(نص+فيديو) الدرس 4 من دروس القصص القرآني للسيد القائد 06 ذو الحجة 1446هـ
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في الآيات المباركة، في قصة نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في القرآن الكريم، تحدثنا على ضوء الآيات المباركة من (سورة الأنبياء) وبعض السور الأخرى، ووصلنا إلى موضوع: هجرته “عَلَيْهِ السَّلَامُ” من (بابل) في العراق، فهو ما بعد ما حدث من محاولة إحراقه، وظهور المعجزة العظيمة، والآية الكبيرة، وعدم انتفاعهم بها- بالنسبة لقومه- في أن تكون آيةً دافعةً لهم إلى الإيمان، والاتِّباع لرسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أذن له في الهجرة؛ لأن استمرار بقائه بين قومه في العراق، معناه: أن تبقى الرسالة مجمَّدة؛ بينما بالإمكان أن يفتح الله له آفاقاً واسعة، يترتب عليها نتائج كبيرة، وهذا ما حدث من خلال هجرته، ومن خلال نشاطه الواسع، ومن خلال نشره لدين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في مواطن أخرى، وكذلك إسكانه لأسرته، بعضاً منهم في مكة، وبعضاً منهم في الشام، وما ترتب على ذلك من نتائج ممتدَّة، وتمتد إلى قيام الساعة.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أذن له في الهجرة، فالهجرة- كما قلنا- ستفتح أمام هذه الرسالة الإلهية آفاقاً واسعة، وتفتح له هو “عَلَيْهِ السَّلَامُ” آفاقاً واسعة من العمل المثمر، والنتائج المهمة، التي تتحقَّق بجهوده ومساعيه.
هو قد أكمل مهمته فيما يتعلَّق بقومه، وأقام الحُجَّة لله عليهم بشكلٍ كامل؛ ولـذلك أعلن نيته وقراره في الهجرة، بناءً على إذن الله له: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وفي آيةٍ أخرى أخبر الله عنه أنه قال: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، عادةً ما تتحدث الآيات المباركة عن مقامات متعدِّدة، أو مناسبات متعدِّدة، أو أحياناً في المقام الواحد تكرَّر فيه التأكيد على موضوع معيَّن، بصيغ متعدِّدة وجوانب متعدِّدة، والقرآن هو ترجم مضمون ما عبَّر به في لغته، بالنسبة لنبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”.
هو مُقَرِّرٌ أن يهاجر في سبيل الله تعالى، إلى حيث يختار الله له الموطن المناسب الذي يهاجر إليه، هذه مسألة تركها إلى هداية الله، {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}، هو من سيختار لي حيث أذهب، وماذا أعمل، قد تكون بالنسبة للخيارات، في اختيار المنطقة المناسبة لأداء هذه المهمة الرسالية، مسألة صعبة، تحتاج إلى دِقَّة، فهو أوكل هذه المسألة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإلى هداية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكذلك ما بعد ذلك من خطوات عملية، ومسيرة عملية… وغير ذلك من التفاصيل، هو معتمدٌ على هداية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه النقطة تحدثنا عنها كثيراً، حتى في دروس شهر رمضان المبارك، في قصة نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، كيف كان يعتمد كل الاعتماد على هداية الله في كل شيء.
في قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، يُعَبِّر عن ثقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” برعايته؛ لأنه الربَّ الذي يتولَّى رعاية عبده في كل شؤون حياته، ومتطلبات حياته، وضروريات حياته؛ فهو يُعَبِّر عن ثقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبرعاية الله الواسعة، وأن الله لن يتركه، بعد أن وصل في مستوى الخلاف بينه وبين قومه إلى مستوى المباينة، والبراءة، والمتاركة، والمفارقة، وحتى مع محيطه الأسري، وهو واثقٌ بأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لن يتركه من رعايته ابداً.
