مـر على الاستـشـراق حـيـن من الـدهـر تـمـتـع فيـه بمكانـة معـتـبـرة مـنـحـتـه مـقـدارا مـا من الامتـيـاز المعـرفـي، في المعرفـة الغـربـيـة الحديثـة والمعاصرة، استحصل له مـنـه قـدر من الاعـتراف في الأوسـاط الأكاديـمـيـة الأوروبـيـة والأمـريـكــيـة. امتـد ذلك الـتـقـديـر طـوال القـرن التـاسع عشر والنـصـف الأول من القـرن العشرين قبل أن تـشـرع مـكـانـة الاستـشـراق العـلميـة في التـراجـع، ثـم في التـضاؤل والاضمحـلال إلى حـدود الزوال؛ أي قبل أن تـزاحمـه، ابـتـداء، «مـعارف» جـديدة ضحـلة عـن مجتمعات الشـرق وثـقافـاتـها وتـتـخطاه، ثـانيـة، وارثـة أدواره التي كـانت لـه في الحيـاة العـلـميـة.

غيـر أن ذلك الامـتياز المـعرفـي لـم يكـن في جمـلـة ما ورثـتـه من الاستـشـراق تـيـارات ما بـعـد الاستـشـراق؛ ليس لأنـه امتـياز درس رسـمـه ومـا عـاد مـوجـودا، فحـسـب، بـل لأن هـذه التـيـارات الجـديـدة مـن «المعرفة» الغربـيـة بالشـرق هـي آخـر مـن يمـلـك أن يحـظـى بـمـثـل ذلك الامـتـيـاز أو أن يـدعـيـه لـنـفـسـه!

لا نـقـصـد بالامتيـاز المـعـرفـي مـا كـان للاستـشـراق والمستـشـرقيـن مـن مـكانـةٍ معـتـبـرة في الـدول ودوائـرِ الـقـرار ومـؤسسـات الخارجيـة والـدفـاع، وسـياسـاتـها العامـة تجـاه بـلـدان الشـرق، سـواء في الحـقـبـة الاسـتعـماريـة أو بـعـدها؛ إذ لا يـقـاس رأسمـال الاستـشـراق العـلـمي بـمواقـف الـدول والحـكـومات منـه، ولا تعـلو أسـهـمـه بالتـناسـب مع عـلـوِ التـقـديـر السـياسـي الرسـمـي لـه؛ إذ هـو معـرفـة، في المـقـام الأول، قبل أن يكـون دورا.

صحيح أن رِفـعـة مـعـارفـه وسـموق مسـتـواهـا هـو ما شـد انـتـبـاه المـؤسـسـة الكـولـونيـاليـة إليـه، ودفـعـهـا إلى تـسـخيـر بـرامـجـه ومـعـارفـه في سـياسـاتـها في الشـرق الآسـيـوي والعـربـي- الإسـلامـي، غير أن وزن القـيـمـة العـلميـة لمنـتـوجـه لا يكـون بمـوازيـن السـياسـة، بـل بـمـوازيـن المعـرفـة؛ والموازيـن هـذه ليست في حـوزة رجـالات السـياسـة والـديـبـلوماسيـة والأمـن القـومـي، ولا هـم يـعـرفـون إليها طـريـقا، وإنـما هـي مـن مـتـاحـات العلـمـاء والباحثـيـن الـذيـن وحـدهـم يمـلـكـون أن يـزِنـوا تلك القيـمـة في مـكايـيـلـهم، وقـد يكـون غيـر المسـتـشـرقيـن منـهـم أكـثـر إِقـسـاطـا في الوزن وأقـل تطـفـيـفـا للمـكايـيـل من المنـتـميـن إلى حـركـة الاستـشـراق. إلى هـذا يـضاف أن معـنى القيـمـة، عـنـد السيـاسيـيـن، يخـتـلف في مثـل هـذه الحال عـن معـنـاها عند الـدارسيـن؛ وبـيـان ذلك أن الاستـشـراق لا يـكـون مطلـوبـا مـن السـياسـيـيـن، دائـمـا، لمـوضوعـيـةِ ما يـقـدمـه مـن معـارف بـل هـو يـطـلـب، في الأغـلـب، لـخـدمـة مصالـح تـفـرض (أي الخدمـة) ركـوب كـلِ مـركـب وتـوسـل كـل طـريـقة مـن دون حسـابٍ لأي مبـدأٍ مـعـرفـي.

