شكّل 30 أبريل/نيسان عام 1975 محطة فاصلة في التاريخ الحديث لفيتنام؛ إذ جرى تحرير سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية، اسمها الحالي "هو تشي منه")، من الاحتلال الأميركي بعد حرب مدمرة استمرت أكثر من 20 عاما، خلّفت وراءها مآسي إنسانية عميقة، وتسببت في مقتل ما لا يقل عن مليوني مدني فيتنامي، إلى جانب تدمير البنية التحتية وتشريد الملايين.

وقد خسرت الولايات المتحدة نحو 58 ألف جندي في تلك الحرب، التي وصفتها صحيفة الغارديان البريطانية بأنها واحدة من أكثر الأحداث إذلالا في تاريخ أميركا الحديث.

وعقب الحرب، فرّ أكثر من 1.5 مليون شخص من البلاد، مما تسبب في أزمة لاجئين خانقة إلى جانب ملايين النازحين داخل البلاد. كما خلّفت الحرب آثارا صحية طويلة الأمد نتيجة استخدام المواد الكيميائية السامة، إلى جانب بقاء كميات هائلة من الذخائر غير المنفجرة التي ما زالت تهدد أرواح السكان حتى اليوم.

الفقر والجوع في كل مكان

وجدت فيتنام نفسها بعد انتهاء الحرب غارقة في الفقر والانهيار الاقتصادي، حيث كان أكثر من 70% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، معتمدين على اقتصاد زراعي هش وبنية تحتية مدمّرة.

وكان الناتج المحلي الإجمالي للفرد في عام 1984 لا يتجاوز 200 إلى 300 دولار سنويا، ما جعل البلاد تصنّف بين أفقر دول العالم، وفقا للمنتدى الاقتصادي العالمي. وزادت السياسات المركزية الصارمة، مثل إلغاء الملكية الخاصة وسوء الإدارة البيروقراطية، من تعقيد الأزمة، إلى جانب الحصار الاقتصادي الأميركي المفروض بعد الحرب.

الحرب أدخلت معظم الشرائح الفيتنامية في حالة فقر مدقع واعتماد على اقتصاد زراعي هش (غيتي) كيف تغلبت فيتنام على الفقر؟

لمواجهة التحديات الاقتصادية الطاحنة، أطلقت الحكومة الفيتنامية في عام 1986 برنامج "دوي موي" والذي يعني "التجديد"، وكان الهدف منه الانتقال من الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد سوقي اشتراكي.

إعلان

شملت الإصلاحات تحرير التجارة، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وتفكيك التعاونيات الزراعية، ومنح حقوق ملكية الأراضي للمزارعين. وقد أسهم هذا البرنامج في تحوّل جذري لاقتصاد فيتنام، فارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من أقل من 700 دولار عام 1986 إلى ما يقرب من 4500 دولار عام 2023، بينما انخفضت نسبة الفقر من نحو 60% في أوائل التسعينيات إلى أقل من 4% في 2023، وفقا للبنك الدولي.

الركائز الأساسية لبرنامج "دوي موي" تحرير الزراعة وتفكيك التعاونيات

أصدرت الحكومة الفيتنامية القرار رقم 10، الذي منح الفلاحين حقوق استخدام الأراضي الزراعية لفترات طويلة، ما أتاح لهم حرية الإنتاج والتسويق، وأسفر عن زيادة كبيرة في الإنتاجية الزراعية.

وفي عام 1993، تم إعادة توزيع أراضي التعاونيات على المزارعين مجانا، ما ساعد فيتنام على التحول من دولة تعاني الجوع إلى واحدة من أكبر مصدري الأغذية في العالم، بحسب مركز تكنولوجيا الأغذية والأسمدة في آسيا والمحيط الهادي.

وفي عام 2008، صدّرت فيتنام 4.7 ملايين طن من الأرز، لتصبح ثاني أكبر مصدر للأرز في العالم بعد تايلند، كما ساهمت هذه الصادرات في درء أزمة غذائية عالمية في ذلك العام، حسب منصة غلوبال آسيا.

إصلاح الشركات المملوكة للدولة

ومنحت الدولة استقلالية أكبر للشركات الحكومية، وركّزت على الربحية والكفاءة، في حين جرى تشجيع الشركات الخاسرة على إعادة الهيكلة أو الخصخصة. وأكد بنك التنمية الآسيوي أن هذه الإجراءات شكّلت ركيزة أساسية للتحول نحو اقتصاد السوق.

