المسلة:
2025-08-02@22:54:24 GMT

خطى لا تتعثر

تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT

خطى لا تتعثر

2 يونيو، 2025

بغداد/المسلة: رياض الفرطوسي

لم يكن الإصلاح في العراق رفاهية تنظيرية أو تجميلًا عابراً لمشهد اقتصادي معطوب، بل ضرورة وجودية تفرضها الجغرافيا الجريحة والتاريخ المثقل بالمحن والهدر والتردد. وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات، بدأت ملامح هذا التحول الجذري تتشكل رغم العواصف، لا بفعل أرقام تتراقص على شاشات المحللين، بل عبر إرادة تمضي بثبات وسط حقل ألغام معقد، صنعته عقود من التراجع، وأشباح التدخلات، وتقلبات الأسواق، وميراث الإنهاك الهيكلي.

ما يميز التجربة العراقية اليوم ليس ذلك الحماس المرتجل الذي يسرف في الوعود، بل صمتٌ منهجيٌّ يشتغل في العُمق، بعيداً عن ضجيج الآمال المتسرعة، مركزاً على البنية لا على السطح، وعلى الاقتصاد الكليّ لا على ترقيع قطاع هنا أو هناك. كأن الدولة قررت أن تنظر إلى جسدها كاملًا لا إلى جرحٍ منفرد في خاصرة معزولة. لم يعد الأمر يتعلق بخدمةٍ أو أزمة، بل بتحويل بنية الاقتصاد من حقلِ خيباتٍ موسمية إلى نظامٍ متناغم، يشبه في تكامله حركة أوانٍ مستطرقة: الصناعة لا تسبق الزراعة، والخدمة لا تلغي الإنتاج، والبيئة لا تنفصل عن التنمية، والدخل لا يتحرك من فراغ.

في مثل هذا التوقيت الذي تنهشه الأزمات الإقليمية والدولية، كانت التجربة العراقية تمضي رغم الرياح، لا بوصفها مغامرة فردية بل مشروعاً متكاملًا تتحرك فيه الوزارات كأعضاء جسد واحد، لا كجزر مبللة بالتقاطع والارتباك. واللافت أن هذه الخطة لا تكتفي بالتنظير، بل تبدأ من حيث ينتهي الآخرون: من الأرض، من الشارع، من الحاجات الأساسية. فالخدمات التي كثيرًا ما تحولت إلى أداة نقد سياسي مجاني، شهدت –رغم التحديات– خطوات ملموسة: مشاريع لمعالجة شبكات المياه الثقيلة في بغداد بقيمة تجاوزت 200 مليون دولار، وخطط لترميم شبكة الكهرباء وتحسين توزيعها، وحملات على الأرض لمعالجة الطفوحات المزمنة التي طالما لوثت وجه المدن وأحلام ساكنيها.

في لحظة ما، حين يتأمل المرء ما جرى ويجري، يوقن أن المأزق العراقي ليس سياسياً كما يبدو، بل فكري في الجوهر. السياسة ليست سوى القشرة الظاهرة لأزمةٍ أعمق، تتعلق بطريقة فهمنا للزمن، للتاريخ، للذات، للمصلحة. وبلا قطيعة معرفية مع الماضي لن نتحرك نحو المستقبل. والقطيعة هنا لا تعني الانفصال عن الذاكرة، بل التصفية: أن نأخذ ما نحتاجه ونترك ما يثقلنا ويمنعنا من التقدم. فما زال في وعينا الكثير من الأصنام الفكرية، التي تحرسها شعارات عاطفية وتقاليد جامدة، تعرقل الإصلاح وتعيق كل محاولة جدية للتغيير.

لا أحد ينكر أن الطريق ما زال طويلًا، وأن في زوايا الوطن ما زالت تتنفس بؤساً قديماً عمره من عمر الإهمال والتسييس. لكن ليس من الإنصاف تحويل هذا الألم إلى ذريعة لنفي ما تحقق، ولا جعله مطية لتقويض الثقة أو هدم ما يُبنى لبنةً لبنة. الإصلاح لا يولد في ليلة، ولا يحصد ثماره من دون صبرٍ ومتابعة وإصرار. وما تشهده البلاد من تفعيل لدور القطاع الخاص، ومن تحولات في الرؤية التنموية، ومن إعادة تموضع تدريجي للاقتصاد العراقي في خارطة المنطقة، ليس تفصيلًا عابراً، بل لحظة تأسيسية قد لا تتكرر.

