حين كنا ندرس الفلسفة السياسية وفلسفة الأخلاق في الجامعة، الأفكار كانت أشبه بمرآة نرى فيها أنفسنا، وتطلعاتنا وأحلامنا التي لا يحدّها سقف. سقراط وابن خلدون وآدم سميث والغزالي وروسو وغيرهم من مفكري التاريخ، كانوا بمثابة منارات تشعل فينا الإيمان بأن السياسة يمكن أن تكون عملاً أخلاقياً، لا مجرد لعبة مصالح.

تعلمنا أن العدالة جوهر الدولة، وأن السياسة لا تستقيم إلا إذا وُضعت على سكة القيم. في تلك الأيام، كنا نحمل عنفوان الشباب، ونؤمن أننا الجيل القادر على إعادة تعريف الممارسة السياسية وفق أسس أخلاقية، وطنية نظيفة ومتحررة من الانتماء الضيق والتبعية العمياء.

لكننا سرعان ما اصطدمنا بواقع مختلف تماماً. إذ ما إن انتقلنا من فضاء النظرية إلى ساحة الفعل السياسي، حتى وجدنا أنفسنا أمام مشهد يحكمه منطق الغلبة، وتديره نوازع الانتهازية والتكسب. الأحزاب التي يفترض أن تكون أدوات للتغيير ومراكِز للرؤية الوطنية الجامعة، أصبحت عاجزة عن تجاوز الحسابات الضيقة، متورطة في خطاب صفري لا يرى المواطن إلا وسيلة ضغط، ولا يرى المأساة إلا منصةً لتسجيل النقاط. كانت الصدمة كبيرة، لأن السياسة التي حلمنا بها ليست هي التي واجهتنا؛ ظلت صراعًا مفتوحًا بلا مرجعية، بلا كوابح، بلا التزامات.

وحين جاءت الكوليرا هذه الأيام ، لم تكن مجرد وباء متعجل ، بل مرآة عاكسة لفشل في الأخلاق السياسية. ففي لحظة كان يُفترض أن تتقدّم فيها أولويات الإنسان على كل اعتبار، تحولت الكارثة الصحية إلى مناسبة جديدة للتجاذب السياسي. ولإثارة حفيظة الناس وتخويفهم ، ما بين نداء أطلقه د. عبد الله حمدوك الذي بات لايري في السودان إلا الفرصة التي اضاعها حين خضع لابتزاز الداخل وطموح الخارج في السيطرة علي البلاد.

أطل الرجل عبر تحالف “صمود”، محذراً من انهيار صحي وشيك كأنه لا يعلم الحرب التي كانت إحدى خطط حلفاؤه المطورة ، ذلك النداء كشف النقاب عن مشهد سياسي لا يرى في الألم البشري إلا ورقة يمكن المساومة عليها أو تسويقها. لم يكن النداء بحسب مراقبين دعوة إلى النجدة، بل كان تكتيك للضغط و الابتزاز ، واستثمار سياسي في لحظة مأساوية.

على الجانب الآخر، حاولت بعض الجهات الرسمية التقليل من شأن الكارثة، نافية الأرقام، مؤكدة السيطرة، متحدثة بلغة بيروقراطية تخلو من الحسّ الإنساني. لم يكن النقاش حول المرض، بل حول صدقيّة الخطاب، حول مَن يملك الرواية الأجدر بالتصديق. وهكذا وُضع المواطن بين خطابين متناقضين: أحدهما يُنذر بالخطر، والآخر يطمئن بلا أدوات واضحة. وفي هذه الفجوة، ضاعت الحقيقة، وضاع معها حق الإنسان في الحماية.

لايمكن الحديث عن السياسة بوصفها عملاً مسؤولاً في ظل هذا الانفصال الصارخ عن الأخلاق؟ حين تحيطنا الأوبئة والأمراض، وتزيد المعاناة، وتُنكَر الحقائق إرضاءً لصورةٍ رسمية، فإننا لا نكون فقط في مواجهة أزمة صحية، بل أمام انهيار شامل في العقد الأخلاقي والسياسي. لقد تحوّلت الكوليرا من مرض عضوي إلى سقوط أخلاقي. لم تعرِّ النظام الصحي المتأثر بحرب المليشيا وداعميها المحلين والإقليميين انتباها، بل فضحت هشاشة النظام القيمي والأخلاقي لدى الجميع.

لقد كانت الكوليرا لحظة كاشفة بامتياز، لأنها وضعتنا أمام سؤال مركّب هل بقي في السياسة متسعٌ للأخلاق؟ وهل ما زال للإنسان وزنٌ في معادلاتها؟ لم يكن مطلوباً من السياسيين أن يكونوا ملائكة، بل أن يتعاملوا مع الكارثة بوصفها مسؤولية وطنية، لا أداة نزاع . لكن بدلاً من توحيد الخطاب، رأينا تباعداً في الرؤى، وافتقاداً للحد الأدنى من الإجماع، حتى في ما يتعلّق بحق المواطن في الحياة والكرامة.

