الاسـتـشـراق بـوصـفـه امتـيـازا مـعـرفـيّـا
تاريخ النشر: 28th, May 2025 GMT
مـر على الاستـشـراق حـيـن من الـدهـر تـمـتـع فيـه بمكانـة معـتـبـرة مـنـحـتـه مـقـدارا مـا من الامتـيـاز المعـرفـي، في المعرفـة الغـربـيـة الحديثـة والمعاصرة، استحصل له مـنـه قـدر من الاعـتراف في الأوسـاط الأكاديـمـيـة الأوروبـيـة والأمـريـكــيـة. امتـد ذلك الـتـقـديـر طـوال القـرن التـاسع عشر والنـصـف الأول من القـرن العشرين قبل أن تـشـرع مـكـانـة الاستـشـراق العـلميـة في التـراجـع، ثـم في التـضاؤل والاضمحـلال إلى حـدود الزوال؛ أي قبل أن تـزاحمـه، ابـتـداء، «مـعارف» جـديدة ضحـلة عـن مجتمعات الشـرق وثـقافـاتـها وتـتـخطاه، ثـانيـة، وارثـة أدواره التي كـانت لـه في الحيـاة العـلـميـة.
لا نـقـصـد بالامتيـاز المـعـرفـي مـا كـان للاستـشـراق والمستـشـرقيـن مـن مـكانـةٍ معـتـبـرة في الـدول ودوائـرِ الـقـرار ومـؤسسـات الخارجيـة والـدفـاع، وسـياسـاتـها العامـة تجـاه بـلـدان الشـرق، سـواء في الحـقـبـة الاسـتعـماريـة أو بـعـدها؛ إذ لا يـقـاس رأسمـال الاستـشـراق العـلـمي بـمواقـف الـدول والحـكـومات منـه، ولا تعـلو أسـهـمـه بالتـناسـب مع عـلـوِ التـقـديـر السـياسـي الرسـمـي لـه؛ إذ هـو معـرفـة، في المـقـام الأول، قبل أن يكـون دورا.
صحيح أن رِفـعـة مـعـارفـه وسـموق مسـتـواهـا هـو ما شـد انـتـبـاه المـؤسـسـة الكـولـونيـاليـة إليـه، ودفـعـهـا إلى تـسـخيـر بـرامـجـه ومـعـارفـه في سـياسـاتـها في الشـرق الآسـيـوي والعـربـي- الإسـلامـي، غير أن وزن القـيـمـة العـلميـة لمنـتـوجـه لا يكـون بمـوازيـن السـياسـة، بـل بـمـوازيـن المعـرفـة؛ والموازيـن هـذه ليست في حـوزة رجـالات السـياسـة والـديـبـلوماسيـة والأمـن القـومـي، ولا هـم يـعـرفـون إليها طـريـقا، وإنـما هـي مـن مـتـاحـات العلـمـاء والباحثـيـن الـذيـن وحـدهـم يمـلـكـون أن يـزِنـوا تلك القيـمـة في مـكايـيـلـهم، وقـد يكـون غيـر المسـتـشـرقيـن منـهـم أكـثـر إِقـسـاطـا في الوزن وأقـل تطـفـيـفـا للمـكايـيـل من المنـتـميـن إلى حـركـة الاستـشـراق. إلى هـذا يـضاف أن معـنى القيـمـة، عـنـد السيـاسيـيـن، يخـتـلف في مثـل هـذه الحال عـن معـنـاها عند الـدارسيـن؛ وبـيـان ذلك أن الاستـشـراق لا يـكـون مطلـوبـا مـن السـياسـيـيـن، دائـمـا، لمـوضوعـيـةِ ما يـقـدمـه مـن معـارف بـل هـو يـطـلـب، في الأغـلـب، لـخـدمـة مصالـح تـفـرض (أي الخدمـة) ركـوب كـلِ مـركـب وتـوسـل كـل طـريـقة مـن دون حسـابٍ لأي مبـدأٍ مـعـرفـي.