الهجرة أيضاً لها اعتبارات متعدِّدة، فحينما قال هنا: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، الهجرة لها أيضاً صلة بالعِزَّة، والعِزَّة مسألة أساسية في الانتماء الإيماني؛ ولهـذا قال الله “جَلَّ شَأنُهُ” في القرآن الكريم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، فأن يبقى الإنسان الذي هو في الانتماء انتماؤه إيماني، أن يبقى- مثلاً- في بيئة هو في واقعه فيها مُستذل، مغلوبٌ على أمره، مقهور، لا يتمكَّن من أداء التزاماته الإيمانية، لا يستطيع ذلك؛ لأنه محارب، ومضطهد، وممنوع، ولا يمتلك مع رفاقٍ له ليكوِّنوا أُمَّةً مؤمنةً، تتمكَّن من القيام بالتزاماتها الإيمانية، وأداء مسؤولياتها الدينية؛ إنما هو في واقع الحال في حالة عجز، وحالة محاربة من جانب الآخرين من ذوي الكفر والباطل والشر، فهذه الحالة هي حالة غير مقبولة إيمانياً، يعني: ليس له أن يبقى في وضعية الإذلال، والعجز عن أداء مهامه والتزاماته الدينية والإيمانية في بيئةٍ كتلك، عليه أن يهاجر إلى حيث تتوفَّر بيئة وظروف يمكنه فيها أن يقوم بالتزاماته الإيمانية، وأن يستقيم على أساس انتمائه الإيماني.
عندما تكون البيئة التي هو فيها بيئة معاصي لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، معاصي، معاصي فيما يُرغم على فعله من العصيان، وفيما يرغم على تركه من الواجبات والالتزامات الإيمانية والدينية؛ فلا يَسُوْغ له البقاء في تلك البيئة، عليه أن يهاجر، طالما أمكنته الهجرة إلى بيئة تتوفَّر له فيها الظروف الملائمة، للقيام بالتزاماته الإيمانية، والاستقامة على دينه.
الواقع الإيماني قائمٌ على أساس أن يكون هناك تحرُّكٌ للمؤمنين ليكوِّنوا أُمَّةً مؤمنة، تتعاون فيما بينها على البر والتقوى؛ ولهـذا يذكر الله عن المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
المسيرة الإيمانية هي مسيرة جماعية، تقوم على أساس أُمَّة، تتوحَّد كلمتها على أساس دين الله، وهدي الله، وتعاليم الله، تتآخى في الإيمان، تتحرَّك على أساس التعاون على البر والتقوى، تنهض بالمسؤوليات الجماعية، من أمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر… وغير ذلك، إذا لم يتوفَّر هذا النصاب، لتكوين أُمَّة تنهض بهذه المسؤولية في مجتمعٍ معيَّن، وكانت الحالة فيها حالة فردية، الإنسان بمفرده يتَّجه الاتَّجاه الإيماني، فيرى نفسه عاجزاً أمام الواقع الذي هو فيه؛ لأنــه:
إمَّا في مجتمعٍ سيء، اتِّجاهه اتِّجاه فاسد، اتِّجاه منحرف عن نهج الله، معادٍ للحق. وإمَّا أيضاً قد يكون مع المجتمع سلطة ظالمة، فاسدة، مجرمة، والمجتمع خانعٌ لها.والإنسان في الحالة الفردية يرى نفسه في حالة عجز، هذه الحالة الحل لها ما هو؟ الحل لها هو الهجرة، وتصبح الهجرة في مثل هذه الحالات التزاماً إيمانياً بنفسها، ومن ضمن المسؤوليات والواجبات التي على الإنسان، أن يتوكل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” طالما هناك بيئة أخرى، أو منطقة أخرى، تتوفَّر فيها الظروف الملائمة أكثر للاستقامة، للالتزام الإيماني، للالتزام الديني… وهكذا.
أيضاً في مثل هذه الحالة، بالنسبة لنبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، أصبحت السلطة التي تحكم المجتمع الذي هو فيه، وعلى رأسها الطاغوت المستكبر، الملك الكافر، الذي يدَّعي الربوبية والألوهية، والذي ذكر الله مُحَاجَّة إبراهيم له، ومُحَاجَّتَه لإبراهيم، تحدثنا عنها بالأمس، ثم انحراف المجتمع بنفسه، بكهنته، بالوجاهات العشائرية والزعماء من العشائر، الحالة في ذلك المجتمع: أنهم يعادون نبي الله إبراهيم، ويعادون رسالته، إلى أقصى حد في العداء، وصل بهم الحال أن حاولوا إحراقه بالنار حَيّاً، وأرادوا أن يُلحِقُوا به هذا المستوى من المعاقبة، التي هي أشد عقوبة عندهم، فهو في بيئة معادية، وليس فقط بيئة لا تتقبَّل الرسالة الإلهية، حتى بعد أن وضحت لها الدلائل الكافية، والمعجزات والبراهين؛ إنما مع كثرها، وعدم استجابتها، هي بيئة معادية لأشد مستوى من العداء، وتستهدفه في حياته؛ استهدافاً للرسالة الإلهية بنفسها، من أجل هذه الرسالة التي أتى بها من عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولهـذا كان من الواضح أن استمراره بينهم معناه: أنه سيواجه المزيد من مكائدهم، من مؤامراتهم، من مساعيهم العدوانية لاستهدافه من جديد، فكانت الهجرة بالنسبة له- بإذنٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضاً، وفي اطار تدبير الله لشأنه- كانت أيضاً نجاةً له؛ ولـذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}؛ لأن لوطاً أيضاً هو مُعَرَّض لنفس الخطر والتهديد على حياته، ومضطهد أيضاً، يعني: إذا بقي، يواجه نفس المشكلة من الاضطهاد، من المحاربة، من المؤامرة على حياته، فهو يعيش نفس الأجواء.