تـبـدى ذلك الامتـيـاز المـعـرفـي - الذي اعـتـرف بـه مـن لـدن زمـلاء المستـشـرقـيـن مـن غير المتخـصـصـيـن في الـدراسات الشـرقـيـة - في صـور ثـلاثٍ مـنـه متـرابـطـة:

أولاهـا في صـورة إلـمام مـعـرفـي بالشـرق ومـجتـمعـاتـه يـكـاد أن يبـلغ درجـة الاحـتكـار المـعـرفـي الحـصـري. ليس مـن فـئـةٍ عـلـميـة، في مجتـمـعات الغـرب وبيـئـاتـها الأكـاديـميـة، تمـلـك معـرفـة عميـقـة ودقيـقـة عن بـلـدان الشـرق سـوى فئـة المستـشـرقـيـن. يـسلـم الجميـع بهـذه الحقيـقة حتى مـن يـنـفسـون على المستـشـرقـيـن عِـلمـهـم مـن غير المتـخـصـصيـن؛ إذِ المعـرفة التي قـدمـوها مـا كـانت متـاحـة في بـلدان الغـرب لـولاهـم، خاصـة وأنـها تـتـنـاول أدق دقـائـق تـاريـخ مجـتـمـعـات الشـرق، قـديـمـا وحـديـثـا، وتـراثِـهـا الـديـني والثـقـافـي.

وليس شـأنـا يـسـيـرا أن تـكـون تلك المعـرفـة، في بـعض أطـوارها، أعـمـق وأوسـع مـمـا قـدمـتـه النـخـب العـلمـيـة في بـلـدان الشـرق عن مجـتـمعاتـها وحضـارتـها، الأمـر الذي فـرضـها أمـرا عـلـميـا واقـعـا وصـنـع لـها حـجـيـتـها.

وثـانـيـها أنـها مـا كـانت معـرفـة بمـجـتـمـعات الشـرق وحضاراتـها وثـقـافـاتـها وأديـانـها، فـقـط، بـل ومعـرفـة بـلـغـاتـها فـوق ذلك: اللـغـات التي ظـلـت مـجهـولـة في بـلـدان الغـرب وجـامـعـاتـها.

وإِذِ اسـتـطـاع المستـشـرقـون حيـازة لـغـات بـلـدان الشـرق (الهـنـديـة، الصيـنـيـة، العـربـيـة، الفـارسيـة، التـركـيـة، الأورديـة، لـغـة البـهـاسـا، اليابـانـيـة، اللـغـة الداريـة والبـشـتونـيـة الأفـغـانـيـة، السـريـانيـة، العـبـريـة، الآرامـيـة...)، فـقـد احـتـازوا المـفاتـيـح الأساس لـفـك أقـفـال ثـقـافـات الشـرق وقـراءة آثـارهـا مـن أفكـارٍ وآداب ومعـارف: قـديـمـا وحـديـثـا. ويـنـبـغي تـقـديـر قيـمـة هـذا الرأسـمـال الثـميـن (= العِـلـم بـألسـن الشـرق) حـق قـدره. ولا يـدرك ذلك إلا متـى قـارنـا الفـارق بين دارسيـن غـربـيـيـن للشـرق يطـلعـون على تـراثـه متـرجمـا إلى لغـاتـهـم الأوروبـيـة ومسـتـشـرقـيـن متـخـصـصيـن ضـليـعيـن في الإلمـام بألسـن الشـرق، يـتـصـلون بـذلك التـراث اتـصـالا مبـاشـرا ويحـسـنـون قـراءتـه على الوجـه الصحيـح.

وثالـثـها ما يسـمح بـه هـذا المـوقـع القـريب مـن عالـم الشـرق: لـسـانـا واتـصالا، مـن ممـكـنـاتٍ مـعـرفـيـة لـدى المستـشـرقـيـن ليست مـتـاحـة لـغـيـرهـم من الـدارسيـن الغـربـيـيـن. مـن ذلك، مثـلا، مـا يـتيـحـه هـذا المـوقـع مـن إمكانـيـة إنتـاج رؤى مقـارِنـة بيـن الحضـارات والثـقـافـات والخِـبـرات التـاريـخيـة والاجتـمـاعـيـة بيـن عـوالـم مخـتـلفـةٍ ومتـبـايـنـة (بيـن الشـرق والغـرب، وداخـل الشـرق بيـن مـراكـزه الحـضـاريـة المخـتـلـفة).

