شهد الأسبوع الماضي مشهدين متوازيين في خارطة الأحداث الشرق أوسطية. الأول تمثّل في جولة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى ثلاث دول خليجية، خرج منها باتفاقيات استثمارية وصناعية وعسكرية وُصفت بأنها «تاريخية»، تتجاوز قيمتها تريليونات الدولارات. والثاني في قمة عربية عقدت ببغداد، أعادت تكرار المواقف المبدئية تجاه القضية الفلسطينية، من دون أن تُحرّك هذا المبدأ في اتجاه أي أثر عملي، أو مقاربة ملموسة لما يحدث في غزة.

وبين هذين الحدثين، كانت المجازر في قطاع غزة تتواصل على نحو يصعب حتى على داعمي إسرائيل في الغرب الدفاع عنه، أو إيجاد تبرير له، في ظل انعدام كامل لأي مكسب سياسي يمكن أن يكون غطاء لهذه الإبادة الوحشية. ومع هذه الدموية، لم تكن غزة، بكل موتها وتجويعها ودمارها، حاضرة في جدول الصفقات المليارية، ولا حتى على هامشها، ولو على مستوى الإدانات الرمزية التي تقتضيها المجاملة السياسية. وتلك المفارقة وحدها تكشف بجلاء حجم التراجع الذي باتت تشهده مكانة القضية الفلسطينية، حتى في أكثر المحافل ارتباطا بالمنطقة وأمنها واستقرارها.

استراتيجية «الصفقات أولا» ليست جديدة على السياسة الأمريكية، لكنها باتت أكثر تجليا وحدّة في عهد ترامب، الذي يربط بين السياسة والمال بوضوح لا يقبل التأويل. وما أن دُشّنت جولته الخارجية بزيارات لثلاث عواصم خليجية، حتى أُعلن عن سلسلة من العقود الاستثمارية الضخمة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والدفاع، بما يعيد رسم صورة العلاقة التقليدية بين الولايات المتحدة والمنطقة على أسس «رأسمالية سياسية» واضحة.

من منظور العلاقات الدولية، هذه العلاقات تعيد إنتاج معادلة «الأمن مقابل الرأسمال»، إذ تُمنح واشنطن مساحة واسعة لتعزيز نفوذها الاقتصادي والتكنولوجي، مقابل استمرار التزاماتها الأمنية تجاه حلفائها. لكن مثل هذه المعادلة، برغم استقرارها الظاهري، تُخفي في جوهرها اختلالا في موازين التأثير، إذ يبقى هامش القرار السياسي الإقليمي مرتهنا برضا المظلة الأمنية، ولو كان الثمن هو السكوت عن مأساة إنسانية من طراز ما يحدث في غزة.

أما القمة العربية التي عقدت في بغداد، فقد جاءت بوصفها اختبارا لمفهوم «التضامن العربي» في لحظة لا تحتمل الترف اللغوي الذي يشتهر به العرب خاصة في مثل هذه المناسبات الخطابية. لكن البيان الختامي الصادر عنها لم يختلف كثيرا عمّا سبقها من بيانات: لغة خطابية مألوفة، ومطالب موجهة إلى المجتمع الدولي، دون أن يتضمن البيان آليات واضحة للتحرك، أو التزامات مالية أو سياسية قابلة للقياس. وبذلك فشلت القمة في تقديم الحد الأدنى من الرد العملي على حجم الكارثة المتواصلة في غزة، والتي تجاوزت بمراحل حدود الحرب، إلى ما يصفه الحقوقيون وبعض مؤسسات المجتمع الدولي «بالإبادة الممنهجة».

المعضلة هنا تتجاوز فقر البيان السياسي الصادر عن القمة، إلى خلل أعمق في قدرة النظام العربي الرسمي على تحويل الشعارات إلى أدوات فعل: فالانقسامات البينية، والتباينات في الأولويات، ومحدودية الإرادة المشتركة، كلّها جعلت من القمم محطات رمزية أكثر منها منصات فاعلة. في حين أن الواقع على الأرض يتطلب أدوات ضاغطة تتجاوز الشكل إلى جوهر الفعل.