تـبـدى ذلك الامتـيـاز المـعـرفـي - الذي اعـتـرف بـه مـن لـدن زمـلاء المستـشـرقـيـن مـن غير المتخـصـصـيـن في الـدراسات الشـرقـيـة - في صـور ثـلاثٍ مـنـه متـرابـطـة:
أولاهـا في صـورة إلـمام مـعـرفـي بالشـرق ومـجتـمعـاتـه يـكـاد أن يبـلغ درجـة الاحـتكـار المـعـرفـي الحـصـري. ليس مـن فـئـةٍ عـلـميـة، في مجتـمـعات الغـرب وبيـئـاتـها الأكـاديـميـة، تمـلـك معـرفـة عميـقـة ودقيـقـة عن بـلـدان الشـرق سـوى فئـة المستـشـرقـيـن. يـسلـم الجميـع بهـذه الحقيـقة حتى مـن يـنـفسـون على المستـشـرقـيـن عِـلمـهـم مـن غير المتـخـصـصيـن؛ إذِ المعـرفة التي قـدمـوها مـا كـانت متـاحـة في بـلدان الغـرب لـولاهـم، خاصـة وأنـها تـتـنـاول أدق دقـائـق تـاريـخ مجـتـمـعـات الشـرق، قـديـمـا وحـديـثـا، وتـراثِـهـا الـديـني والثـقـافـي.
وليس شـأنـا يـسـيـرا أن تـكـون تلك المعـرفـة، في بـعض أطـوارها، أعـمـق وأوسـع مـمـا قـدمـتـه النـخـب العـلمـيـة في بـلـدان الشـرق عن مجـتـمعاتـها وحضـارتـها، الأمـر الذي فـرضـها أمـرا عـلـميـا واقـعـا وصـنـع لـها حـجـيـتـها.
وثـانـيـها أنـها مـا كـانت معـرفـة بمـجـتـمـعات الشـرق وحضاراتـها وثـقـافـاتـها وأديـانـها، فـقـط، بـل ومعـرفـة بـلـغـاتـها فـوق ذلك: اللـغـات التي ظـلـت مـجهـولـة في بـلـدان الغـرب وجـامـعـاتـها.
وإِذِ اسـتـطـاع المستـشـرقـون حيـازة لـغـات بـلـدان الشـرق (الهـنـديـة، الصيـنـيـة، العـربـيـة، الفـارسيـة، التـركـيـة، الأورديـة، لـغـة البـهـاسـا، اليابـانـيـة، اللـغـة الداريـة والبـشـتونـيـة الأفـغـانـيـة، السـريـانيـة، العـبـريـة، الآرامـيـة...)، فـقـد احـتـازوا المـفاتـيـح الأساس لـفـك أقـفـال ثـقـافـات الشـرق وقـراءة آثـارهـا مـن أفكـارٍ وآداب ومعـارف: قـديـمـا وحـديـثـا. ويـنـبـغي تـقـديـر قيـمـة هـذا الرأسـمـال الثـميـن (= العِـلـم بـألسـن الشـرق) حـق قـدره. ولا يـدرك ذلك إلا متـى قـارنـا الفـارق بين دارسيـن غـربـيـيـن للشـرق يطـلعـون على تـراثـه متـرجمـا إلى لغـاتـهـم الأوروبـيـة ومسـتـشـرقـيـن متـخـصـصيـن ضـليـعيـن في الإلمـام بألسـن الشـرق، يـتـصـلون بـذلك التـراث اتـصـالا مبـاشـرا ويحـسـنـون قـراءتـه على الوجـه الصحيـح.
وثالـثـها ما يسـمح بـه هـذا المـوقـع القـريب مـن عالـم الشـرق: لـسـانـا واتـصالا، مـن ممـكـنـاتٍ مـعـرفـيـة لـدى المستـشـرقـيـن ليست مـتـاحـة لـغـيـرهـم من الـدارسيـن الغـربـيـيـن. مـن ذلك، مثـلا، مـا يـتيـحـه هـذا المـوقـع مـن إمكانـيـة إنتـاج رؤى مقـارِنـة بيـن الحضـارات والثـقـافـات والخِـبـرات التـاريـخيـة والاجتـمـاعـيـة بيـن عـوالـم مخـتـلفـةٍ ومتـبـايـنـة (بيـن الشـرق والغـرب، وداخـل الشـرق بيـن مـراكـزه الحـضـاريـة المخـتـلـفة).