ومـن الغـنـي عن البـيـان أن المعـرفـة التي يكـون مبـنـاهـا على المقارنـة تكـون أدعـى إلى الدقـة من غيـرهـا، فـضـلا عن أن أحـكـامـها تمـيـل - على الأغـلـب - إلى النـسـبـيـة وعـدم القـطـع وتـتـحـكـم فيـها قيـم مـعرفـيـة نـبـيلـة مـثـل النـزعـة التـفـهـميـة و، أحـيـانـا، أخـلاق الاعـتـراف... وإن كـان هـذا لا يـنـطـبـق، بالضـرورة على المستـشـرقـيـن جميـعـا.

إذا أضفـنـا إلى هـذه العـنـاصـر المـكـوِنـة لذلك الامـتيـاز المـعـرفي أن مـن يتـفـردون بـه من الـدارسيـن الغـربـيـيـن يـقـاسمـون نظـراءهـم - غيـر المستـشـرقـيـن - الانـتـمـاء إلى الثـقـافـة الغـربيـة عـيـنِـها وينـهـلـون قـيـمـها المـعـرفـيـة مثـلـهـم، اجـتـمـعـتِ الأسـبـاب للقـول إن مـركـزهـم العـلـمي كـان مـرمـوقـا ومحـل اعـتـرافٍ حـتـى لـدى مـن أحـفـظـهـم من الـدارسـيـن نجـاح الاستـشـراق.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بـلـدان الشـرق

إقرأ أيضاً:

برلماني: الرواد الرقميينخطوة استراتيجية نحو بناء مجتمع معرفي واقتصاد رقمي قوي

ثمن النائب مصطفى سالمان، عضو مجلس الشيوخ، توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي بمتابعة مبادرة "الرواد الرقميين" وتوجيهه بمواصلة تطوير البنية التكنولوجية.

وأكد النائب مصطفي سالمان، أن هذه التوجيهات تعكس وعي الدولة بأهمية الرقمنة في تعزيز قدرات المؤسسات وتحسين مستوى الخدمات.

مدبولي يكشف عن توجيهات الرئيس السيسي بشأن قانون الإيجار القديممحلية النواب: قانون الإيجار القديم لن يصدر إلا بعد مراعاة توجيهات الرئيس السيسيالرئيس السيسي يوجه بأهمية الاستمرار في تنفيذ خطط التحول الرقميالرئيس السيسي يوجه بسرعة الانتهاء من مبادرة الرواد الرقميون وتوسيع قاعدة المستفيدين


وأوضح عضو مجلس الشيوخ، أن مبادرة "الرواد الرقميين" تمثل استثمارًا حقيقيًا في العنصر البشري، خاصة الشباب، من خلال إعداد كوادر مؤهلة تقنيًا قادرة على قيادة مشاريع التحول الرقمي وتقديم حلول مبتكرة تدعم الاقتصاد الوطني وتلبي احتياجات المجتمع.


وأشار النائب مصطفى سالمان، إلى أن مشروعات التحول الرقمي التي تنفذها الدولة تسهم في ترسيخ مبادئ الحوكمة والشفافية، كما تقلل من معدلات الفساد الإداري، وتحسن من جودة حياة المواطنين عبر تسهيل الوصول إلى الخدمات الحكومية إلكترونيًا.


وتابع عضو مجلس الشيوخ، أن توجيهات الرئيس السيسي بتعزيز البنية التكنولوجية تعزز من جاهزية الدولة لمواجهة التحديات المستقبلية في ظل التغيرات العالمية المتسارعة، لا سيما في مجالات التكنولوجيا الحديثة والتحول إلى الاقتصاد المعرفي.

طباعة شارك الرئيس عبد الفتاح السيسي النائب مصطفى سالمان مجلس الشيوخ الرواد الرقميين النائب مصطفي سالمان

مقالات مشابهة

  • الرئيس اليمني في معهد الاستشراق : التمدد الإيراني تهديد للتوازن والسلم والامن الدوليين
  • لطالما تعاملت الولايات المتحدة مع ملف السودان بوصفه ثانويًا غير عاجل
  • العليمي في معهد الاستشراق: الحوثيون مشروع طائفي ثيوقراطي لا يعترف بالدولة ولا بالقانون
  • برلماني: الرواد الرقميينخطوة استراتيجية نحو بناء مجتمع معرفي واقتصاد رقمي قوي
  • «تريندز هاب».. أنموذج معرفي يعزّز مكانة البحث العلمي
  • فصل تاريخ مصر الفرعونية عن حضارات النوبة والسودان القديم- فتحٌ معرفي ضد التهميش