إبراهيم شقلاوي يكتب: الأخلاق والسياسة في زمن الكوليرا
تاريخ النشر: 31st, May 2025 GMT
حين كنا ندرس الفلسفة السياسية وفلسفة الأخلاق في الجامعة، الأفكار كانت أشبه بمرآة نرى فيها أنفسنا، وتطلعاتنا وأحلامنا التي لا يحدّها سقف. سقراط وابن خلدون وآدم سميث والغزالي وروسو وغيرهم من مفكري التاريخ، كانوا بمثابة منارات تشعل فينا الإيمان بأن السياسة يمكن أن تكون عملاً أخلاقياً، لا مجرد لعبة مصالح.
تعلمنا أن العدالة جوهر الدولة، وأن السياسة لا تستقيم إلا إذا وُضعت على سكة القيم. في تلك الأيام، كنا نحمل عنفوان الشباب، ونؤمن أننا الجيل القادر على إعادة تعريف الممارسة السياسية وفق أسس أخلاقية، وطنية نظيفة ومتحررة من الانتماء الضيق والتبعية العمياء.
لكننا سرعان ما اصطدمنا بواقع مختلف تماماً. إذ ما إن انتقلنا من فضاء النظرية إلى ساحة الفعل السياسي، حتى وجدنا أنفسنا أمام مشهد يحكمه منطق الغلبة، وتديره نوازع الانتهازية والتكسب. الأحزاب التي يفترض أن تكون أدوات للتغيير ومراكِز للرؤية الوطنية الجامعة، أصبحت عاجزة عن تجاوز الحسابات الضيقة، متورطة في خطاب صفري لا يرى المواطن إلا وسيلة ضغط، ولا يرى المأساة إلا منصةً لتسجيل النقاط. كانت الصدمة كبيرة، لأن السياسة التي حلمنا بها ليست هي التي واجهتنا؛ ظلت صراعًا مفتوحًا بلا مرجعية، بلا كوابح، بلا التزامات.
وحين جاءت الكوليرا هذه الأيام ، لم تكن مجرد وباء متعجل ، بل مرآة عاكسة لفشل في الأخلاق السياسية. ففي لحظة كان يُفترض أن تتقدّم فيها أولويات الإنسان على كل اعتبار، تحولت الكارثة الصحية إلى مناسبة جديدة للتجاذب السياسي. ولإثارة حفيظة الناس وتخويفهم ، ما بين نداء أطلقه د. عبد الله حمدوك الذي بات لايري في السودان إلا الفرصة التي اضاعها حين خضع لابتزاز الداخل وطموح الخارج في السيطرة علي البلاد.
أطل الرجل عبر تحالف “صمود”، محذراً من انهيار صحي وشيك كأنه لا يعلم الحرب التي كانت إحدى خطط حلفاؤه المطورة ، ذلك النداء كشف النقاب عن مشهد سياسي لا يرى في الألم البشري إلا ورقة يمكن المساومة عليها أو تسويقها. لم يكن النداء بحسب مراقبين دعوة إلى النجدة، بل كان تكتيك للضغط و الابتزاز ، واستثمار سياسي في لحظة مأساوية.
على الجانب الآخر، حاولت بعض الجهات الرسمية التقليل من شأن الكارثة، نافية الأرقام، مؤكدة السيطرة، متحدثة بلغة بيروقراطية تخلو من الحسّ الإنساني. لم يكن النقاش حول المرض، بل حول صدقيّة الخطاب، حول مَن يملك الرواية الأجدر بالتصديق. وهكذا وُضع المواطن بين خطابين متناقضين: أحدهما يُنذر بالخطر، والآخر يطمئن بلا أدوات واضحة. وفي هذه الفجوة، ضاعت الحقيقة، وضاع معها حق الإنسان في الحماية.
لايمكن الحديث عن السياسة بوصفها عملاً مسؤولاً في ظل هذا الانفصال الصارخ عن الأخلاق؟ حين تحيطنا الأوبئة والأمراض، وتزيد المعاناة، وتُنكَر الحقائق إرضاءً لصورةٍ رسمية، فإننا لا نكون فقط في مواجهة أزمة صحية، بل أمام انهيار شامل في العقد الأخلاقي والسياسي. لقد تحوّلت الكوليرا من مرض عضوي إلى سقوط أخلاقي. لم تعرِّ النظام الصحي المتأثر بحرب المليشيا وداعميها المحلين والإقليميين انتباها، بل فضحت هشاشة النظام القيمي والأخلاقي لدى الجميع.
