دكتور الوليد آدم مادبو
“السودان بلدٌ شاسعٌ يسع الجميع، ولكنهم أرادوه حقلًا لحروبهم وصراعاتهم الصغيرة.”
— عبد الكريم ميرغني
لم يعد الشعب السوداني بحاجة إلى من يشرح له الكارثة، فالألم يفيض من كل بيت، والخذلان صار لغة يومية. عبد الفتاح البرهان لا يقود البلاد، بل يدفعها في انحدارٍ جنوني، مستندًا إلى وهم انتصار عسكري، وتدعمه عصبة من الكيزان الذين لفظهم الوجدان السوداني السليم والنظام العالمي العقيم، فلا يجدون الآن سوى التملق لنظم ديكتاتورية تمتص ما تبقى من سيادة الوطن وكرامة شعبه.
الكيزان، أولئك الذين نهبوا هذا الوطن حتى جفّت عروقه، عادوا اليوم يتاجرون بدمه. في بورتسودان، لا تُمارس السياسة، بل تُدار الدسائس، ويُحتكر القرار بين لصوص المرحلة ومجرمي الأمس، يتسابقون إلى حضن القاهرة وأسمرا، يبيعون السيادة قطعة قطعة مقابل وهم البقاء، ويعرضون الكرامة الوطنية في مزاد العار.
أيّ نصر هذا الذي يُمنّي به البرهان نفسه؟ بينما تنهار المدن واحدة تلو الأخرى، من الفاشر إلى الأبيض، ومن النهود إلى الدّبة، وتُضرب مراكز الجيش الحيوية ومناطقه الاستراتيجية مثل المهندسين ووادي سيدنا بطائرات مسيّرة تُعري هشاشة ما تبقى من بنيته. يواصل البرهان دعوته للحسم العسكري، ويمني نفسه حكما بلا أفق، في مشهد عبثي لا يُنتج سوى المزيد من الدم والموت والجوع.
يتوسّل البرهان إلى هذا الشعب الجريح بالصبر، يدعوه إلى انتظار نصرٍ عسكريٍ لا يجيء، بينما تتوالى الهزائم كالمطر الأسود، تتساقط على رأسه، وتُسحق تحتها معنويات جنوده. أما الفساد، فقد صار لسان حال سلطته، والفضائح تتناثر كالشظايا، من الإمارات إلى بورتسودان، ومن شحنات الذخيرة المتخفّية في عبوات الدواء، إلى صفقات الخيانة التي يُراهن فيها على شرف الأمة واستقلالها.
البرهان، ذاك الطاغية المثقل بجنون العظمة، يتعامى عن الواقع: لا كثافة سكانية تسند قواته، لا تحالفات إقليمية تضمن له النصر، ولا شرعية أخلاقية تحفظ له ماء وجهه. ففي استمرار الحرب مهانة وفي إيقافها تبدأ أولى خطوات السلامة والعودة إلى العقل، وتُفتح بوابات التسوية الشاملة التي تُنهي فصول العسكرة والتطرف، وتعيد للسودان ملامحه المدنية الغائبة. فخلاص السودان لن يولد من فوهة البندقية، ولا من انتصار طرفٍ على آخر، بل من مشروع وطني مدني يستوعب الجميع ويلبي طموحاتهم.
الحرب لم تعد مواجهةً بين جيشٍ ودعمٍ سريع، بل غدت صراعًا جغرافيًا وتاريخيًا بين ضفتي النيل (شرقه وغربه): بين دولةٍ تحتضر وأخرى تولد من رحم المعاناة، بين نخبةٍ نيلية أرهقها الفشل لكنها تأبى أن ترى غيرها يحكم، وشعوبٍ قررت أن لا تُقاد إلى الذبح من جديد. لقد انكشفت النوايا، وسقطت الأقنعة، وسُمِع الصوت الذي طالما كتموه: لن يُبنى السودان من الخرطوم وحدها، ولن يُختصر تاريخه في نخبةٍ لم تغادر بعد عقليتها الريعية الإستعمارية، بل تكابر وتثرثر وتشاجر.
حتى متى وهؤلاء يتلبسون بفرية الكيزان، أولئك الذين برعوا في تعذيب الشعب وقتله وتفننوا يوما بتسديد المسمار في رأسه، حتى متى وهؤلاء يظلون ضحايا لأكاذيب الكيزان، أولئك المرضى الذين دأبوا على اغتصاب الشعب حسياً ومعنوياً وتعمّدوا ذات ليلة حشر حديدة في دُبره؟ أعجب عندما استمع إلى أحد أبواقهم الأعلامية وهو يتكلم عن سفك الدماء وهتك الأعراض وسرقة المقتنيات. هذه هي الثقافة التي اعتمدتموها وظللتم تعملون على تكريسها في جغرافيا الوطن وسفوح الريف الممتدة غرباً وشرقاً وجنوباً. وما زلتم!
إن الحرب، في وجهٍ من وجوهها، كانت عدالةً إلهية ضد ظلمٍ استمر لعقود، لكن إيقافها اليوم يستدعي حكمةً بشرية وإنصافًا تاريخيًا. لقد تحررت الشعوب من خرافة الطغيان، ولم يعد بمقدور أحدٍ إخضاعها باسم الدين أو الجيش أو الجغرافيا. آن أوان العقل. آن للمدنية أن تسود، للسلام أن يُبنى، وللسودان أن يُستعاد من تحت أنقاض الأوهام والعسكرة والأدلجة.