من الواضح أن لوطاً وقف مع نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” ما بعد قصة محاولة الإحراق، ليس فقط موقف المؤمن المُصَدِّق؛ وإنما موقف المؤيِّد والمعاون؛ ولهـذا أتى في التعبير القرآني: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، (آمَنَ لَهُ)، فهو وقف معه، هو مؤمنٌ به، ولكن ما بعد محاولة الإحراق وقف أيضاً في موقف مناصرة، ومعاونة، ومؤازرة، وكان في موقفٍ واضحٍ معه، فكان مهاجراً معه.
لوط هو من أقارب نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، مع اختلاف كبير بين المؤرخين عن هذه القرابة ما هي؟ البعض قالوا أنه: ، البعض قالوا: ، البعض قالوا: ، البعض قالوا: ، البعض… اختلافات كبيرة، لكن لا شك أنَّه كان من أقاربه، فهاجر معه.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” اختار لنبيه إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أن تكون هجرته إلى الأرض التي- كما قال الله عنها: {بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}– بارك الله فيها البركات الواسعة، وهي بلاد الشام، بلاد الشام، يتَّضح ذلك أيضاً من (سورة الإسراء)، ومن آيات أخرى أيضاً.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بارك في بلاد الشام منذ زمنٍ مُبَكِّر، في تلك المراحل المتقدِّمة، وعلى مدى زمنٍ طويل، جعل فيها البركات الواسعة، في مقدِّمة هذه البركات، ومن أهمها، والدرجة الأولى أهميةً من هذه البركات هي: بركات الدين، بلاد الشام كانت موطناً لعددٍ لا بأس به من الرسل، والأنبياء، والمؤمنين، على مدى زمنٍ طويل، وهم ينشرون دين الله، ورسالة الله، ويعملون على هداية الناس بهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فلمَّا كانت موطناً للرسالة الإلهية، وعاش فيها الكثير من الرسل والأنبياء في حياتهم، وما في حياتهم من البركات، وما في وجودهم فيها، في إطار أدائهم لمهامهم العظيمة والمقدَّسة والمباركة، مع المؤمنين معهم، وبهم، ومع أنصارهم، ما كان مع ذلك من البركات الواسعة، فالبركات الدينية هي أهم البركات، وهي التي تتفرَّع عنها أيضاً بقية البركات في حياة الناس، في مختلف شؤون الحياة، في ظروفهم المعيشية، وسائر شؤون حياتهم.
وامتدَّت هذه البركات (في بلاد الشام) إلى ما جعل الله في تلك البلاد نفسها من بركات الدنيا، التي هي امتدادٌ لهذه البركات:
في صلاحيتها العالية للزراعة. في ما فيها أيضاً في مجال الزراعة من النباتات المميَّزة، ومنها: شجرة الزيتون… وغيرها من النباتات المباركة. وكذلك ما فيها من صلاحية عالية جدًّا لتربية الثروة الحيوانية: الماشية (المواشي)… وغير ذلك: أجواؤها، بيئتها، ظروفها، مميَّزة في صلاحيتها العالية لحياة الناس، وتوفُّر متطلبات حياتهم فيها على نحوٍ واسعٍ وميسور.فهذا كله من البركات التي جعلها الله فيها.
الهجرة أيضاً إلى بلاد الشام تهيَّأت فيها ظروف جديدة لنبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، مختلفة عمَّا عليه الحال في (بابل)؛ لأن بلاد العراق كان يحكمها (النمرود) طاغية، طاغوت، مستكبر، متكبر وظالم، ولكن لا يمتد حكمه وسلطته، وسيطرته لا تمتد إلى بلاد الشام، كانت متحرِّرة من سيطرته.
كما يظهر من المؤرِّخين، وفي كتب التاريخ، ومن بعض الآثار، أنَّ أبرز احتمال عن الوضع السياسي لبلاد الشام في تلك المرحلة: أنها كانت تخضع لسيطرة المصريين (ملوك مصر)، كانت تمتد سيطرتهم من مصر إلى الشام.