ومـن الغـنـي عن البـيـان أن المعـرفـة التي يكـون مبـنـاهـا على المقارنـة تكـون أدعـى إلى الدقـة من غيـرهـا، فـضـلا عن أن أحـكـامـها تمـيـل - على الأغـلـب - إلى النـسـبـيـة وعـدم القـطـع وتـتـحـكـم فيـها قيـم مـعرفـيـة نـبـيلـة مـثـل النـزعـة التـفـهـميـة و، أحـيـانـا، أخـلاق الاعـتـراف... وإن كـان هـذا لا يـنـطـبـق، بالضـرورة على المستـشـرقـيـن جميـعـا.
إذا أضفـنـا إلى هـذه العـنـاصـر المـكـوِنـة لذلك الامـتيـاز المـعـرفي أن مـن يتـفـردون بـه من الـدارسيـن الغـربـيـيـن يـقـاسمـون نظـراءهـم - غيـر المستـشـرقـيـن - الانـتـمـاء إلى الثـقـافـة الغـربيـة عـيـنِـها وينـهـلـون قـيـمـها المـعـرفـيـة مثـلـهـم، اجـتـمـعـتِ الأسـبـاب للقـول إن مـركـزهـم العـلـمي كـان مـرمـوقـا ومحـل اعـتـرافٍ حـتـى لـدى مـن أحـفـظـهـم من الـدارسـيـن نجـاح الاستـشـراق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بـلـدان الشـرق
إقرأ أيضاً:
مكتبة الفاتيكان.. صرح تاريخي وإرث معرفي يمتد لقرون
بإرث ثقافي يمتد لأكثر من 500 عام، تواصل مكتبة "الفاتيكان البابوية" أداء دورها كمصدر معرفي ثمين لا غنى عنه للباحثين، بما تضمه من مخطوطات نادرة، وكتب قيمة، إلى جانب عملات وميداليات تعكس تنوع الحضارات والثقافات عبر التاريخ.
وتعد المكتبة واحدة من أقدم المكتبات في العالم، حيث تضم بين رفوفها أكثر من 80 ألف مخطوطة، و300 ألف عملة وميدالية، فضلا عن نحو 150 ألف لوحة وصورة. كما أنها تحتضن نحو مليوني كتاب مطبوع، ما بين قديم وحديث، مما يجعلها مرجعا مهما للمشتغلين بالبحث العلمي.
وتقع المكتبة داخل دولة الفاتيكان، إحدى أصغر دول العالم من حيث المساحة، موفرة للعالم "إرثا عظيما وعميق المعنى"، حسب تصريحات أدلى بها مدير المكتبة الأب ماورو مانتوفاني، لوكالة الأناضول.
وفي وقت سابق من يوليو/تموز الجاري، فتحت المكتبة أبوابها أمام أعضاء رابطة الصحافة الأجنبية في العاصمة الإيطالية روما، وكان من بينهم مراسل وكالة الأناضول.
عند التمعن في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، يتبين أن مساعي الباباوات لإنشاء مكتبة وأرشيف تعود إلى القرن الرابع الميلادي، إلا أن هذه الجهود تعثرت في القرن الـ13، ورغم محاولات الباباوات خلال القرن ذاته لمواصلة تلك الجهود، فإن انتقال مركز البابوية خارج روما لفترة من الزمن، أدى إلى فقدان عدد كبير من الأعمال.
وفي عام 1475، أصدر البابا سيكستوس الرابع مرسوما بتأسيس المكتبة التي باتت تعرف اليوم بـ"مكتبة الفاتيكان البابوية"، لتغدو أحد أبرز المعالم الثقافية والدينية في العالم.
وفي نظرة على المكتبة ومحتوياتها، فإنها تحتضن بين رفوفها الطويلة، التي يبلغ إجمالي طولها نحو 50 كيلومترا، أعمالا قيمة في مجالات متعددة، مثل التاريخ، والحقوق، والفلسفة، والعلوم، واللاهوت، والأدب، بمختلف اللغات.
إعلانوتتوزع مجموعاتها بين أكثر من 80 ألف مخطوطة، و8300 كتاب من حقبة الطباعة الأولى (الإنكونابولا)، فضلا عن 150 من الرسوم والطوابع، و150 ألف صورة فوتوغرافية، بالإضافة إلى مليوني كتاب مطبوع، تتنوع بين ما هو قديم وحديث، وما يزيد على 300 ألف عملة وميدالية.
