كتب الدكتور عزيز سليمان – أستاذ السياسة و السياسات العامة
السودان في قبضة الظلال
في بلادٍ تُعاني من نزيف الحرب وتشرّد الملايين، يُطرح السؤال الحارق: من يمسك بزمام السودان؟ هل هي قياداته المحلية، أم أن يدًا خفية تدير المشهد من خلف ستارٍ من الغموض والمصالح؟ السودان، الذي كان يومًا أمل القارة الإفريقية وسجداتها المزاورية، تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، حيث يتخبط التنفيذيون، تتهاوى المؤسسات، وتتكشف الأدوار المشبوهة لدولٍ مثل الإمارات.
التخبط التنفيذي ووهم السيادة
إن الحكومة السودانية في عمقها السياسي، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، تُشبه سفينةً تائهة في بحرٍ من الفوضى. تعيين الوزراء وإقالتهم يتم بلا منطقٍ واضح، كأن الأمر لعبة كراسٍ موسيقية. في أبريل 2025، عُيّن دفع الله الحاج علي عثمان وزيرًا لشؤون مجلس الوزراء ومكلفًا بمهام رئيس الوزراء، في خطوةٍ تُظهر استمرار الفراغ القيادي. هذا التخبط ليس مجرد فشل إداري، بل دليلٌ على أن القرارات لا تُتخذ في الخرطوم، بل تُملى من عواصم أخرى . البرهان نفسه، في خطاباته، يُلمّح إلى الفساد المستشري، لكنه يظل عاجزًا عن مواجهته، كمن يُقاتل شبحًا بسيفٍ من ورق.
مجلس السيادة، الذي يُفترض أنه يُمثل السلطة العليا، يُشبه مسرحًا للتوازنات الهشة. البرهان يلعب على وتر التوازن بين القوى "العسكرمدنية" ، بينما الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع (الجنجويد) تُدمّر البلاد. هذا التوازن ليس سوى وهمٍ يُخفي حقيقة مرة: القيادة السودانية أصبحت أداةً في يد لاعبين إقليميين، وعلى رأسهم الإمارات.
الإمارات: اللاعب الماكر في الظل
الإمارات، ببريقها الاقتصادي ونفوذها الإقليمي، تُمسك بخيوطٍ كثيرة في السودان. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، مثل هيومن رايتس ووتش، تؤكد دعم أبو ظبي لقوات الدعم السريع بأسلحة وتمويل، مخالفةً بذلك الحظر الدولي على السلاح في دارفور. في مارس 2024، اتهم مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة الإمارات بانتهاك الحظر عبر تزويد الدعم السريع بأسلحة وطائرات بدون طيار. لكن الإمارات، في بجاحةٍ سياسية، تنفي هذه الاتهامات، وتصفها بـ”التزييف”، بينما تُواصل استيراد الذهب السوداني المهرّب، الذي يُعتبر وقود الحرب.
شكوى السودان أمام محكمة العدل الدولية في مارس 2025، التي اتهمت الإمارات بالتواطؤ في الإبادة الجماعية، لم تُسلط الضوء على العدوان الأوسع، بل ركّزت على الإبادة لاسترضاء الشارع السوداني المكلوم. هذا التقصير يكشف عن غموض العلاقة بين حكومة البرهان وأبوظبي. فكيف يُمكن لحكومةٍ تُدّعي السيادة أن تُحافظ على علاقات دبلوماسية مع دولةٍ تُموّل خصمها العسكري؟ إنها مفارقةٌ ساخرة تُظهر أن الخرطوم تُدار من أبوظبي، حيث يُشترى الذهب السوداني بأثمانٍ بخسة، وتُرسل الأسلحة لتمزيق البلاد.
الإمارات ليست وحدها. روسيا، عبر مجموعة فاغنر سابقًا وفيلق إفريقيا حاليًا، تُشارك في نهب الذهب مقابل دعم عسكري، بينما تُحاول إيران وتركيا تعزيز نفوذهما. لكن الإمارات تتفوق في هذه اللعبة، مستغلةً ضعف الحكومة السودانية وانقساماتها. فهل يُعقل أن تُواصل الخرطوم تصدير الذهب، الذي يُمثل 47.7% من إيراداتها، إلى الإمارات بينما تُغرق الأخيرة السودان في الحرب؟ إن هذا التناقض يكشف أن القرار ليس سودانيًا، بل يُتخذ في أروقةٍ بعيدة.
لو كان السودان بأيدٍ سودانية
لو كان السودان يُدار بأيدٍ سودانية حقًا، لتوقف تصدير الذهب فورًا إلى الإمارات وغيرها من الدول المتورطة. لقُطعت العلاقات الدبلوماسية مع أبوظبي، ولُوحق كل من يُموّل الحرب، سواءً بالسلاح أو الذهب، أمام المحاكم الدولية. لرفعت شكاوى ضد الدول التي تُصدّر الأسلحة إلى الدعم السريع، مثل تشاد والإمارات، بموجب ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن. لكن هذا لم يحدث، لأن البرهان وحكومته ليسوا أصحاب القرار. إنهم، في أحسن الأحوال، وكلاء محليون يُنفذون أجنداتٍ خارجية، وفي أسوأ الأحوال، رهائن لمصالحهم الضيقة.
السخرية هنا لا تكمن فقط في عجز الحكومة، بل في بجاحة الإمارات التي تُقدّم نفسها كـ”مانحة” للمساعدات الإنسانية، بينما تُموّل الحرب بيدٍ وتُوزّع الفتات باليد الأخرى. إنها مسرحيةٌ هزلية تُجسّد ازدواجية المعايير، حيث تُطلق أبوظبي تعهداتٍ بـ70 مليون دولار للإغاثة، بينما تُغرق السودان بأسلحةٍ تُدمّر حياة الملايين.
المخرج الوحيد: حكومة شبابية وطنية
السودان لن يخرج من هذا النفق المظلم إلا بحكومةٍ حقيقية، خالية من الوجوه المعادة التي أثبتت فشلها. حكومةٌ يقودها الشباب، الذين أشعلوا ثورة 2019، مدعومين بخبراتٍ وطنية صادقة بعيدة عن الفساد. هذه الحكومة يجب أن تواجه التحديات الوجودية: إنهاء الحرب، استعادة السيادة الاقتصادية، ومحاسبة الدول المتورطة. شباب السودان، من لجان المقاومة "الصادقة ليست التي يديرها اليسار و الأحزاب الخربة" إلى الناشطين في الشتات، يمتلكون الرؤية والشجاعة لإعادة بناء بلادهم، بعيدًا عن أجندات البرهان وحملة السلاح الاخرين ، وبعيدًا عن ظلال أبو ظبي وموسكو.
استعادة السودان
السودان، يا سادة، ليس ملكًا للسودانيين اليوم. إنه رهينةٌ في يد لاعبين إقليميين، وعلى رأسهم الإمارات، التي تُحرّك الدعم السريع وتُمسك بخيوط الاقتصاد عبر الذهب. حكومة البرهان، بتخبطها وفسادها، ليست سوى واجهةٍ تُخفي هذا الواقع المر. المخرج الوحيد هو ثورةٌ إدارية وسياسية، تقودها عقولٌ شابة وقلوبٌ مخلصة، لاستعادة السودان من براثن الظلال. فهل يستيقظ السودانيون قبل أن يُصبح وطنهم مجرد سطرٍ في كتب التاريخ؟
quincysjones@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع بینما ت
إقرأ أيضاً:
بوصلة السودان الوطنية… ما بين الدعم الخليجي و الوقفة المصرية الصلبة
في زمن الحرب، تكثر المواقف، وتتعدد الحسابات، لكن بعض التحركات لا تُقرأ فقط كأحداث عابرة، بل كمؤشرات قوية على ما هو قادم. ومن بين تلك التحركات، ما نشهده اليوم من وقفة مصرية صلبة إلى جانب السودان، إضافة إلى الدعم الخليجي المتنوع – إنسانيًا واستثماريًا – الذي بدأ يتدفق من السعودية وقطر والكويت.
مصر والسودان… علاقة لا تهتز
مصر، كما عهدناها، تقف بثبات إلى جانب السودان. الموقف هذه المرة بدا أكثر وضوحًا وأقوى نبرة، بعيدًا عن المجاملات الدبلوماسية. مصر لم تستقبل فقط ملايين السودانيين الهاربين من جحيم الحرب، بل احتضنتهم بكرامة، دون أن تُحول الملف الإنساني إلى أداة سياسية. وهذا موقف لا يصدر إلا من دولة شقيقة تدرك أن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمنها القومي.
ومصر، إلى جانب مواقفها السياسية والإنسانية، مؤهلة أيضًا للعب دور كبير في ملف إعادة الإعمار، بل بدأت بالفعل بخطوات عملية، مثل مساهمتها في صيانة بعض الجسور بولاية الخرطوم، في مؤشر يعكس استعدادًا مصريًا مبكرًا لدعم السودان ما بعد الحرب.
الخليج العربي… دعم إنساني ورغبة استثمارية
يلفت النظر الحضور الخليجي الفاعل. السعودية وقطر والكويت قدموا دعمًا إنسانيًا مقدرًا منذ بداية الحرب، عبر مساعدات وإغاثات وتحركات دبلوماسية هادئة. واليوم، تُعلن الكويت صراحة رغبتها في الاستثمار داخل السودان في شتى المجالات.
الخليج لا يطرق الأبواب المغلقة، ولا يستثمر في المجهول. هذا الحراك يُفهم على أنه مؤشر على ثقة متزايدة بقرب نهاية الحرب، واستعداد فعلي للدخول في مرحلة الاستقرار وإعادة البناء.
السودان يعيد ضبط بوصلته… بلا تبعية
هذه المرة، يبدو أن السودان يتحرك بعقلية جديدة تجاه محيطه. هناك رغبة واضحة في إقامة شراكات تقوم على تبادل المصالح لا على التبعية. الاحترام في العلاقات لا يُمنح إلا لمن يحترم نفسه أولاً، وهذه فرصة تاريخية لبناء سياسة خارجية متوازنة.
تهيئة الداخل… مسؤولية جماعية تتقدمها الدولة وأجهزتها
لن تنجح أي مساعٍ خارجية إن لم يكن الداخل مهيأ ومتماسكًا. القوات المسلحة السودانية، وهي تمسك بزمام المعركة، مطالبة في الوقت نفسه بالمساهمة في تهيئة المناخ للحكومة المدنية لإعادة بناء المؤسسات وضمان السيادة.
الشرطة السودانية يجب أن تعود للواجهة، لبسط الأمن وفرض القانون وتنظيم الحياة اليومية.
جهاز المخابرات العامة بدوره، عليه أن يحمي الأمن الاقتصادي، ويتصدى لمحاولات الاختراق أو التلاعب بمستقبل الدولة.
كما أن القوى المدنية والسياسية مطالَبة بتجاوز الخلافات، وتقديم نموذج للانسجام السياسي يعكس وعيًا وطنيًا بحجم التحديات. الاستثمار يحتاج إلى استقرار سياسي، وعدالة، وحوكمة رشيدة.
هذه التحركات… هل تُنذر بانفراجة؟
نعم. كل هذه المؤشرات توحي بقرب انفراج سياسي وعسكري. الجيش يحقق تقدمًا، والدولة تستعيد زمام المبادرة. الخارج يراقب، ويستعد للتفاعل، لكنه لا يغامر دون أن يرى بوادر استقرار حقيقية.
في الختام… هذه فرصتُنا إن أحسَنَّا اغتنامها
السودان اليوم أمام فرصة نادرة لإعادة التموضع. الدعم متاح، ولكن لا بد أن يُدار وفق خطة وطنية، تحمي القرار السوداني وتوظف موارده لصالحه.
ما نحتاجه الآن هو رؤية واضحة، وإرادة صادقة، ووضع السودان أولاً. البوصلة تعود تدريجيًا للاتجاه الصحيح… فلنغتنم الفرصة. قبل أن تضيع مرة أخرى.
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
إنضم لقناة النيلين على واتساب