في هذا المشهد، يبدو أن ما خسرناه ليس فقط أرواحاً مهددة، بل فقدنا البوصلة التي تربط بين النظرية والممارسة، بين ما تعلّمناه في قاعات الفلسفة، وما نراه في فضاءات الواقع السياسي. الأخلاق التي نشأنا عليها، لا تجد اليوم مكاناً في ساحة تُدير فيها النخبة صراعاتها فوق أشلاء الناس، وتجعل من الوباء فرصة للمزايدة.

وإذا كان هذا هو حال السياسة في لحظة الكارثة، فكيف يمكن الوثوق بها في لحظات البناء؟ إن السياسة التي لا تحتكم إلى الأخلاق لا تُنتج إلا مزيداً من الإنهاك والخراب، مهما تجمّلت بالشعارات أو تحصّنت بالمؤسسات. وكلما تأخرنا في إعادة الاعتبار للقيم كقاعدة للفعل السياسي، كلما وجدنا أنفسنا ندور في حلقة مفرغة، حيث يتحوّل كل مرض إلى منبر، وكل مأساة إلى وسيلة، وكل موت إلى خطاب.

لذلك، فإن ما نواجه اليوم لا يقتصر على أزمة صحية عابرة، بل هو امتحان أخلاقي لمجمل الممارسة السياسية. والأخطر من المرض، هو قبول استغلاله. والخطر الأكبر من غياب الخدمات، هو غياب الضمير. فالسياسة التي لا تعلي من شأن الإنسان، لا تستحق أن تُمارس. وهذا هو #وجه_ الحقيقة.
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 28 مايو 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

السياسة وثقافة العولمة

 

 

خلال سوالف الأعوام برزت عدة ظواهر لا بد من الوقوف أمامها بقدر من التأمل في النسق العام السياسي والاجتماعي والثقافي، فالموضوع لم يعد ظاهرة بدون دلالة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية، كما قد يظن البعض، ولا يمكن فصل ما يحدث اليوم عن الرؤى والاستراتيجيات التي تستهدف العرب والمسلمين، ولا فصله عن الحرب التي تدور في الخفاء بين المسلمين واليهود، فما الذي يحدث بالضبط ؟..

الذي يحدث حركة سياسية وثقافية ذات تواشج تهدف إلى شيوع الفساد في المجتمعات العربية وتحريك وجدانها ضد الفطرة، من حيث سفك الدماء، والحرص على إراقتها، ومن حيث الانحلال  الأخلاقي حتى يغضب الرب، فيكون ذلك سببا في التعجيل بخروج المخلص الذي – حسب المعتقد لدى اليهود – موعود بالتمكين في الأرض، وسوف يحكم المنطقة الواقعة بين الفرات والنيل، ولذلك كان الربيع العربي هو البداية التي ولج منها المشروع، وتغلغل في البناء العام للمجتمعات العربية، وسعى جاهدا إلى تفكيك النظام العام والطبيعي إلى درجة التيه، والتباس المفاهيم وتعويمها، وعدم الشعور بالمعنى والقيمة، وقد ترك ذلك أثرا على الناشئة، وشهدنا تبدلات جنسية بين جيل الناشئة في عموم الوطن العربي، وشهدنا حركات ثائرة على القيم والمبادئ، وشهدنا هروبا لبعض الشباب مع ضجيج إعلامي يصاحب ذلك، وكنا قد لاحظنا من قبل ذلك الفنون في مجملها تتراجع إلى مستويات دنيا من الانحطاط  والتفسخ القيمي بدءا من الكلمات السطحية والخادشة للحياء ولا نقول انتهاء بالفديو كليب الذي كان يروج للأغنية من خلال الصورة العارية وحركة الجسد والمشاهد السريعة والإضاءة المكثفة ذات القدرة على الإبهار، ولكن ظل ذلك يمتد إلى المسلسلات ذات المستوى الفني الهابط، وصولا إلى المهرجانات الثقافية التي تمجد الظهور بالملبس الفاضح .

سياسة هدم التطبيقات الإسلامية للمجتمعات العربية وتفكيك القناعات وإفساد الأجيال، سياسة تضمنتها استراتيجية راند لعام 2007م والتي بدأ الاشتغال عليها منذ تفجرت أحداث الربيع العربي، وهي اليوم في مراحل بلوغ الغايات منها، بعد أن تم للغرب هدم النظام العام والطبيعي واستطاع تعويم المصطلحات والمفاهيم وعمل على تسطيح وعي الناشئة من خلال برامج موجهة مثل مسابقات الفنون والشعر التي كانت تبثها الفضائيات فتترك أثرا تفاعليا في عموم الشارع العربي من أقصاه إلى أقصاه، وقد كنا في اليمن من أولئك الذين ينبهرون بالشيء فيقومون بالترويج له على مستويات متعددة من باب العصبيات وافتتانا بحالة الدهشة التي يحدثها البرنامج في النفوس  .

