2 يونيو، 2025
بغداد/المسلة: رياض الفرطوسي
لم يكن الإصلاح في العراق رفاهية تنظيرية أو تجميلًا عابراً لمشهد اقتصادي معطوب، بل ضرورة وجودية تفرضها الجغرافيا الجريحة والتاريخ المثقل بالمحن والهدر والتردد. وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات، بدأت ملامح هذا التحول الجذري تتشكل رغم العواصف، لا بفعل أرقام تتراقص على شاشات المحللين، بل عبر إرادة تمضي بثبات وسط حقل ألغام معقد، صنعته عقود من التراجع، وأشباح التدخلات، وتقلبات الأسواق، وميراث الإنهاك الهيكلي.
ما يميز التجربة العراقية اليوم ليس ذلك الحماس المرتجل الذي يسرف في الوعود، بل صمتٌ منهجيٌّ يشتغل في العُمق، بعيداً عن ضجيج الآمال المتسرعة، مركزاً على البنية لا على السطح، وعلى الاقتصاد الكليّ لا على ترقيع قطاع هنا أو هناك. كأن الدولة قررت أن تنظر إلى جسدها كاملًا لا إلى جرحٍ منفرد في خاصرة معزولة. لم يعد الأمر يتعلق بخدمةٍ أو أزمة، بل بتحويل بنية الاقتصاد من حقلِ خيباتٍ موسمية إلى نظامٍ متناغم، يشبه في تكامله حركة أوانٍ مستطرقة: الصناعة لا تسبق الزراعة، والخدمة لا تلغي الإنتاج، والبيئة لا تنفصل عن التنمية، والدخل لا يتحرك من فراغ.
في مثل هذا التوقيت الذي تنهشه الأزمات الإقليمية والدولية، كانت التجربة العراقية تمضي رغم الرياح، لا بوصفها مغامرة فردية بل مشروعاً متكاملًا تتحرك فيه الوزارات كأعضاء جسد واحد، لا كجزر مبللة بالتقاطع والارتباك. واللافت أن هذه الخطة لا تكتفي بالتنظير، بل تبدأ من حيث ينتهي الآخرون: من الأرض، من الشارع، من الحاجات الأساسية. فالخدمات التي كثيرًا ما تحولت إلى أداة نقد سياسي مجاني، شهدت –رغم التحديات– خطوات ملموسة: مشاريع لمعالجة شبكات المياه الثقيلة في بغداد بقيمة تجاوزت 200 مليون دولار، وخطط لترميم شبكة الكهرباء وتحسين توزيعها، وحملات على الأرض لمعالجة الطفوحات المزمنة التي طالما لوثت وجه المدن وأحلام ساكنيها.
في لحظة ما، حين يتأمل المرء ما جرى ويجري، يوقن أن المأزق العراقي ليس سياسياً كما يبدو، بل فكري في الجوهر. السياسة ليست سوى القشرة الظاهرة لأزمةٍ أعمق، تتعلق بطريقة فهمنا للزمن، للتاريخ، للذات، للمصلحة. وبلا قطيعة معرفية مع الماضي لن نتحرك نحو المستقبل. والقطيعة هنا لا تعني الانفصال عن الذاكرة، بل التصفية: أن نأخذ ما نحتاجه ونترك ما يثقلنا ويمنعنا من التقدم. فما زال في وعينا الكثير من الأصنام الفكرية، التي تحرسها شعارات عاطفية وتقاليد جامدة، تعرقل الإصلاح وتعيق كل محاولة جدية للتغيير.
لا أحد ينكر أن الطريق ما زال طويلًا، وأن في زوايا الوطن ما زالت تتنفس بؤساً قديماً عمره من عمر الإهمال والتسييس. لكن ليس من الإنصاف تحويل هذا الألم إلى ذريعة لنفي ما تحقق، ولا جعله مطية لتقويض الثقة أو هدم ما يُبنى لبنةً لبنة. الإصلاح لا يولد في ليلة، ولا يحصد ثماره من دون صبرٍ ومتابعة وإصرار. وما تشهده البلاد من تفعيل لدور القطاع الخاص، ومن تحولات في الرؤية التنموية، ومن إعادة تموضع تدريجي للاقتصاد العراقي في خارطة المنطقة، ليس تفصيلًا عابراً، بل لحظة تأسيسية قد لا تتكرر.