مظاهر احتفال بمدينة هو تش منه بمناسبة الذكرى الـ50 لإنهاء الحرب وتوحيد البلاد (رويترز) دعم القطاع الخاص وتعديلات دستورية

في عام 1988، اعترفت الحكومة بالقطاع الخاص كمكوّن رئيسي في الاقتصاد الوطني، مع ضمان حقوق الملكية والميراث. وتم تعديل الدستور عام 1992 لترسيخ هذه الحقوق.

الاندماج في الاقتصاد العالمي

انضمت فيتنام إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) عام 1995، ثم إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) عام 2007، ووقّعت العديد من اتفاقيات التجارة الحرة، ما عزز اندماجها في الاقتصاد الدولي، وفقا لموقع فيتنام بلس.

إعلان فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية

أصدرت الحكومة عام 1987 قانونا للاستثمار الأجنبي المباشر، شمل إنشاء مشاريع مشتركة أو شركات مملوكة بالكامل للأجانب، مع حوافز ضريبية وضمانات ضد التأميم.

أبرز الشركات الأجنبية المستثمرة في فيتنام

بحسب فيتنام بريفنغ ووكالة رويترز، جذبت فيتنام استثمارات ضخمة من شركات عالمية في قطاعات التكنولوجيا والتصنيع، وأبرزها:

"سامسونغ" (Samsung):

القطاع: الإلكترونيات. حجم الاستثمار: 22.4 مليار دولار في 6 مصانع ومركز بحث وتطوير، مع استثمار إضافي بـ1.8 مليار دولار لمصنع "أوليد" في باك نينه.

"إل جي ديسبلاي" (LG Display):

القطاع: الإلكترونيات. حجم الاستثمار: 5.65 مليارات دولار.

"أمكور تكنولوجي" (Amkor Technology):

القطاع: أشباه الموصلات. حجم الاستثمار: 1.6 مليار دولار.

"سبيس إكس" (SpaceX):

القطاع: الإنترنت عبر الأقمار الصناعية. حجم الاستثمار: 1.5 مليار دولار.

"فوكسكون" (Foxconn):

القطاع: تصنيع الإلكترونيات. حجم الاستثمار: 80 مليون دولار لإنشاء مصنع دوائر متكاملة في باك جيانغ. تحرير الأراضي الزراعية رفع الإنتاجية وحوّل فيتنام إلى قوة تصديرية غذائية (رويترز) فيتنام المركز الصناعي القادم في العالم

وبفضل بيئة أعمال جاذبة، وموقع إستراتيجي، وقوى عاملة ماهرة، ودعم حكومي متواصل، باتت فيتنام تحتل موقعا متقدما كمركز صناعي إقليمي وعالمي.

ويشكّل قطاع التصنيع أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لتقرير "فيتنام إنفستمنت ريفيو". وتُعزى هذه المكانة إلى:

الاستثمار في رأس المال البشري والتقنيات الحديثة: تدريب 50 ألف مهندس في الرقائق الإلكترونية بحلول 2030، وتطوير التعليم الفني بالشراكة مع شركات عالمية. اتفاقيات تجارة حرة: أبرزها مع الاتحاد الأوروبي، حيث زادت الصادرات بنسبة 50%. الاستفادة من سياسة "الصين +1": حيث تُعد فيتنام وجهة بديلة للشركات التي تسعى لتقليل اعتمادها على الصين. قوى عاملة تنافسية: ماهرة ومنخفضة التكاليف مقارنة بجيرانها. ملامح الاقتصاد الفيتنامي في 2024

ورغم التحديات العالمية، واصل الاقتصاد الفيتنامي نموه بثبات في 2024، وفقا لـ"فيتنام بريفنغ" ومكتب الإحصاء العام:

إعلان الناتج المحلي الإجمالي: 476.3 مليار دولار أميركي، بمعدل نمو 7.09% مقارنة بعام 2023. نصيب الفرد من الناتج المحلي: 4700 دولار (بزيادة 377 دولارا عن 2023). القطاعات الاقتصادية: قطاع الخدمات: 49.46% من الناتج، بنمو 7.38%. الصناعة والبناء: 45.17%، بنمو 8.24%. الزراعة والغابات ومصائد الأسماك: 5.37%، بنمو 3.27%. التجارة حجر الزاوية في النهضة الاقتصادية

وبلغ حجم التجارة الخارجية لفيتنام في 2024 أكثر من 786.29 مليار دولار، مع فائض تجاري قدره 24.77 مليار دولار:

الواردات: 380.76 مليار دولار (زيادة 16.7%) الصادرات: 405.5 مليار دولار (زيادة 14.3%)

أما الاستثمار الأجنبي المباشر، فقد بلغ 38.2 مليار دولار رغم انخفاض طفيف بنسبة 3%، بحسب وكالة الاستثمار الأجنبي.