ختاماً، إنّ ما يجري في السودان اليوم ليس صراعًا على السلطة فحسب، بل هو معركة وجودٍ بين وطنٍ يُراد له أن يُولد من جديد، ونظامٍ مريض يصرّ على جرّه إلى الحضيض. البرهان وفلوله لا يقاتلون لأجل السودان، بل يتشبثون ببقايا عرش يتهاوى. ومن يحارب خوفًا من السقوط، لا رغبةً في العلو، لا يرتقي وطنه، بل يسقط معه في قاع الخراب.
إيقاف الحرب لم يعد ترفًا ولا خيارًا سياسيًا، بل واجبًا أخلاقيًا وتاريخيًا. لا خلاص للسودان إلا بمشروع وطني مدني يستوعب كل القوى، ويُقصي من أحرقوا البلاد تحت رايات الأدلجة والعسكرة.
auwaab@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الشعب السوداني الآن هو ليس الشعب البائس التعيس كما يريد القحاتة والمرجفين إقناعنا
صراع السرديات قادم بقوة وسيستمر طويلا ويجب أن نستعد له
محاولات حلفاء المليشيا والمتواطئين معها ستتزايد في الفترة المقبلة لتزييف الواقع، لتصوير السودان على أنه قد أصبح جحيما والشعب السوداني يعيش في الجحيم وأن كل ذلك لن ينصلح إلا بعودة المليشيا وهم معها إلى السلطة.
أخطر ما يمكن أن يقوم به هؤلاء هو التالي:
تصدير الشعور السلبي للمواطن السوداني وإشعاره بأن الجيش ومن وراء الكيزان ثم وبشكل عرضي الدعم السريع هم السبب في بؤسه ومعاناته والطرق باستمرار على هذه النقطة. وأن الحرب يجب أن تتوقف، وأنها لو توقفت وعادوا هم مع الدعم السريع ستتنزل علينا بركات السماء والأرض، مثلما باعوا الوهم للناس أيام الثورة.
الحقيقة هي أن
الشعب السوداني قد صنع المعجزة في هذه الحرب وانتصر. وهي فعلا معجزة بالنظر إلى حجم التضحيات والواقع. أين كنا وأين أصبحنا؟ لا ينبغي أن ننسى ذلك أيضا. الشعب السوداني الآن هو ليس الشعب البائس التعيس كما يريد القحاتة والمرجفين إقناعنا، بل هو الشعب الظافر المنتصر، الشعب الذي قهر أعتى المؤامرات وحرر أرضه ودحر الأوباش.
هذا هو المدخل الصحيح للتفكير في الواقع وفي المستقبل، مدخل الانتصار وتدمير الأعداء وسحقهم. لقد انتصرنا رغم أنف المخذلين، إنتصر شعار #بل_س وتحررت العاصمة كلها وقبلها كل ولايات الوسط والزحف متواصل لتحرير كردفان ثم دارفور.
وستأتي بعد ذلك مرحلة البناء والتعمير، وعودة الحياة. وصحيح الحياة لن تكون وردية بشكل تلقائي، ولكن يجب أن نتذكر دائما، بأنه لولا الانتصار، لولا تضحيات رجال بدماءهم وأرواحهم لما كانت لنا بلد لنعود إليها.
هؤلاء الخونة يريدون أن يسبلوا الشعب السوداني شعوره بالعزة والفخر، كشعب منتصر، وتغيير شعوره إلى شعور سلبي تعيس وبائس. لأنهم كرسل للبؤس والخوف والضعف لا يزدهرون إلا في البيئات التي تشبههم.
لقد أرادوا أن يستسلم الشعب والجيش للمليشيا منذ بداية الحرب، وعملوا على استجلاب قوات أممية على الأرض وفرض واقع احتلالي تسيطر المليشيا على أجزاء من السودان والقوات الدولية على أجزاء لنبقى دولة بلا سيادة وشعب ذليل تحت الحماية والوصاية، كل ذلك حتى لا تأتي هذه اللحظة، اللحظة التي ينتصر فيها الشعب ويسترد كرامته.
كما قال أحد الأصدقاء، تخيل مقدار الذل والانكسار الذي سيعيشه مواطن الجزيرة وهو يعود إلى أرضه تحت حماية قوات دولية! أو يعود عبر اتفاق سياسي يقوده القحاتة عبدالله حمدوك وخالد سلك وياسر عرمان، وطبعا الجنجويد سيبقون في الجزيرة وفي العاصمة وفي كل مكان ولكن في مواقعهم التي سيطروا عليها بالقوة. هذا ما يريده القحاتي.
مواطن الجزيرة والخرطوم وكردفان وقريبا إن شاء الله مواطن الجنينة يعودون إلى أرضهم مرفوعي الرؤوس منصورين أعزاء كرماء لأنهم عادوا بدماء وتحضيات جيشهم وأبناءهم المستنفرين المجاهدين، وهذا ما لا يريده الخونة. يجب أن نتذكر ذلك باستمرار.
حليم عباس