدعم الفرنسي والألماني للصناعة. وعلى نطاق أوسع؛ فإن عالما يقوم على الرسوم الجمركية، والتقاعس عن العمل المناخي، و(اللاليبرالية)، ومجالات نفوذ القوى الكبرى، لا يمثل إلا احتمالا كارثيا لدول الشمال والبلطيق. فقد يكون تنامي الحمائية، وعدم الاستقرار نذيرا بكارثة في شمال أوروبا.
بول تيلور كبير زملاء زائر لمركز السياسة الأوروبية
عن الجارديان البريطانية