سودانايل:
2025-05-29@07:46:09 GMT

الخرطوم بين عنف البادية وغفلة الساسة!

تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT

بقلم: حسن أبو زينب عمر


عدسات الكاميرا التي تسللت رغم قلتها على العاصمة المثلثة نقلت للعالم ملامح من البشاعات لا تقل ضراوة من فظاعات هيروشيما ونجازاكي بعد أن انقض عليها الطيار الأمريكي (بول تيبيتس) بطائرته بي 29 .. هيروشيما في صبيحة السادس من أغسطس 1945 ونجازاكي في التاسع من الشهر وتركهما قاعا صفصفا ورمادا تذروه الرياح وذلك بموجب أمر تنفيذي صادر من الرئيس الأمريكي وقتها هاري ترومان .

.وقتها قال عالم الفيزياء الشهير (البرت انشتاين) وفى نبرة تقطر ندما وحسرة لزميله (روبرت أوبنهايمر) الذي صنع القنبلة الذرية (الآن جاء دورك لمواجهة عاقبة انجازك فماذا أنت فاعل وماذا أنت قائل ) .
(2)
بعكس الحال هنا وهناك ما بين اعلام يتثائب وعالم يتفرج فقد أوشكت أن تضيع معالم الكارثة فالخرطوم التي سطا عليها اللصوص صنيعة البشير وتربية البرهان في ذلك اليوم الأغبر لم يكتفوا بقلع نوافذ وأبواب بيوتها بل حفروا الأعماق بحثا عن نحاس (كيبلات خطوط الكهرباء) ولم يتركوها الا خرابات لا تصلح حتى لنعيق طائر البوم ومع ذلك لم تجد لها بواكي من العالم الخارجي يشق لها الجيوب ويلطم لها الخدود حتى بعد بيع السفلة والقتلة وتجار الحروب تاريخها وتراثها النادر الذي نهبوه من المتاحف في المزادات السرية بتراب (الأرض) . وهاهم أهلها وقد صفعتم الفاجعة وأعياهم النزوح مشردون تائهون في فجاج الأرض وقد أثقل كاهلهم عذابات اللجوء في المنافي ولكن الرحيم الرحمن الحنان المنان لطف بقممهم السامقة محمد أحمد محجوب ومنصور خالد وعبد الله الطيب والروائي العالمي الطيب صالح ووردي والكابلي وود الأمين وآخرون في كل مجالات المعارف أنهم غادروا الفانية قبل الاعصار.
(3)
كان بوسع الاعلام السوداني أن يخرج من الغوغائية ويستثمر الفظاعات التي تشيب لها رؤوس الأجنة في أرحام النساء لصناعة راي عام عالمي يتعاطف ويستنكر على أضعف الايمان ويطالب بمحاكمة الجناة ولكن وحاسرتاه فقد سجلت الجريمة ضد مجهول وأرخيت الستارة. فلا شيء مثل الجن بالليمون في زمن الحروب وأجمل الأثداء في اللمس المليء المستدير كما يقول نزار قباني.
(4)
بالطبع فان الخرطوم التي يكللها الخراب والدمار الآن ليست الخرطوم (ﺍﻟﻼﺀﺍﺕ ﺍﻟﺜﻼﺙ) بعد نكسة حزيران 1967 ليس لأنها ﺍﺣﺘﻀﻨﺖ أﻫﻢ وأﺧﻄﺮﻣﺆﺗﻤﺮ قمة عربي فحسب لأن الذي زارها وقتها لم يكن ينتمي لأبالة آل دقلو بل كان ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﻭ ﺍﻟﻤﺴﺮﺣﻲ ﻭﺭﺍﺋﺪ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻟﺤﺮ ﺍﻟﻘﺎﻣﺔ ( ﺻﻼﺡ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺼﺒﻮﺭ ) وﻛﺎﻥ وقتها ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺿور للمؤتمر فأخذ بلبه سحر ﻣﻠﺘﻘﻲ ﺍﻟﻨﻴﻠﻴﻦ في المقرن فتغزل بها يقول