الغريب أن من يشككون في هذه التحولات هم أول من يردد آهات المعاناة، كأنهم لا يريدون للأمل أن يمر من أمامهم دون أن يصفعوه. يطالبون بالحلول السريعة في وطن أنهكته المعاول قبل أن يمسك بزمام الإعمار، ويستنكرون التأخير في إصلاح أعطاب عمرها خمسون عاماً، كأنهم اكتشفوا اليوم فقط معنى الزمن. لكن الإصلاح لا يخص الحكومة وحدها، بل المواطن أيضاً حين يفهم أن التغيير لا تصنعه النوايا الغاضبة بل الشراكة الواعية.
إن ما تشهده البلاد اليوم ليس تجميلًا للمشهد، بل عملية نهوض شاقة، يشارك فيها من قرر أن يزرع بدل أن يلعن، وأن يعمل بدل أن يتفرج. قد تكون الخطى بطيئة أحياناً، لكنها لا تتعثر، وقد لا يشعر الجميع بما يجري في العمق، لكن هذا لا يعني أن الجذور لا تنمو. في العراق، تُكتب اليوم قصة مختلفة، تكتبها لغة الاقتصاد، وتحرسها عيون المتخصصين، ويصيغها من أيقنوا أن إعادة بناء وطن لا تبدأ من الحلم فقط، بل من الجرأة على تنفيذه.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
بحضور نواب.. حزب الإصلاح والنهضة ينظم صالونا حول الثقافة والقيم الوطنية في الجمهورية الجديدة
نظم حزب الإصلاح والنهضة الصالون السياسي بعنوان: “الثقافة والقيم الوطنية في الجمهورية الجديدة”، حيث ناقش
تحولات القيم والثقافة المجتمعية في مصر، وأثرها على السلوك والانتماء الوطني، وكذلك دور المؤسسات الثقافية والإعلامية في نشر القيم وبناء الإنسان المصري، والتوصيات والمقترحات العملية لتعزيز منظومة القيم والثقافة في المجتمع والحياة السياسية.
شارك في الصالون النائبة سها سعيد – عضو مجلس الشيوخ عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، وكيل لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار، والنائب نادر مصطفى – عضو مجلس النواب عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، وكيل لجنة الثقافة والإعلام والآثار، د/ غادة النشار – استشاري التنمية المستدامة في التعليم، د/ رامي عبدالباقي – عضو اتحاد كتاب مصر، أخصائي الصحة العامة والوبائيات، عضو تنسيقية شباب الاحزاب والسياسيين
الإصلاح والنهضة: نطلق سلسلة من الصالونات السياسية بهدف صياغة برنامج انتخابيقال النائب علاء مصطفى، عضو مجلس الشيوخ، مساعد رئيس حزب الإصلاح والنهضة، إن الحزب يعمل حاليا على إطلاق سلسلة من الصالونات السياسية التي تستهدف مناقشة عدد من الملفات النوعية التي تمس المواطن المصري بشكل مباشر، وذلك في إطار حرص الحزب على أن يكون برنامجه الانتخابي القادم معبرًا عن أولويات المجتمع وتطلعاته.
وأكد مصطفى أن هذه الصالونات ستتضمن حوارات معمقة مع خبراء ومتخصصين في مجالات متنوعة، على رأسها الاقتصاد، التعليم، الصحة، والحماية الاجتماعية، مشيرًا إلى أن هذه اللقاءات لن تكون مجرد ندوات حوارية، بل خطوة عملية نحو بلورة رؤية إصلاحية شاملة تنبع من الواقع المصري وتستند إلى رؤية علمية ووطنية.
وأشار مساعد رئيس حزب الإصلاح والنهضة إلى أن الحزب يولي أهمية كبيرة للاستماع إلى الآراء المتخصصة والاطلاع على تجارب ناجحة، سواء داخل مصر أو خارجها، من أجل صياغة برنامج انتخابي واقعي وطموح يُقدم حلولًا حقيقية للتحديات التي تواجه المواطن، ويضع أولويات التنمية في صدارة أجندته.
وأضاف مصطفى أن هذه المبادرة تأتي ضمن مساعي الحزب الدؤوبة لتعزيز التفاعل السياسي والمجتمعي، مؤكدًا على أن المرحلة القادمة تتطلب من كافة القوى الوطنية تقديم أطروحات بناءة تساهم في دعم مسيرة الدولة المصرية نحو التقدم والاستقرار.