وتبرز في مقتنيات المكتبة إشارات واضحة لتقاطع الحضارات، إذ تضم وثائق وأعمالا تعكس الحضور العثماني والتركي في التاريخ الثقافي والديني الأوروبي. ومن بين أبرز تلك الكنوز خريطة "نهر النيل" التي رسمها الرحالة العثماني درويش محمد زلي، المعروف باسم "أوليا جلبي"، في القرن الـ17، والتي اقتنتها المكتبة منذ أكثر من 200 عام.
وقد خضعت تلك الخريطة مؤخرا للترميم، وعرضت في بينالي الفنون الإسلامية بمدينة جدة في السعودية، الذي أقيم بين يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2025.
من داخل "قاعة سيستينا" التاريخية، التي تزينها اللوحات الجدارية، أكد مدير مكتبة الفاتيكان البابوية، الأب ماورو مانتوفاني، في تصريح لوكالة الأناضول، أن "المكتبة تحتفظ بإرث عظيم وعميق المعنى، تشكل على مدى قرون طويلة، واليوم تجمعه وتوفره المكتبة للباحثين والمهتمين".
وأوضح مانتوفاني أن المكتبة تولي اهتماما خاصا بعملية الرقمنة لمواكبة متطلبات العصر. وأضاف: "لدينا نحو 80 ألف مخطوطة، وتم تحويل نحو 30 ألفا منها إلى الصيغة الرقمية، وهي متاحة الآن للجميع عبر موقع الإنترنت من خلال صور رقمية".
وحول خريطة "نهر النيل" التي رسمها الرحالة العثماني أوليا جلبي، أوضح الأب ماورو مانتوفاني أن "هذه الوثيقة تعد واحدة من الوثائق المثيرة للاهتمام. وتم ترميمها مؤخرا، وعرضت ضمن معرض نظم في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية".
وعند سؤاله عن عدد الوثائق المتعلقة بتركيا داخل المكتبة، أجاب مانتوفاني: "بصراحة، لا أعرف عدد الوثائق المرتبطة بتركيا بشكل مباشر، ويجب أن أتحقق من ذلك لأن من الصعب تحديد رقم دقيق دون إجراء بحث".
لكنه في المقابل، لفت إلى استضافة المكتبة مؤخرا عدة أكاديميين وباحثين من تركيا، مبينا "عملوا هنا وفي أرشيف الفاتيكان البابوي أكثر من مرة".
وفي السياق ذاته، أوضح مانتوفاني أن المكتبة والأرشيف البابوي مؤسستان شقيقتان، تهدفان إلى "توفير الوثائق المناسبة للأكاديميين بحسب موضوعات أبحاثهم".
واستدرك: "نعلم أن هناك وثائق عديدة تتعلق باللغات القديمة بينها اللغة التركية، وكل ما يرتبط بالأدب التركي هو بلا شك ثمين للغاية".
وأكد أن دستور الفاتيكان يمنح المكتبة "مهمة الحفاظ على هذا الإرث العظيم، وتقديمه لكل من يسعى إلى الحقيقة ونشرها". واختتم قائلا: "من خلال العمل والبحث العلمي، يمكن أن يجتمع الناس من خلفيات ثقافية ودينية مختلفة".
وفيما يتعلق بالصعوبات التي تواجه مكتبة الفاتيكان البابوية في الحفاظ على كنوزها الثقافية، أشار مانتوفاني إلى أن التهديدات البيئية تشكل تحديا دائما "فالظروف البيئية، خصوصا المياه والحرائق، تشكل تهديدا كبيرا للمكتبات".
إعلانوفي ظل هذه التحديات البيئية، اعتبر مانتوفاني أن التهديدات لا تقتصر على هذه العناصر فقط، فقال "هناك أيضا الغبار، والعفن، والحشرات، التي تعيق الحفاظ على الوثائق بالشكل السليم وفي أفضل الظروف".
لكن مانتوفاني لفت إلى أن الخطر لا يقتصر على العوامل الطبيعية فقط، موضحا أن حتى "الإنسان نفسه قد يشكل خطرا، عبر ممارسات السرقة أو الإتلاف أو الإهمال".