في تلك الآونة، الظروف، والأجواء، والبيئة المتاحة في بلاد الشام، قد لا تكون السيطرة المصرية عليها شديدة، أو لم تكن قد استحكمت عليها، كانت الظروف فيها مهيَّأة لأن يتحرَّك فيها نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” برسالة الله، بالدعوة إلى الله، من دون مضايقة ومحاربة واضطهاد، أو مساعٍ لاستهداف حياتهم، أو منع له، وهذا أفق مهم للرسالة.
ولـذلك حتى في سيرة الأنبياء “عَلَيْهِمُ السَّلَامُ”، هناك الكثير من الرسل والأنبياء ممن هاجروا، هاجروا وبعد هجرتهم فتح الله لهم آفاقاً جديدة لإقامة دين الله، لنشر رسالة الله، لهداية عباد الله، وانتقلوا إلى مجتمعات أكثر رشداً، وأكثر زكاءً، وأكثر تقبُّلاً لهدى الله ولرسالته ودينه، ذلك ما حدث حتى لرسول الله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، كان لهجرته من مكة إلى المدينة أهمية كبيرة جدًّا، وفتح أفق جديد لانتشار الإسلام، وإقامة الأُمَّة الإسلامية والدين الإسلامي، وانتصار أمر الإسلام، وما ترتب على ذلك، كانت ميلاداً للأُمَّة الإسلامية امتدَّت بركاته وتمتد إلى آخر أيام الدنيا.
استقر حال نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” بعدما وصل إلى الشام في (فلسطين)، وفي فلسطين فيما يعرف الآن بـ (الخليل)، منطقة الخليل هي سُمِّيت باسمه، باسم نبي الله إبراهيم (الخليل)؛ لأن من أوصافه المعروف بها: (خليل الرحمن)، فَسُمِّيَت باسمه، المنطقة تلك استقر فيها نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، واستقر فيها حاله، في نشاطه التبليغي، وعمله على هداية الناس، وفي الاستقرار لحياته، حيث أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضاً بارك له في رزقه، وفي شؤون حياته، يسَّر له شؤونه المعيشية في تلك البقعة، فاستقرَّت أوضاعه المعيشية، وبارك الله له أيضاً في رزقه، وفي ممتلكاته من الماشية، كان لديه عدد لا بأس به من الأبقار، يعني: في بعض الآثار، والروايات، والأخبار: المئات من الأبقار، إضافةً إلى الزراعة، فالله يَسَّر له كل شؤون حياته، وهذا مما وعد الله به المهاجرين في سبيله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}؛ لأن من يهاجر في سبيل الله قد يكون من الهواجس ومشاعر القلق التي تنتابه، هو: مستقبله المعيشي، حينما يهاجر إلى بلد آخر ليس لديه فيه ممتلكات، ولا إمكانات اقتصادية؛ لكن حينما تكن المسألة من أجل الله، وفي سبيل الله، وتقتضيها الحالة الدينية، يقتضيها الالتزام الإيماني؛ فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يهيِّئ هو سَعَةً في حياة الإنسان، يُسراً في أموره، وكذلك بركةً في رزقه ومعيشته… وهكذا، فأوضاعه المعيشية مع ظروف التبليغ، وظروف النشاط العملي، وأداء مهامه المقدَّسة في تبليغ رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تيسَّرت له في هذا المجتمع، وفي هذه المنطقة، بخلاف ما كان عليه حاله في العراق في (بابل)، كان يواجه المشاكل حتى مع محيطه الأسري، مع قومه، المشاكل الكبيرة، والأوضاع المختلفة تماماً.
في ظل ذلك الاستقرار، كان أيضاً يرغب بأن يرزقه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الذُّرِّيَّة الطَّيِّبَة، التي تكون امتداداً له:
في حمل دين الله. في الالتزام بنهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”. في الاستقامة على هدى الله “جَلَّ شَأنُهُ”. في العمل على هداية الناس.فهو يرغب في كيف تتوسَّع دائرة المؤمنين، ويرغب أن يكون له ذُرِّيَّة طَيِّبَة، وَذُرِّيَّة صالحة؛ تُعينه في أداء هذا الدور، وتلتزم معه على النهج الإيماني في طاعة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والعبادة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
كانت زوجته (سارة) عقيماً، لم تلد؛ ولـذلك فقد تزوَّج زوجةً أخرى هي (هاجر)، ودعا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، هو يريد ذُرِّيَّةً طَيِّبَة.