(5)
ﻳﺎ ﻗﺪﺭﺍﻥ ﻓﻲ ﻣﺠﺮﻯ
ﺗﺒﺎﺭﻙ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺠﺮﻱ
ﻓﻴﻤﻨﺎﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻴﺴﺮﻯ
ﻭﻳﺴﺮﺍﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺧﺮﻱ
ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻷﺯﺭﻕ ﺍﻟﻌﺎﺗﻲ
ﺗﺪﻓﻖ ﺧﺎﻟﺪﺍ ﺣﺮﺍ
ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻷﺑﻴﺾ ﺍﻟﻬﺎﺩﻱ
ﻳﻀﻢ ﺍﻷﺯﺭﻕ ﺍﻟﺼﺪﺭﺍ
ﻻ ﺍﻧﻔﺼﻼ ﻭﻻ ﺍﻧﺤﺴﺮﺍ
ﻭﻻ ﺃﺧﺘﻠﻔﺎ ﻭﻻ ﺍﺷﺘﺠﺮﺍ
ﻭﻻ ﻫﺬﻯ ﻭﻻ ﺗﻠﻚ
ﻭﻻ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ
ﺗﺴﺎﻭﻯ ﻣﻠﺘﻘﻰ ﺍﻟﻨﻴﻠﻴﻦ
ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﻳﺎ ﺳﻤﺮﺍ
(6)
ولكن لأن الخرطوم لم تكن يومًا مجرد نقطة على خارطة الجغرافيا، بل كانت وما زالت نُقطة التقاء الروح بالزمان والمكان والإرادة. بل ملتقى ذاكرة تُنسج من الماء والتراب، من الحنين والصبر، من المروءة والمكرمات فقد افتتن بجمالها أيضا الشاعر إبراهيم رجب وإبراهيم رجب لم يكن ينحدر من حثالة همج عرب شتات أفريقيا. بل لم يكن سودانيا كما يعتقد الكثيرون فهو شاعر مصري يقال انه كان يعمل ضمن البعثة المصرية للتعليم سكنت الخرطوم في وجدانه وسرت في دمه (جنة رضوان) ..هام بها وجدا فكلل عنقها بالرياحين وورد الخزامى وكتب ما يحسده عليه ابن البلد
(7)
يا حليلك وحليل ايامك على ليالي زمان
طول عمري ما شفت مثالك في أي مكان
وقلبي عايش لي غرامك ما بعد غرام
كانت ايام يا وطني زي الأحلام يا وطني
بتذكر فيك عهد صبايا على شاطئ النيل
حبيبي جالس حدايا أسمر وجميل
انا بفخر بيك يا وطني بالروح افديك يا وطني
(8)
كانت الخرطوم التي انتهك حرمتها وبال على رأسها وذبحها من الوريد الى الوريد السفلة والقتلة عاصمة الثقافة العربية بجدارة واستحقاق فبقدر ما تعلق قلوب الأجانب بالسودان وتغنوا له فان ملوك الطرب في بلدنا حلقوا كالنحل يقتاتون من ورد الابداع العربي وها هو بحر الشعر الغنائي السوداني مليء بالدرر والأصداف الجميلة. وفي محاولة منهم للتميز وتقديم الأفضل، تغنى الفنانون السودانيون بأغنيات لشعراء عرب قدامى ومحدثين بدءاً بالشاعر الوطني والمغني الوطني خليل فرح، وفضل المولى زنقار صاحب أغنية (سوداني الجوا وجداني) و(من بف نفسك يا القطار) فقد تغنى برائعة الياس فرحات (عروس الروض) .. ولكن يظل الكابلي من أكثر الفنانين الذين حظوا برصيد كبير من قصائد الشعراء العرب، فقد تغنى لأبى فراس الحمداني والمتنبي وأبي نواس وللعقاد (شذى زهر) وتغنى للشاعر نزار قباني الفنانان محمد الأمين (طائشة الضفائر) وحمد الريح (حبيبتي إن يسألوك يوماً فلا تفكري كثيراً) فيما تغنى الفنان عبد العزيز أبو داؤود (هل أنت معي) للشاعر المصري محمد أحمد علي، وتغنى سيد خليفة لشعراء مصريين بجانب (بلد أحبابي) وسمرا و(حلم الصبا)
من انت يا حلم الصبا
من انت يا أمل الشباب