لقد كانت الكوليرا لحظة كاشفة بامتياز، لأنها وضعتنا أمام سؤال مركّب هل بقي في السياسة متسعٌ للأخلاق؟ وهل ما زال للإنسان وزنٌ في معادلاتها؟ لم يكن مطلوباً من السياسيين أن يكونوا ملائكة، بل أن يتعاملوا مع الكارثة بوصفها مسؤولية وطنية، لا أداة نزاع . لكن بدلاً من توحيد الخطاب، رأينا تباعداً في الرؤى، وافتقاداً للحد الأدنى من الإجماع، حتى في ما يتعلّق بحق المواطن في الحياة والكرامة.
في هذا المشهد، يبدو أن ما خسرناه ليس فقط أرواحاً مهددة، بل فقدنا البوصلة التي تربط بين النظرية والممارسة، بين ما تعلّمناه في قاعات الفلسفة، وما نراه في فضاءات الواقع السياسي. الأخلاق التي نشأنا عليها، لا تجد اليوم مكاناً في ساحة تُدير فيها النخبة صراعاتها فوق أشلاء الناس، وتجعل من الوباء فرصة للمزايدة.
وإذا كان هذا هو حال السياسة في لحظة الكارثة، فكيف يمكن الوثوق بها في لحظات البناء؟ إن السياسة التي لا تحتكم إلى الأخلاق لا تُنتج إلا مزيداً من الإنهاك والخراب، مهما تجمّلت بالشعارات أو تحصّنت بالمؤسسات. وكلما تأخرنا في إعادة الاعتبار للقيم كقاعدة للفعل السياسي، كلما وجدنا أنفسنا ندور في حلقة مفرغة، حيث يتحوّل كل مرض إلى منبر، وكل مأساة إلى وسيلة، وكل موت إلى خطاب.
لذلك، فإن ما نواجه اليوم لا يقتصر على أزمة صحية عابرة، بل هو امتحان أخلاقي لمجمل الممارسة السياسية. والأخطر من المرض، هو قبول استغلاله. والخطر الأكبر من غياب الخدمات، هو غياب الضمير. فالسياسة التي لا تعلي من شأن الإنسان، لا تستحق أن تُمارس. وهذا هو #وجه_ الحقيقة.
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 28 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
الأمم تصف الكارثة الإنسانية في قطاع غزة بالأسوأ منذ بدء الحرب
وصفت الأمم المتحدة الكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، بالأسوأ من بدء الحرب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على وقع مجاعة متفاقمة.
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، الجمعة، إن الكارثة الإنسانية بقطاع غزة في أسوأ حالاتها منذ بداية حرب الإبادة الجماعية.
وأضاف دوجاريك: "زملاؤنا في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أفادوا بأن الكارثة في غزة في أسوأ حالاتها منذ بدء الحرب".
وتطرق إلى إخلاء الاحتلال لمستشفى العودة في شمال غزة، واستمرار عمليات التهجير القسري من القطاع، حيث بلغ عدد المهجرين نحو 200 ألف شخص خلال الأسبوعين الأخيرين.
وأوضح دوجاريك، أن الأمم المتحدة وشركاءها يواصلون تقديم الدعم الإنساني للمدنيين المحتاجين في غزة رغم القيود الإسرائيلية المشددة على إدخال المساعدات، مضيفا أن الحاجة للمساعدات الإنسانية وصلت مستويات غير مسبوقة مع حظر إدخال المساعدات منذ 80 يوما.
وأشار إلى أن الكميات المحدودة من المساعدات التي تدخل للقطاع لا تكفي لدعم 2.1 مليون شخص بحاجة ماسة إليها.
واصلت قوات الاحتلال ارتكاب المجازر الوحشية في قطاع غزة، السبت، على وقع مجاعة غير مسبوقة، تحاصر الغزيين الذين أصبح معظمهم نازحا، وتنهش بطونهم الخاوية.
وخلال الساعات القليلة الماضية، قتل جيش الاحتلال نحو 50 فلسطينيا على الأقل وأصاب عددا آخرا، في سلسلة هجمات أوقعت عدة مجازر، ضمن الإبادة المستمرة منذ 20 شهرا.
وقالت مصادر طبية، إن القصف الإسرائيلي استهدف منازل ومركبات وخيام نازحين، فضلاً عن تجمعات مدنيين توجهوا لاستلام مساعدات إنسانية، في مناطق متفرقة من قطاع غزة.