أشمل عنوان (عنوان كامل) لما تريده في ولدك، إذا أردته أن يكون ولداً متكاملاً في المواصفات، التي هي مواصفات كمال، كمال في إنسانيته، في أخلاقه، في قيمه، في رشده، العنوان الذي يجمع كل ما تفرَّق من المواصفات المهمة والطيِّبة، هو: عنوان الصلاح؛ ولهـذا قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، إذا كان ولداً صالحاً، يعني:
أن يكون راشداً. أن يكون زاكي النفس. أن تتكامل أوصافه وكمالاته الإنسانية، والإيمانية، والأخلاقية.فهو العنوان الذي يجمع كل ما تفرَّق من الصفات الإيجابية والمهمة والراقية، التي تريدها في ولدك، عندما يكون الإنسان إنساناً صالحاً، يريد أن يكون ولده أيضاً صالحاً.
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، أتته البشارة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالاستجابة لدعائه، وأنَّ الله سيرزقه ولداً صالحاً، كما طلب من الله وسأل، ويتميِّز مع الصلاح، في خِلَالِ الصلاح، وصفات الصلاح، بميزة معيَّنة من بين مواصفاته كلها، هو ولدٌ صالح، تتكامل فيه كل مواصفات الصلاح، ولكن مع ذلك يتميَّز بميزة هي: الحلم.
الحلم هو من أهم المواصفات الأخلاقية الراقية، عندما نأتي إلى مكارم الأخلاق، فالحلم من أهمها، ومن أهم المواصفات القيادية، للإنسان الذي يمكن أن يكون له دورٌ رائدٌ في الحياة، يُصلح في واقع الناس، في واقع المجتمع، يُغَيِّر إلى الأفضل، يترك الأثر الإيجابي في الحياة، فهو من جانب: من المواصفات المهمة في مكارم الأخلاق، والصفات الطيِّبة والإيجابية؛ وهو على مستوى الأداء القيادي، ومؤهلات القيادة للمجتمع، والدور المؤثِّر في المجتمع، هو من أهم المواصفات.
الحلـــم، في شرحه، وتعريفه، والحديث عن مدلول هذه المفردة المهمة، يشمل جوانب متعددة: هو يشمل التوازن الفكري، والنفسي، والسلوكي لدى الإنسان، الذي يتجلَّى بشكلٍ كبير حتى في حالة الغضب، والظروف المستفزة جدًّا للإنسان، في موارد الغضب والاستفزاز، وكذلك في حالة الرضا؛ فالإنسان الحليم هو إنسانٌ في تكامله، وسيطرته على نفسه، ومستوى انضباطه، ورشده، وتماسكه، يبقى متعاملاً على أساس القيم والأخلاق في مختلف الأحوال:
فلا غضبه، وانفعاله، وما يستفزه، يدفعه إلى أن يتجاوز الأخلاق والقيم؛ فيتعامل بطيش، وجبروت، وظلم، وإساءة، وتجاوز للياقة والأخلاق. ولا حالة الرضا، وانشراح الصدر، والارتياح والانبساط، تخرجه إلى حالة السفه، والعبث، والدناءة، والتصرفات غير الموزونة، غير المضبوطة بضابط الأخلاق، وضابط القيم.ولذلك فالحلم- فعلاً– صفة مهمة جدًّا؛ لأنها تعني: أنَّ الإنسان لا يخضع في تصرفاته، وأعماله، ومواقفه، للحالة الغريزة لدى نفسه: حالة الغضب والانفعال، أو حالة الانبساط، والانشراح (انشراح الصدر)، والارتياح، والرضا؛ بل يحكم حالة الغضب، والانفعال، والاستفزاز؛ وحالة الرضا، والانبساط، والارتياح؛ يحكمها جميعاً بأخلاقه، بقيمه، بدينه، ويبقى فيها ملتزماً، ملتزماً بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، متحلياً بمكارم الأخلاق، لا يخرج عنها، ولا يتجاوزها.
وهي من أهم المواصفات (صفة الحلم) التي وصف الله بها نبيه إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}، {لَحَلِيمٌ} بالتأكيد، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ}، وصفه الله بها مع صيغة التأكيد، التي تؤكِّد اتِّصافه بهذه الصفة على أرقى مستوى، على مستوى راقٍ جدًّا؛ لأن مختلف المواصفات بأنواعها يتفاضل الناس فيها، يتفاضلون في مستوى تحلِّيهم بها، والتزامهم بها، فنبي الله إبراهيم كان على درجة عالية جدًّا.