فيما تغنى الثنائي الوطني بقصيدة أمة الأمجاد) للشاعر المصري مصطفى عبد الرحمن
(9)
من أوائل الذين مهدوا الطريق للتغني لشعراء عرب الشاعر والمغني والملحن خليل فرح فقد غنى قصيدة الشاعر العربي الغزلي المعروف عمر ابن أبي ربيعة
أعبده ما ينسى مودتك القلب ولا هو يسليه رخاء ولا كر
ولا قول واش كاشح ذي عداوة ولا بعد دار أن نأيت ولا قرب.
وتغنى عبد الدافع عثمان برائعة للشاعر اليمني أحمد با كثير
ان رأيت الصبح يهدي لك سحره
فأذكريني وأذكري يوم البحيرة
يوم أقبلت وفي يمناك زهرة
قد حكت في وجهك الصباح ثغره
(10)
ولكن تظل دائما كلمات من شعر محمد محمد على ومحمد أحمد محجوب وادريس جماع مكتوبة بأحرف من ذهب لا تصدأ ويظل بريقها يلمع وتتغنى بها الأجيال ضمن إبداعات من عيون الشعر السوداني فقد صدح عبد العزيز مجمد داؤود من كلمات محمد محمد علي
همسات من ضمير الغيب تشجي مسمعي
وخيالات الأماني رفرفت في مضجعي
وأنا بين ظنوني وخيالي لا أعي
عربدت بي هاجسات الشوق إذ طال النوى
وتوالت ذكرياتي عطرات بالهوى
كان لي في عالم الماضي غرام وأنطوي
كان لي في الأمس أحلام وشوق وحبيب
كان للجرح طبيب لا يدانيه طبيب
كان ما كان وبتنا كلنا ناء غريب
(11)
ومن حق الفنان محمد عبده (عندليب الخليج) أن يرتاح في بستان ادريس جماع بعد عناء طويل من الترحال ليصدح بكلماته
آنست فيك قداسة ولمست اشراقا وفنا
ونظرت في عينيك آفاقا وأسرارا ومعنى
اما المحجوب فقد أنتصر له الكاتب والأديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي فقال ان مشاعر رئيس وزراء السودان الشاعر الأديب السياسي المحامي المهندس هاجت في زيارة لأسبانيا فهاجمته ذكريات الأمجاد العربية التي غربت شمسها بعد تسليم عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس الذي لقبه العرب بالمشؤوم مفاتيح غرناطة بعيون دامعة لفيرناندو وزوجته ايزابيلا فكتب رائعته (الفردوس المفقود) يقول
نزلت شطك بعد البيد ولهانا
وذقت فيك من التبريح ألوانا
وسرت فيك غريبا ظل سامره
دارا وشوقا وأحبابا وأخوانا
فلا اللسان لسان العرب نعرفه
ولا الزمان كما كنا وماكانا
لهفي على القدس في البيداء دامية
نفديك يا قدس ارواحا وأبدانا



oabuzinap@gmail.com

 

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

أمريكا والحرب

قال عبد الرحيم دقلو، لعمد ومشايخ الإدارات الأهلية بشرق دارفور (دقتو حلوها و اليوم أكلوا مُرها ) و يعني الحرب و التي نالوا حلوها من منهوبات الخرطوم .

بعد التهديد فرض عليهم دفع إتاوات لقوات الدعم السريع حددها ، الفلاتة 500، بقرة الترجم 250، القمر 800 جركانة زيت، و جوال دخن من كل عمدة 30 من المطلوبات من مناطقهم و هي أربعين منطقة ثم فرض علي كاس ألف بقرة و ألف جوال دخن.

في اليوم التالي أعلن رئيس الإدارة الأهلية بشرق دارفور، محمد إدريس خاطر التعبئة العامة و إستنفار الشباب في الولاية.
سبق أن قامت سلطات التمرد في نيالا و الضعين بحفر خنادق حولهما.