في موازاة هذه الصور الرسمية، كان المشهد في غزة يتفاقم. القصف لا يهدأ، المجاعة تتسع، والماء والدواء مفقودان، فيما يتراكم في سجلات الأمم المتحدة رقم تلو رقم في عدّاد القتلى والجرحى والمفقودين. وحتى اللحظة، لا يبدو أن إسرائيل تسعى إلى تحقيق أي هدف سياسي واضح من هذه الحرب. بل يبدو أن القتل أصبح هدفا بحد ذاته، مبررا فقط بمنطق أمن استيطاني يرى في كل الفلسطينيين تهديدا، حتى الأطفال منهم.

المثير للقلق أن هذا القتل لا يجد من يوقفه أو حتى ينتقده بشكل محرج لإسرائيل. فالمجتمع الدولي منشغل، والمنظمات الحقوقية غير قادرة على تفعيل أدوات ردع مؤسسية، والمحكمة الجنائية الدولية عاجزة أمام استخدام «الفيتو» المتكرر. الأسوأ من ذلك أن القيم التي بُنيت عليها الديمقراطيات الغربية ـ حرية الإنسان، وكرامته، وحقه في الحياة ـتُختبر أمام أعين الجميع، وتسقط حين يتعلق الأمر بفلسطينيّ محاصر، أو طفل تحت الركام، أو حتى حين يرى العالم آباءً يُودّعون أشلاء أطفالهم بأيد خاوية، في مشهد مؤلم يختزل فشل السياسة وانهيار الإنسانية.

وما لم يُطرح السؤال الكبير حول جدوى كل هذه القمم والصفقات إذا كانت لا تتسع حتى لذكر غزة، فإن الفجوة بين الشعوب العربية وحكوماتهم ستتسع كثيرا، ويتهدد الخطاب السياسي العربي بفقدان آخر ما تبقى له من مصداقية. إذ كيف يمكن الحديث عن «الالتزام بقيم العدالة» بينما تغيب هذه القيم تماما عن أولويات العلاقات الدولية؟ وكيف يمكن إقناع الرأي العام العربي بأن هناك فعلا «قضية مركزية»، بينما لا تستخدم هذه الدول قوة صفقاتها ورساميلها الضخمة في الضغط من أجل وقف الإبادة في غزة أو على أقل تقدير إدخال قطرة ماء وكسرة خبز لأطفال يموتونا جوعا!!

إن ترك القضية الفلسطينية لمصيرها ليس فقط تخليا أخلاقيا، ولكنه خطأ استراتيجي. فكل تراجع في الحضور السياسي للقضية سيُملأ مع الوقت بخطابات أكثر حدة، وربما بأدوات ميدانية لا تُبقي ولا تذر. وكل صفقة تُوقَّع دون شرط سياسي واضح، تُشكل رصيدا إضافيا في بنك الإبادة الصامتة، وتؤسس لواقع أخطر مما يبدو على الشاشات.

لقد كشفت أحداث الأسبوع الماضي أن المنطقة تعيد تعريف أولوياتها على نحو لا يتسق مع ميثاقها الأخلاقي. فبينما تُضخ المليارات في عقود الصناعة والدفاع، لا تملك القمم سوى لغة البيانات. وبينما تُوقع التفاهمات على «شراكات المستقبل»، يُترك أطفال غزة ليدفنوا جوعا تحت ركام المستشفيات.

وإذا كان من درس يجب أن يُفهم من هذه اللحظة التاريخية، فهو أن استقرار المنطقة لا يمكن أن يُبنى على موت أهلها، ولا يمكن لازدهار حقيقي أن يزدهر فوق ركام الدم.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی غزة

إقرأ أيضاً:

ترامب: كان يمكن القضاء على داعش في ثلاثة أسابيع فقط

أفادت قناة "القاهرة الإخبارية" في نبأ عاجل عن "ترامب" أنه كان يمكن القضاء على داعش في ثلاثة أسابيع فقط.