نبي الله إسماعيل “عَلَيْهِ السَّلَامُ” كذلك، وهو نبي من أنبياء الله إسماعيل “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وسيأتي الحديث عن ذلك- إن شاء الله- في المحاضرات القادمة، والدروس القادمة.
فالله بشَّره بغلامٍ حليم، يعني: مثل أبيه، يشابهه بهذه الصفة المميَّزة، مع بقية مواصفات مكارم الأخلاق، والمواصفات الكمالية المهمة. سيأتي الحديث عن قصة نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في المحاضرات القادمة إن شاء الله.
نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هو نقل هذا الفرع من أسرته: إسماعيل، وكذلك معه أُمَّهُ هاجر، بأمرٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولهدفٍ عظيمٍ ومقدَّسٍ، إلى مكة، ومع أنَّ نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هو ذهب إلى مكة لمرَّات متعدِّدة، بقي فيها أيضاً لفترات معيَّنة زمنية، إلَّا أنَّ مُسْتَقَرَّهُ كان في الشام، المستقر في أغلب وقته كان في الشام، كان يذهب إلى مكة:
ذهب لأداء الحج. ذهب لتأسيس البيت قبل ذلك. ذهب ما قبل ذلك أيضاً بهذا الفرع من أسرته؛ ليستقر هناك…إلخ.وهي محطات– إن شاء الله- سنتحدث عنها أيضاً في المحاضرات القادمة إن شاء الله.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
الدرس الرابع من سلسلة دروس القصص القرآني، في شهر ذي الحجة المبارك
للسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي
06 ذو الحجة 1446هـ 02 يونيو 2025م pic.twitter.com/jXAR5awn5D
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: نبی الله إبراهیم ى هدایة الله هذه البرکات إن شاء الله بلاد الشام على هدایة ت ع ال ى ع ل ى آل س ب ح ان ه على أساس دین الله فی حالة الله فی أن یکون الله له ین الله من الله ى الله فیها م ذلک من فیما ی ما بعد فی تلک ة الله ا أیضا
إقرأ أيضاً:
رؤية قرآنية تصنع أمة مجاهدة لا تخاف الموت .. الشهادة والشهداء في فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)
في زمن تتقاذف فيه الأمة موجات الهزيمة النفسية والضعف الروحي، برز الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) كمفكر ومجاهدٍ فريد، أعاد للأمة الإسلامية قيم العزة، والوعي، والاستعداد للتضحية. وفي قلب مشروعه القرآني المتجدد، تأتي الشهادة وقضية الشهداء كأحد أهم مرتكزات بناء الإنسان القرآني.يمانيون / تقرير/ طارق الحمامي
لم ينظر الشهيد القائد إلى الشهادة كمجرد “حدث” أو “نهاية”، بل قدّم رؤية متكاملة تجعل منها أسمى طموح الإنسان المؤمن، ووسيلة لبناء الأمة وتحقيق الانتصار الحقيقي.
الشهادة .. إلغاء لمفهوم الموت وبناء لروح الحياة
يبدأ الشهيد القائد حديثه عن الشهادة من أساس قرآني متين، حيث ينسف المفهوم التقليدي للموت في سبيل الله، منطلقاً من قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وفي شرح الشهيد القائد، يُلغى الموت من قاموس المجاهد، لا يُنظر إلى الشهيد كميت، بل كحيّ عند ربه، في كرامة دائمة وفضل إلهي عظيم، ليس ذلك فقط، بل إن إلغاء الموت هو وسيلة لدفع المؤمن نحو ميادين التضحية بدون تردد، حيث قال رضوان الله عليه : أن تخوفه بالقتل، فبماذا تخوفه؟ هو مجاهد يبحث عن الشهادة.
أعزة على الكافرين .. العزة التي تُترجم إلى مواقف
يبرز الشهيد القائد النموذج القرآني للمجاهد ، القويٌّ في وجه الأعداء، الرقيق والعطوف مع إخوانه، المتحرّك بنَفَس إيماني دون تردد أو تسويف، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، العزة هنا ليست صفة تجمّل الخطاب فقط، بل سلوك عملي وموقف سياسي وعسكري، يجعل من المجاهد إنسانًا رافضًا للخضوع، ينطلق بذاته وماله قبل أن يُطلب منه، وليس ممن “يثاقل إلى الأرض” أو “ينتظر من يدفعه”.