هذه التحركات تأتي عقب الهزائم المتكررة التي مني بها التمرد في كردفان و بعد أن فقد العديد من كبار القادة منذ بداية الحرب .

منهم علي يعقوب و جمعة بارك الله و عبد الله حسين و سبقهم جلحة و قرن شطة و البيشي و الطاهر جاه الله و آخرهم سليمان صليب الديك في أبوزبد .

قوات التمرد فقدت الكثير منذ طردهم من الصالحة و التي هرب منها بقال و هو يصرخ (32 نفر لابسين شالات سكوا سبعمية عربية) .

اليوم لم يتبق للتمرد مَن يقود له حربه الحالية في كردفان و المنتظرة في دارفور، إلا القادة الفاشلون و الهاربون من معارك الخرطوم و كردفان مثل قجة الهارب من الخرطوم و حسين برشم مدمن الهروب من المعارك و (العريد) و إدريس حسن من أهل دقلو و قائد قواتهم في شرق النيل و الهارب من قيادته و البيت المنهوب الذي كان يحتله و يسكنه في كافوري.

قوات منهزمة تضج وسائطها بأحاديث الإنسحابات غير المدروسة و الهزائم المتكررة التي يعكسها صراخهم و هم يشكون الخيانة و (بيع القضية) مثل ما صرح به عيسي موسي ود ابوك و هو يقول: (أكثر قيادات الأشاوس في كردفان كيكلاب و الله و تجار و إنتهازية و عندهم خطوط مع كيزان المسيرية).

الهزيمة القادمة التي تنتظرهم في عقر دار التمرد بعد هزائم كردفان دفعت الولايات المتحدة لإتباع ذات النهج الخبيث الذي تسعي من خلاله لنجدتهم و إنقاذهم فقد لجأت للإتهام بقضايا فطيرة مثل القول بإستخدام القوات المسلحة للأسلحة الكيماوية.

تدخل الولايات المتحدة ليس له مسوغ قانوني إذ تدين النظم الدولية التدخل الأحادي في النزاعات و تعتبره مهدداً لحقوق الدول و الأفراد .. و هي تفعل ذلك في شأن إتفاق دولي تحكمه نظمه و ينفذ عقوباته عبر مجلس الأمن الدولي و ليس الدول.

الولايات المتحدة لم تعد ذات الدولة التي يعتد بموقفها بعد أن تحولت لنهاب دولي ينزع رئيسها الأموال من الدول بعد أن يذل قادتها كما جرى مع رئيس أوكرانيا بينما تهرب من مواجهة الأقوياء مثلما حدث لها من كندا و الصين.

نكصت أمريكا عن مسعاها لتحرير الفاشر من الحصار بعد ان تحركت القوات المسلحة لفك حصارها .
القوات المسلحة أدارت الحرب و قادت المعارك بخطط مميزة و قوات شجاعة و تأييد شعبي كبير و من خلال مواقف وطنية رائعة و لن تتوقف قبل أن تفي بوعدها بتحرير كل السودان من قوات أسرة دقلو .

راشد عبد الرحيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الملك يزور مشروع الجفر للاستزراع السمكي في البادية الجنوبية
  • وزارة الصحة تتلقى إحاطة شاملة بالموقف الوبائي للكوليرا بالخرطوم
  • تفاصيل ترحيل الأجانب المقيمين بصورة غير شرعية لخارج الخرطوم
  • قراءة في ،،،، خطّة المليشيا للسيطرة على العاصمة
  • أطباء بلا حدود : الكوليرا تنتشر بصورة كبيرة في ولاية الخرطوم
  • امدرمان !! من لم يمت بالسلاح !! مات بغيره وبالكيماوي!!
  • فاتن حمامة.. سيدة الشاشة التي صنعت مجد السينما المصرية وقلوب الجماهير لا تزال تنبض باسمها
  • أمريكا والحرب
  • طريقه مرسوم ، هدفه معلوم ، تطهيراً للأرض من الفاشر حتى العاصمة الخرطوم