بلغ المستعمر غاياته ووصل إلى مراحل متقدمة، ونحن كأمة ننساق وراء الأشياء دون وعي، ودون إدراك لما يحدث، أو قراءة للأثر المترتب على التفاعلات، ولم نستبن الرشد إلى يومنا المشهود، وهو يوم يشهد كل التفاعلات الثقافية التي تستهدف القيم وتقاليد المجتمعات الإسلامية وتطبيقاتها، فالمرأة المحافظة بدأت تخرج في بث مباشر على منصات التواصل الاجتماعي كي تتحدث عن تجاربها المخلة بالشرف، ومغامراتها العاطفية، في سابقة لم تكن معهودة في كثير من المجتمعات العربية .

ما يحدث في مجتمعاتنا العربية منذ بداية الألفية إلى اليوم ليست حربا على الإرهاب، ولا اضطرابات اجتماعية، ولا ثورات، ولا قلاقل وفتن، بل حركة استهداف تدار من قبل الماسونية العالمية ومحافلها في بعض العواصم العربية، تهدف إلى هدم التطبيقات الدينية لدى الشباب المسلم حتى لا يكون ارتباطه بالدين ارتباطا قويا ومتينا، بل يكون ارتباطا هشا وسطحيا، حتى يسهل على العدو التغلغل إلى البناءات الثقافية فيحدث فيها تبدلا وتغيرا، ويمكن قياس ذلك على حركة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وننظر إلى الجدل الفكري حول هذه الفكرة في منصات التواصل الاجتماعي، ويمكننا أيضا النظر إلى زعزعة القناعات العقدية عند الناشئة وفي المواقف، إذ بالعودة إلى الماضي والى الموقف العربي الشعبي من التطبيع نجد موقفا واحدا منه.

اليوم أصبح النص الشعري منفلتا ومنسابا، وأصبحت الفنون بدون معايير أخلاقية، وأصبح الإيقاع الصاخب والفوضى من علامات الحداثة الفنية والأدبية، وأصبح المثقف الملتزم حالة غير مقبولة، وخرج المهرج والمجنون وصاحب الابتذال الثقافي والأخلاقي من قبوه، فهو يملك من الأثر على الناس ما لا يملكه المثقف الملتزم، ولك أن تنظر إلى منصات التواصل الاجتماعي كي تخرج بتلك النتيجة .

المال الذي ينفق على المهرجين وأصحاب قنوات اليوتيوب ليس مالا مستحقا لأصحابه بل هو مال يعرف ماذا يريد من الأمة العربية والإسلامية، بدليل أن ذلك المال لا يمكن أن يصل إلى المثقف الملتزم أو المثقف صاحب الرؤية والفكر الإنساني النبيل، ولذلك قد تجد عشرات القنوات في مصر مثلا تروج لشهوات البطن والفرج ويتنافسون على ذلك، وبمثل تلك الآلية استطاعوا حرف مسار الشباب وتركيز اهتمامه حول أشياء بعينها لأنها أكثر حضورا وفاعلية وأكثر ربحا وكسبا ماديا يعين على أسباب الوجود .

وفي المقابل تجد السياسات العامة للدول العربية تنشط في الترويج لمثل ذلك، ففي الإمارات هناك وزارة السعادة، وفي السعودية هناك هيئة الترفيه، وهكذا دواليك ينفق المال في مناشط الترفيه وتسطيح وعي المجتمعات، ولن تجد مالا للقضايا الفكرية والأدبية والثقافية الجوهرية، كما كان يحدث زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

نحن اليوم في اليمن مطالبون بالوعي بالمعركة الثقافية التي يشنها الغرب على قيمنا وديننا، وعاداتنا وتقاليدنا، وعلى ثقافتنا، وهويتنا الحضارية والثقافية والايمانية، ومثل ذلك يتطلب تحريك الجبهة الثقافية في مستوياتها المتعددة لمواجهة العدو إلى جانب الجبهة العسكرية، فالكلمة تواجه بالكلمة، والفكرة بالفكرة، والمحتوى الهابط يلزم مواجهته بمحتوى راق ملتزم مروج له، ونشيد به.

 

مقالات مشابهة

  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الرباعية الدولية .. صراع المصالح يبدد فرص الحل..!
  • السياسة وثقافة العولمة
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الفاشر تحتضر ..!
  • “فرسان الحق” .. حينما تتجلى الأخلاق في عقيدة المخابرات الأردنية
  • اليونيسيف تحذر من تفشي الكوليرا بين أطفال دول أفريقية
  • إبراهيم شعبان يكتب: مجاعة غزة وتسونامي الدولة الفلسطينية
  • المارديني لـ سانا: هدفنا هو تقديم تجربة إعلانية تُبرز الوجه العصري لدمشق منذ لحظة الوصول إلى أرض المطار، إيماناً منا بأن المطار هو النافذة الأولى التي يطل منها الزائر على البلاد
  • تسجيل إصابات جديدة بـ”الكوليرا” في دارفور
  • إبراهيم عثمان يكتب: اللدغات القاتلة!
  • العطاء يتدفق.. دولة عربية تهدي السودان 25 طناً من أدوية مكافحة الكوليرا