الشهداء صفوة مختارة والشهادة فضل من الله
الشهداء في رؤية الشهيد القائد ، هم صفوة اختارهم الله واصطفاهم الله، ومنحهم كرامة التفضيل، فهم من اختارهم الله ليمثلوا مشروعه في الأرض، ليكونوا البديل عن القاعدين والمثبطين، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}
أليس هذا اصطفاء من جانب الله لهم؟ تفضيل من الله أن اختارهم هم؟ ، هم الذين آمنوا بحقيقة أن الجهاد مهمة ربانية لا تُؤدى من باب التسلية أو المصلحة، بل استجابة خالصة لله، واستعداد للتضحية بالنفس والمال دون مقابل دنيوي.
المجاهدون لا يُشترون .. تفكيك ظاهرة الارتزاق
الشهيد القائد يفصل بوضوح بين المجاهد الصادق، وذلك المرتزق الذي يتحرك لأجل السلاح أو المال أو المصالح، وفي معرض نقده لظواهر الاستغلال التي رافقت بعض المعارك السابقة، يُبرز أن المجاهد الحقيقي لا ينتظر بندقًا أو صرفة: ما كانوا يوم ملكي ويوم جمهوري؟ مرة هنا ومرة هناك .. هؤلاء متعيشين، مرتزقة،
بينما المجاهد الحق كما يؤكد رضوان الله عليه ، ينطلق بنفسه وماله، بدافع الإيمان، وبهدف واحد، وهو نُصرة دين الله، ونيل إحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة.
ثقافة الشهادة .. صناعة أمة لا تُهزم
في فكر الشهيد القائد، الشهادة مشروع نهضوي، الأمة التي تحب الشهادة وتستعد لها، أمة لا تُهزم، والشهادة تصنع وعيًا، وتزيل الخوف، وتُربّي الإنسان على العزة والكرامة، وهو يرفض تصوير الشهيد كضحية، بل يؤكد أنه صاحب فضل، فائز، حاز على أرفع درجات الاصطفاء، هم ممن حازوا هذا الفضل العظيم .. هم مفلحون، فائزون، وليسوا متورطين.
الشهادة حياة وبعث لا نهاية
واحدة من أعمق أفكار الشهيد القائد التصويرية ، أن الشهيد لا يموت كما يموت الآخرون، بل ينتقل، االمجاهد لن يموت كما يموت الآخرون .. روحه تنتقل من بذلة لتعود إلى جسم آخر، كما تخلع الثوب وتلبس غيره.
هذا التشبيه يُبرز أن الحياة الحقيقية للإنسان تبدأ بعد الشهادة، وأن الموت لم يعد تهديدًا للمجاهد، بل أملًا ومقصودًا يُطمح إليه.
الشهادة قمة في الاستسلام الواعي والطوعي للهفي فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، لم تكن الشهادة مجرد خاتمة بطولية، بل تتويجًا لمسارٍ إيمانيٍّ شامل، يبدأ من لحظة وعي الإنسان بمسؤوليته أمام الله، وتُعد الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، مفتاحًا لفهم هذا المسار، فهو ينبه إلى أن الصلاة والنسك هما مقدمة لمسارٍ أشمل، يتمثل في أن الحياة والموت نفسيهما يجب أن يكونا لله، أي أن المؤمن لا يكتفي بأداء شعائر ظاهرية، بل يحوّل حياته كلها إلى ميدان عبادة، وموته إلى ختام لتلك العبادة، عبر السعي الواعي نحو الشهادة في سبيل الله.
ولذلك علّق الشهيد القائد قائلاً: لا يصح أن يُقال أمرت أن تكون حياتي بيد الله، لأن هذه قضية حتمية، لكن أمرت أن تكون حياتي لله، ومماتي لله، وهذا لا يكون إلا بجهاد، وسعي للشهادة.
الشهادة .. أعظم استثمار للموت
يرى الشهيد القائد أن الله برحمته الواسعة فتح أمام الإنسان فرصة استثمار الموت، الذي هو حتميٌّ لكل البشر، بحيث لا يكون الموت مجرد نهاية، بل وسيلة للفوز بالرضوان الإلهي والخلود في الجنة، (عندما يكون لدى الإنسان هذا الشعور: نذر حياته لله ونذر موته لله، فهو فعلاً من استثمر حياته، واستثمر موته) ، وهذا الشعور كما يؤكد رضوان الله عليه ليس حالة استثنائية، بل هو سمة أصيلة للمؤمنين الحقيقيين الذين باعوا أنفسهم لله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾
الإمام علي عليه السلام نموذجًا .. فزت ورب الكعبة
استلهم الشهيد القائد من سيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مثالًا على أرقى مشاعر نذر النفس لله، حين بُشّر بالشهادة، فلم يهتم إلا بسلامة دينه: ((يا رسول الله، أفي سلامة من ديني؟ قال: نعم. قال: إذن لا أبالي)).