الغريب أن من يشككون في هذه التحولات هم أول من يردد آهات المعاناة، كأنهم لا يريدون للأمل أن يمر من أمامهم دون أن يصفعوه. يطالبون بالحلول السريعة في وطن أنهكته المعاول قبل أن يمسك بزمام الإعمار، ويستنكرون التأخير في إصلاح أعطاب عمرها خمسون عاماً، كأنهم اكتشفوا اليوم فقط معنى الزمن. لكن الإصلاح لا يخص الحكومة وحدها، بل المواطن أيضاً حين يفهم أن التغيير لا تصنعه النوايا الغاضبة بل الشراكة الواعية.

إن ما تشهده البلاد اليوم ليس تجميلًا للمشهد، بل عملية نهوض شاقة، يشارك فيها من قرر أن يزرع بدل أن يلعن، وأن يعمل بدل أن يتفرج. قد تكون الخطى بطيئة أحياناً، لكنها لا تتعثر، وقد لا يشعر الجميع بما يجري في العمق، لكن هذا لا يعني أن الجذور لا تنمو. في العراق، تُكتب اليوم قصة مختلفة، تكتبها لغة الاقتصاد، وتحرسها عيون المتخصصين، ويصيغها من أيقنوا أن إعادة بناء وطن لا تبدأ من الحلم فقط، بل من الجرأة على تنفيذه.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

المصدر: المسلة

إقرأ أيضاً:

بريطانيا تجدد دعمها للحكومة اليمنية وجهود الإصلاح الاقتصادي

جددت السفيرة البريطانية، موقف بلادها الداعم للحكومة اليمنية وجهودها في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتنفيذ الإصلاحات.


جاء ذلك خلال لقاء رئيس مجلس الوزراء، سالم صالح بن بريك، مع سفيرة المملكة المتحدة لدى اليمن عبده شريف، لمناقشة تطورات الأوضاع على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، والمواقف البريطانية الداعمة للحكومة.


وذكرت وكالة سبأ الحكومية، أن اللقاء المنعقد عبر تقنية الاتصال المرئي، بحث برامج التعاون بين اليمن والمملكة المتحدة، بما في ذلك الترتيبات لإطلاق برنامج الدعم الفني للحكومة اليمنية في عدن، ودعم إصلاحات منظومة التقاعد، وإسناد مجموعة شركاء اليمن لجهود الحكومة في مواصلة برنامج الإصلاحات وتنفيذ الخطة الحكومية للتعافي الاقتصادي، ودعم خفر السواحل.


وأشارت إلى مناقشة استمرار تهريب الأسلحة الإيرانية لجماعة الحوثي، وما تمثله من تهديد للأمن والسلم الدوليين.


ولفت رئيس الوزراء، للتحضيرات الجارية لعقد مؤتمر للمانحين في عدن لحماية القطاع الصحي، في أكتوبر القادم برئاسة يمنية-بريطانية مشتركة، والتطلع الى مشاركة بريطانيا في المؤتمر الدولي للأمن الغذائي في اليمن برعاية مجلس التعاون لدول الخليج العربية.


مقالات مشابهة

  • مصر.. الداخلية ترد على مزاعم إضراب سجناء بسبب الانتهاكات
  • مصدر أمني ينفي رسالة مسربة من داخل مراكز الإصلاح والتأهيل
  • أكاذيب الإخوان الإرهابية.. «مصدر أمني» ينفي إضراب نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل
  • شائعات إخوانية.. مصدر أمنى لا توجد انتهاكات داخل مراكز الاصلاح والتأهيل
  • مصدر أمني عن رسالة نزيل بمركز إصلاح وتأهيل: مزيفة
  • بريطانيا تجدد دعمها للحكومة اليمنية وجهود الإصلاح الاقتصادي
  • مقتل مواطن بـ قمع قوات الإصلاح لتظاهرة شعبية في تريم حضرموت
  • مؤامرة حزب الإصلاح ضد القبائل اليمنية .. استغلال داخلي وارتباط بأجندات إقليمية
  • بول مرقص من عرمون: الإصلاح يبدأ بالمحاولة
  • مواقف بارزة لعون لمناسبة عيد الجيش.. مجلس النواب يقر اليوم الإصلاح المصرفي