وأثبتت فيتنام أن الإرادة السياسية والإصلاحات الجذرية قادرة على تحويل مسار أمة كاملة. فمن دولة أنهكتها الحروب، ومزقتها الأزمات، استطاعت فيتنام أن تنهض من رماد التاريخ إلى قلب المستقبل، بفضل رؤية اقتصادية بعيدة المدى واستثمار ذكي في الإنسان والبنية التحتية.

لم تعد فيتنام دولة نامية تبحث عن فرصة، بل أصبحت مركزا صناعيا واعدا في عالم التكنولوجيا وسلاسل الإمداد، يستقطب استثمارات بمليارات الدولارات سنويا، ويقدم نموذجا يُحتذى به في التنمية الاقتصادية المستدامة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الناتج المحلی الإجمالی حجم الاستثمار ملیار دولار من الناتج إلى جانب أکثر من فی عام

إقرأ أيضاً:

أكثر من 265 مليار ريال نموّ السيولة المحلية بنهاية مايو الماضي

سجّلت السيولة المحلية في الاقتصاد السعودي (عرض النقود - ن3) نموًّا سنويًّا ملحوظًا بنهاية شهر مايو 2025م، بلغت قيمته نحو (265.4) مليار ريال، بزيادة نسبتها (9.4%) مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2024م، لتصل إلى مستوى تاريخي هو الأعلى على الإطلاق عند (3.09) تريليونات ريال، مقابل (2.82) تريليون ريال في مايو من العام الماضي.

وأظهرت النشرة الإحصائية الشهرية الصادرة عن البنك المركزي السعودي "ساما" أن السيولة نمت أيضًا على أساس شهري بقيمة (39.1) مليار ريال، بما يعادل (1.3%)، مقارنة بمستواها في شهر أبريل الماضي البالغ نحو (3.05) تريليونات ريال.

وبتحليل مكونات عرض النقود (ن3)، تصدّرت "الودائع تحت الطلب" المكونات بنسبة مساهمة بلغت (48.6%)، وبقيمة (1.5) تريليون ريال، تلتها "الودائع الزمنية والادخارية" التي سجلت (1.1) تريليون ريال، بنسبة (35.2%).

وبلغت "الودائع الأخرى شبه النقدية" نحو (256) مليار ريال، بنسبة مساهمة (8.3%)، في حين بلغ "النقد المتداول خارج المصارف" (246.2) مليار ريال، بنسبة (8%).

يُشار إلى أن "الودائع شبه النقدية" تشمل ودائع المقيمين بالعملات الأجنبية، والودائع المخصصة للاعتمادات المستندية، والتحويلات القائمة، وعمليات إعادة الشراء (الريبو) المنفذة بين المصارف والقطاع الخاص.

ويُعرّف عرض النقود بمفهومه الضيق (ن1) بأنه مجموع النقد المتداول خارج البنوك مضافًا إليه الودائع تحت الطلب، بينما يشمل (ن2) كلًا من (ن1) والودائع الزمنية والادخارية، ويُعد (ن3) المفهوم الأوسع، إذ يضم كذلك الودائع الأخرى شبه النقدية.

السيولةالاقتصاد السعوديقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • الصين: تأسيس أكثر من 30 ألف شركة ذات استثمار أجنبي خلال النصف الأول من 2025
  • الحرب الروسية الأوكرانية: كتاب لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات يفوز بجائزة ثقافية لعام 2025
  • فيصل الفايز يدعو من جنيف إلى نظام عالمي أكثر عدالة واستقرارًا عبر دور فاعل للبرلمانيين
  • بمشاركة أكثر من 40 عارضا..افتتاح صالون الخدمات المالية الموجهة لدعم الاستثمار
  • الذهب يتراجع عالميًا وسط ضغوط السياسات الأمريكية والتوترات التجارية
  • أكثر من 265 مليار ريال نموّ السيولة المحلية بنهاية مايو الماضي
  • قارب 59 مليار دولار.. الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين ينخفض 15.2% في 6 أشهر
  • المؤتمر: توجيهات الرئيس لتحويل مصر لمركز لوجستي عالمي تعزز مكانتها الاقتصادية
  • تجارية القليوبية: توجيهات الرئيس بتوطين الصناعات البتروكيماوية تحول مصر لمركز صناعي إقليمي
  • انخفاض أسعار الذهب عالميًا بعد اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي