من زنجبار إلى مسقط: رسالة بالبريد السريع!
تاريخ النشر: 12th, May 2025 GMT
وإذ نحن نهم بالخروج من بيت المتوني، إذا بي ألمح من على البعد السيد سعيد بن سلطان يتحرّك ببطء مع قبطان السفـينة الحربية «الرحماني» التي تقف قبالة بيت المتوني، ولاحظتُ فـي مشيته بعضَ العرج نتيجة لرصاصة أصيب بها فـي إحدى معاركه، فناداني: «زاهر». وأمام ارتباكي لم أجد ما أجيب به إلا بما كنتُ أشاهده فـي المسلسلات التاريخية بالفصحى، فأجبتُ: «أبيتَ اللعن»! قال سيف مستنكِرًا: «قل: نعم يا مولاي».
وأنا أستمع إلى السيد سعيد بن سلطان كان يختلط الأمر عليَّ أحيانًا، فلا أعرف هل المتحدث هو أم السلطان قابوس؟! ولكن ما لم يعلمه السيد سعيد هو أنّ هناك أحاديث تدور -همسًا- الآن فـي زنجبار أنّ بيت المتوني بيع لمستثمر خليجي وقد يهدمه ويبني مكانه فندقًا!
ودّعنا الرجل ببساطته، وخرجنا إلى الباحة الخارجية لبيت المتوني؛ وفجأة رأينا شجرة أمبا عملاقة وبالقرب منها مسجدٌ صغير. هنا عادت بي الذاكرة إلى عام 1885، عندما زارت السيدة سالمة بيت المتوني مع أولادها بعد غياب عنه دام تسعة عشر عامًا. وبعد تجوّلها فـي البيت وحزنها على ما وصل إليه حاله، خرجَتْ فإذا هي أمام شيخ أعمى وقور ذي لحية طويلة وقد لبس عمامة بيضاء ولف بعضها على رقبته، كان يتوضأ من نهر المتوني استعدادًا للصلاة، -عرَفَتْ فـيما بعد أنه إمام مسجد الشيخ ناصر بن أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي- وعندما اقتربَتْ منه هي وأبناؤها سلّم عليهم وخاطبها قائلًا: «أهلًا بالسيدة سالمة. طالما حملتُك فـي السنين الماضية على حِجري وأنتِ طفلة».
كنتُ مشدوهًا بالمكان رغم اختلاف الزمان، وركزتُ على الحوار الدائر بينهما، علّي أخرج بمقال صحفـي. ظلّ صوت الإمام يعلو ويصير أكثر إلحاحًا حتى تصاعد إلى عاصفة من الكلام، وكانت سالمة تنصت لكلِّ كلمة يقولها الإمام، وشاهدتُ عينيها تغرورقان بالدموع. أمام مشهد كهذا لم يجد سعيد ابن السيدة سالمة إلا أن يتقدّم وينقذها من الرجل الضرير، الذي تحرّك مغاضِبًا تاركًا الجميع، ونسي عصاه التي يستدل بها على الطريق ودخل إلى المسجد.
كان سيف يحدّثني لكني كنتُ مشغولًا عنه، فلم أكن أعي ما يقول، وعندما رآني أردُّ عليه بكلمة «صحيح» أكثر من مرة بما لا يتناسب مع حديثه، وأحيانًا يكون قد طرح عليّ سؤالًا، علم أنني لستُ معه فـي هذه اللحظة وأني فـي زمن غير زماني، فصمت. أما أنا فما كان لي أن أفوِّت فرصة كهذه؛ لذا واصلتُ متابعة الواقعة بتفاصيلها. التقطت ابنة السيدة سالمة عصا الإمام وحاولت أن تلحق به فـي المسجد، لكن الرجل كان يرفع الأذان. وعندما ألحَّت البنت على أمها: «ماذا كان يريد منك؟»، ردت الأم: «لا شيء»، لكن الولد قال: «يا أماه؛ كان يريد منك شيئًا، كرّر لك كلمة الله كثيرًا». مسحت إميلي رويته (السيدة سالمة) وجنتيها بكُمَّيْها: «نعم. لقد طلب مني أن أعود إلى الإسلام وألا أبقى على كفري»، ومما قاله لي إنّ أخي السلطان برغش سيضمّني للعائلة من جديد. سألها ولدها: «هل تميلين لذلك؟»، هنا ذهب انتباهي كله لجوابها فلم أعد أرى وأسمع كلَّ ما يدور حولي، إذ ركزتُ على ما ستقول: «لا؛ أبدًا.. أين ذهب عقلك؟! لقد عُمِّدتُ مسيحية. وأنتم أبنائي مسيحيون. أما الإسلام فهو عقيدتي فـي الطفولة، كان له أثرٌ عليَّ، لكنني لا أستطيع العودة». وعندما رأينا مرافقنا فـي انتظارنا، فـي تلك اللحظة عرفنا أننا كنا فـي رحلة بعيدة عميقة الأغوار فـي مجاهل التاريخ الغابر للإمبراطورية العُمانية فـيما خلف البحار، وأنّ علينا الآن أن نترّجل من ظهر التاريخ ونعود للواقع.
فورًا توجهنا إلى المسجد القريب، وهو مسجد الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي لنصلي صلاتَيْ الظهر والعصر. وبالتأكيد لم يكن هناك الإمام الضرير، بل كان هناك رفـيق رحلتنا سليمان يقرأ ما تيسّر له من القرآن. والمسجد صغير ويبعد خطوات فقط عن بيت المتوني، بناه الشيخ ناصر بن أبي نبهان وكان ملازمًا فـيه، وهو الذي عُرف بسعة علمه الذي نهله من أبيه الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، وقد أخذ السيد سعيد بن سلطان الشيخ ناصر معه إلى زنجبار وكان قريبًا منه، وسبقت وفاتُه وفاة السلطان سعيد بتسع سنوات تقريبًا، إذ توفـي عام 1847م، ودفن قرب مسجده وقرب بيت المتوني، وقبره داخل حِمَى إحدى الشركات الآن فـي المكان نفسه، وقد دخلنا الشركة بعد جهد ووقفنا على قبره وقرأنا الفاتحة على روحه.
خطر ببالي -وأنا مع سيف وسليمان فـي رحاب مسجد الشيخ ناصر بن أبي نبهان- ما ذكره الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي؛ قاضي قضاة كينيا، فـي كتابه «البوسعيديون حكام زنجبار» صفحة 89 من أنّ السيد سعيد بن سلطان شعر ذات مرة بالقلق على نجله السيد ثويني الذي كان ينوب عنه فـي عُمان، وكان مستاء من المشاكل التي يتعرّض لها ابنه، وباح السيد سعيد للشيخ ناصر أنه لا يعرف كيف سيتصرف السيد ثويني مع تلك المتاعب؟ فطلب منه الشيخ ناصر أن يكتب خطابًا بما يريد قوله لابنه، وأنه سيُسلِّم هذا الخطاب يدًا بيد للسيد ثويني فـي مسقط، وسيأتيه بالرد يدًا بيدٍ أيضًا. ففعل السيد سعيد ما عرضه عليه الشيخ ناصر. وفـي صباح اليوم التالي تلقى السيد سعيد من الشيخ ناصر خطابًا مرسلًا إليه من السيد ثويني يخبره بالتفصيل عن كلِّ ما يجري فـي عُمان، فاستراح السيد سعيد وزال عنه القلق والاكتئاب.
وسواء وقعت تلك الحادثة أم أنها من نسج خيال المؤرخين، ففـي ظنّي أنّ السيد سعيد لم يأخذ الشيخ ناصر معه إلى زنجبار إلا بسبب هذه الحكايات التي تستعصي على فهم الكثيرين. ويبدو أنّ مكانة الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي كانت عالية عند السيد سعيد؛ ودليلُ ذلك ما ذكره الفارسي فـي كتابه من أنّ الشيخ ناصر عاش مع السيد سعيد فـي المتوني، وعندما فاضت روحه كان رأسُه فـي حِجْر السيد سعيد، وكان عمرُه واحدًا وسبعين عامًا يوم وفاته.
تركنا مسجد الشيخ أبي نبهان بعد يوم حافل، وذهبنا إلى مطعم لنغذي بطوننا بعد أن غذينا عقولنا بالتاريخ والدين. وكم كانت فرحتي كبيرة فـي هذا اليوم، خاصة بعد زيارتي لبيت المتوني الذي كنتُ أعرف تفاصيله وتفاصيل حياة ساكنيه بدقة، ولم يكن ينقص كلّ ذلك إلا المشاهدة بالعين، وما تلا ذلك من لقاء السيد سعيد شخصيًّا وابنته السيدة سالمة فـي ظاهرة لن تتكرر بعد ذلك، إلا فـي خيالي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السیدة سالمة مسجد الشیخ
إقرأ أيضاً:
بلدي مسقط يستعرض مبادرات التشغيل وسوق السيارات المستعملة
عقد المجلس البلدي لمحافظة مسقط اجتماعا برئاسة معالي السيد سعود بن هلال البوسعيدي محافظ مسقط استعرض خلاله بيانًا من مدينة خزائن الاقتصادية بشأن سوق السيارات المستعملة.
وأكدت مدينة خزائن في بيانها أن المشروع يُمثل استجابة عملية لتحديات الواقع الراهن المتمثل في التوزيع المجزأ للمعارض، وتباعد مواقعها دون تنسيق عمراني شامل، مشيرة إلى أن المشروع سيسهم في تنظيم السوق، وتمكين رواد الأعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة من الولوج إلى بيئة تجارية محفّزة، وخفض الكلفة على البائعين والمستهلكين، إلى جانب ما يوفره من مزايا نوعية للمستهلكين، وتحسين كفاءة العمليات، واستقطاب الاستثمارات المحلية والدولية.
كما اطّلع المجلس على بيان البرنامج الوطني للتشغيل الذي يُعد إحدى المبادرات الاستراتيجية الهادفة إلى توفير فرص عمل للمواطنين.
وصادق المجلس على محضر اجتماعه السابق، وما تضمنه من توصيات بشأن بيان وزارة الإسكان والتخطيط العمراني حول المخطط الهيكلي لمشروع مسقط الكبرى، وما يرتبط به من أبعاد تنظيمية وتنموية تهدف إلى تطوير النطاق الحضري للمحافظة، وتعزيز كفاءته التخطيطية على المدى البعيد. وقد أكد المجلس في هذا السياق أهمية الشراكة المؤسسية المستمرة بين الجهات المعنية في تنفيذ المشاريع الكبرى ذات الطابع الاستراتيجي، لا سيما تلك المتصلة بمستهدفات المدن الذكية والمستدامة.
واستعرض المجلس توصيات لجنة الشؤون الاجتماعية بشأن الجمعية العمانية لمتلازمة داون؛ حيث جرى التأكيد على أهمية استمرارية العمل المؤسسي التكاملي، وتوفير التسهيلات الداعمة لاستقرار الخدمات المقدمة، وضرورة التنسيق مع الجهات ذات العلاقة؛ لتعزيز فاعلية البرامج الحالية، وتخفيف الأعباء التشغيلية التي قد تعيق استمرار الأنشطة المجتمعية المتخصصة.
كما استعرض المجلس عددًا من الخطابات الواردة من الجهات المختصة، تناولت موضوعات تتصل بالجوانب التخطيطية والتنظيمية، منها مقترحات لاستحداث استخدامات عمرانية جديدة، وتنظيم أنشطة خدمية في المراكز التجارية، إلى جانب مراجعة ضوابط عقود الإيجار في المحلات الواقعة ضمن المباني السكنية؛ سعيًا لتحقيق مواءمة حضرية تستجيب لمتغيرات الواقع، وتعزز من جودة التخطيط العمراني في المحافظة.