تأملات في حملة سحب الجنسيات في الكويت
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
في زمن أصبحت فيه الكفاءات عملة نادرة، وتتنافس الدول على استقطاب العقول وتوفير بيئة حاضنة للإبداع والتميّز، يبدو أن الكويت -وللأسف- قد اختارت السير عكس هذا التيار، عبر حملة مفاجئة وقاسية لسحب الجنسيات من عدد من المواطنين، بينهم من لا يملكون غيرها، ومن عاشوا بموجبها لعقود، ومن حصلوا عليها وفق الإجراءات القانونية المعتمدة وقتها.
ليست المشكلة فقط في الأعداد، ولا حتى في الأسماء المستهدفة، بل في المنهجية والتوقيت والتبعات. فأن يتحوّل حق المواطنة إلى أداة في يد السلطة تُمنح وتُسحب حسب المزاج السياسي أو الحسابات الأمنية، فذلك يمس جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، ويزرع الشك في نفوس الناس حيال استقرار مستقبلهم وهويتهم.
ما يجري لا يمكن تبريره بذريعة "تصحيح أوضاع"، ولا بعبارات فضفاضة عن "تنقية السجل الوطني". فحين يُسحب هذا الحق من عالم كبير أفنى عمره في تطوير الطب، أو من داعية معتدل نشر قيم الوسطية والوعي، أو من إعلامي قدّم خدمات جليلة للوطن، أو من أمّ حصلت على الجنسية بعد زواج قانوني قبل عقود، فإننا لسنا أمام إجراءات ضبط إداري، بل أمام إقصاء ممنهج لكفاءات ومواطنين حقيقيين، كان يمكن أن يكونوا ركيزة في نهضة البلد، لا عبئا عليه.
إن أخطر ما في هذه الحملة أنها تُلغي مفهوم "استقرار المواطنة"، وتجعل من الجنسية امتيازا هشّا، معرّضا للسحب متى تغيّر المزاج السياسي أو صعدت رؤى إقصائية ضيقة. وهذا يُضعف الثقة بالدولة، ويفتح الباب أمام موجات من القلق والظلم، ويحوّل حياة الناس إلى كابوس قانوني واجتماعي لا نهاية له.
الأكثر مرارة أن بعض المستهدفين حصلوا على جنسيتهم نظير إنجازات حقيقية خدمت الكويت في أدق مراحلها، بل ورفعت من شأنها في ميادين الطب والتعليم والإعلام والدعوة، وكانوا سفراء غير رسميين للبلاد، يرفعون اسمها أينما ذهبوا. واليوم، يُكافأون بالتجريد من الهوية، دون محكمة، ودون دفاع، ودون حتى فرصة لتقديم روايتهم.
وإذا كانت الحملة تطال من يُتهمون بازدواج الجنسية أو التزوير، فإن العدل يقتضي التمييز الدقيق بين الحالات، وإتاحة مسارات قانونية واضحة للطعن والاستئناف، لا أن تُحشر أسماء مختلفة في سلة واحدة، ويُعامل الجميع كأنهم متهمون، ويُتركون في فراغ قانوني يعطل حياتهم.
ثم ماذا عن أبناء المتجنسين؟ وماذا عن النساء اللواتي تجنسن منذ أكثر من ثلاثة عقود وفق قانون الزواج؟ وماذا عن أولادهن الذين لا يعرفون وطنا غير الكويت؟ ما الذي سيُقال لهم حين يسألون: لماذا لم نعد كويتيين؟ بأي ذنب فُرضت علينا حياة "البدون" فجأة؟ وبأي منطق نُعاقب بقرارات لا نفهمها ولا نعرف دوافعها؟
إننا نعيش في عالم لم يعد يرحم الشعوب التي تتخلى عن طاقاتها. فالدول اليوم لا تُقاس فقط بمواردها الطبيعية، بل بقدرتها على رعاية الإنسان المبدع والمنتج، وتعزيز شعوره بالأمان والانتماء. أما أن نطرد من ساهموا في بناء سمعة الكويت، ونُجرّدهم من هويتهم، ونحوّلهم إلى أشباح قانونية لا يملكون وثيقة تثبت وجودهم، فتلك سابقة خطيرة تُهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي على المدى الطويل.
لعل ما يضاعف القلق أن هذه الممارسات لا تجري في ظل فوضى أو انهيار، بل في دولة لها مؤسسات دستورية، وسابقة في العمل البرلماني، ورصيد من الحريات النسبية. ولكن يبدو أن هذا الرصيد يُستنزف، وأن القوانين تُعاد صياغتها بطريقة ارتدادية، لا تُراعي تراكمات الماضي ولا العدالة تجاه الناس.
نحن لا ننكر حق الدولة في تنظيم أوضاعها، وملاحقة من زوّر أو خالف القانون، ولكن كل ذلك يجب أن يتم وفق معايير عادلة، وضمانات قانونية واضحة، وبفصل دقيق بين الحالات. فالجنسية ليست رخصة إقامة، ولا وثيقة مؤقتة تُسحب متى رغب صاحب السلطة، بل هي هوية متجذرة، لها تبعات إنسانية واجتماعية واقتصادية لا يجوز الاستهانة بها.
خلاصة القول: إن سحب الجنسية، حين يتحول إلى أداة سياسية، يهدد بنية الدولة ذاتها، ويُحدث شرخا في الثقة المجتمعية، ويدفع بالكفاءات نحو الهجرة أو الانكفاء، ويزرع الخوف حتى في نفوس من لم تُمس جنسياتهم بعد. والنتيجة؟ خسارة وطنية فادحة يصعب تعويضها، مهما كانت الذرائع.
الكويت بحاجة إلى مراجعة جادة لهذه السياسة، والعودة إلى دولة القانون، لا دولة المزاج، إلى دولة الحقوق، لا دولة التصفيات. فالهوية ليست مجرد ورقة، بل شعور بالأمان، وانتماء يُبنى على العدل، لا على الانتماء العائلي أو المزاج السياسي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الكويت المواطنة الجنسية الهوية الكويت جنسية مواطنة هوية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
منصور بن زايد يبدأ غداً زيارة رسمية إلى دولة الكويت الشقيقة
يبدأ سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس الدولة، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس ديوان الرئاسة يوم غدٍ الثلاثاء زيارة رسمية إلى دولة الكويت الشقيقة.
أخبار ذات صلةويبحث سموه خلال الزيارة مع صاحب السمو الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت العلاقات الأخوية الراسخة، وسُبُل تعزيز التعاون والعمل المشترك بين البلدين في مختلف المجالات. وتأتي زيارة سموه في إطار تعزيز الأواصر الأخوية التاريخية المتينة، التي تجمع دولة الإمارات ودولة الكويت والحرص المتبادل على مواصلة تنمية تعاونهما بما يعود بالخير والنماء على شعبيهما الشقيقين.
المصدر: وام