ترامب: تخصيص تريليون دولار لوزارة الدفاع من الموازنة العامة للدولةترامب: وقعنا بالأمس اتفاقية مع قطر لتدبير بعض الاحتياجات العسكريةبث مباشر.. كلمة ترامب خلال زيارته قاعدة العديد العسكرية في قطرترامب: تخصيص تريليون دولار لدعم مهام الجيش الأمريكي

وأوضح دونالد ترامب، أنه لا يبدأ الصراعات، وأنه يحب العمل، وأن بلاده ليدها شركات كبيرة مع دول كثيرة.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال زيارته لقاعدة “العديد” العسكرية على هامش زيارته لقطر، أن وقعنا بالأمس اتفاقية مع قطر لتدبير بعض الاحتياجات العسكرية.

وأوضح أنه يحب العمل، وأن هناك انتصارات كثيرة تم تحقيقها، ونحن الآن أقوى من الماضي، وأن هناك إنجازات اقتصادية تم تحقيقها.

وتابع هناك 10 تريليون استثمارات في الداخل الأمريكي، والفترة المقبلة سيتم الإعلان عن استثمارات جديدة.

وشدد الرئيس الأمريكي في تصريحات له على أن الإدارة الأمريكية السابقة لم تحصل على نصف تريليون دولار استثمارات في 4 سنوات.

وأعرب ترامب عن آماله في أن لا يجبر على اتخاذ المسار الثاني حيال إيران؛ مشيرا إلى أن واشنطن تقوم بتحديث أسطول الطائرات، وكشف الرئيس الأمريكي أن بلاده تعمل على تصنيع الطائرة أف 55.

وكان ترامب في وقت سابق من اليوم؛ أكد التزام واشنطن بحماية منطقة الشرق الأوسط، حيث قال: “سنحمي منطقة الشرق الأوسط، ونؤمن بالسلام عبر القوة ونريد أن ننجح في المفاوضات مع إيران”.

وأضاف الرئيس الأمريكي: “لا يمكن لإيران امتلاك سلاح نووي، حيث نخوض مفاوضات مع إيران لتحقيق سلام مستدام، ونريد أن ننجح في المفاوضات مع إيران، وأعتقد أننا قريبون من التوصل لاتفاق”.

وأكد الرئيس الأمريكي  قائلا: “نريد لإيران أن تكون دولة كبيرة لكن لا يمكنها امتلاك سلاح نووي”.

وتابع: “أمير قطر رجل رائع وقائد كبير ولدينا في هذه المنطقة مواهب قيادية”.

واستكمل الرئيس الأمريكي: “أعتقد أن الرئيس السوري شخص قوي وسنرى ما سيحصل بعد رفع العقوبات”.

وزاد: “نحن نصنع أفضل أنظمة التسليح في العالم والطائرات المسيرة باتت تلعب دورا مهما في النزاعات، ورأينا ذلك بأوكرانيا”.

وختم ترامب تصريحاته بالقول: “بايدن أهدر الكثير من الأموال”.

طباعة شارك ترامب داعش القاهرة الإخبارية

مقالات مشابهة

  • قمة بغداد تعلن دعمها لوحدة اليمن والحل السياسي الشامل
  • رئيس وزراء إسبانيا: ما يحدث في غزة والضفة الغربية لا يمكن غض الطرف عنه
  • الشرع وترامب وإيران: ثلاثية الغياب الحاضر في بغداد
  • ترامب: سألتقي بوتين بأسرع ما يمكن والعالم سيصبح أكثر أمانا بعد أسابيع
  • كيف يمكن قراءة غياب السيسي عن قمة ترامب الخليجية؟
  • كيف يمكن قراءة غياب السيسي أو تغييبه عن قمة ترامب الخليجية؟
  • ترقب لبناني لانعكاسات جولة ترامب وقمة الرياض.. اورتاغوس: طريق السلام بنزع سلاح الحزب من كل لبنان
  • الدفاع النيابية: أمن المنطقة على المحك وقمة بغداد تحمل رسائل محلية وإقليمية
  • ترامب: كان يمكن القضاء على داعش في ثلاثة أسابيع فقط