رسالة عظيمة يُطلقها الإمام علي عليه السلام، إن الشهادة مقبولة ومحبوبة إذا كانت في سبيل الله وبحفظ الدين، هذه المشاعر لا تنبع من ضعف، بل من قوة إيمانية تدفع الإنسان لتجاوز غريزة التعلق بالدنيا، وجعل سلامة الدين فوق كل اعتبار.
حضور النموذج الجهادي وأثره في غرس ثقافة الشهادة
ينبّه الشهيد القائد إلى خطر تغييب الرموز الجهادية، وتغليب المشاهد العاطفية المنزوعة من روح البطولة، فيقول منتقدًا الاكتفاء بترديد أسماء مثل محمد الدرة فقط، دون إبراز القادة المجاهدين كعباس الموسوي ويحيى عياش: لأول مرة أسمع أنشودة لم تعجبني إطلاقًا .. نحتاج إلى أن ننشد للأبطال الذين سقطوا في ساحة المواجهة.
ويشدد على أن الرموز الجهادية تصنع وعيًا، تلهم نفوس الناس روح الفداء، وتُبقي ثقافة الشهادة حيّة، أما التركيز على مآسي عاطفية دون ربطها بسياق المواجهة والجهاد، فيفرغ القضية من جوهرها.
الشهادة ..عنوان الأمة التي تنصر الله
يعمق الشهيد القائد في هذا المحور الإدراك بأن الأمة التي لا تُنذر أبناءها لله، لا يمكن أن تكون أمة ناهضة، أمة تنشد الأمن دون تضحية، وتطلب العزة دون دماء، لن تنتصر، (ولا يمكن للمؤمنين أن يعلوا كلمة الله، ولا أن يكونوا أنصارًا لله، ما لم يكن لديهم هذا الشعور، أنهم نذروا حياتهم وموتهم لله)،
إن قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ﴾ في فكر الشهيد القائد هو بيان تكليف إلهي شامل، يجعل الشهادة ليست مجرد نتيجة بل غاية مقصودة، وسعي واعٍ ومحبوب لله، من يحمل هذا الوعي، يعيش لله ويموت لله، ويصنع من موته بوابة للحياة الأبدية.
الشهادة ضمانة للربح الحقيقي والخلاص الأبدي
يرى الشهيد القائد، أن الشهادة ، هي الضمانة الوحيدة للربح الأبدي، فالإنسان الذي يخشى الموت ويهرب منه هو في الواقع أقرب إلى الموت، لأنه يُضيّع الهدف، ويعيش بقلق، ثم يموت ميتة لا معنى لها، أما الشهيد، فقد كتب الله له الحياة الأبدية، (إذا كنت تكره الموت، فجاهد في سبيل الله، واطلب الشهادة، فبذلك فقط تُقهر الموت لا تهرب منه)، ويرى الشهيد القائد أن الآيات القرآنية لم تلغِ فقط خوف الموت، بل ألغت صفة الموت نفسها عن الشهداء: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وهنا تصبح الشهادة بوابة للحياة لا للموت، وهي أرقى درجات الاستفادة من حقيقة حتمية لا مفر منها.
الشهادة في التربية النبوية والعترة الطاهرة
يشير الشهيد القائد إلى أن النموذج النبوي في التضحية كان قائماً على تقديم النبي صلوات الله عليه وآله ، لأهل بيته وأقاربه في مقدمة صفوف الجهاد، ابتداءً من غزوة بدر، حيث قاتل أقرباء النبي وذووه في مقدمة المواجهة، كما يشير إلى أن الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾، هي خطاب خاص لقرابة النبي صلى الله عليه وآله، تُلزمهم بالتفاني التام في سبيل الله، ومن هنا، فإن قضية الشهادة ليست فقط تكليفاً عاماً، بل هي رسالة آل البيت ومسؤوليتهم التاريخية، وفي المقابل، يجب على الأمة أن تفهم الدين فهماً مسؤولاً، بأن كل تكليف إلهي هو نعمة وليس عبئاً، ومن يسير على درب أهل البيت لن يرى في الجهاد إلا تشريفاً، لا مشقة.
خاتمة
إن فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه حول الشهادة ليس خطابًا عاطفيًا، بل بناء فكري عقائدي متكامل، يستمد قوته من القرآن، ويهدف إلى إنتاج أمة تتحرك بوعي وإرادة واستعداد للتضحية، وثقافة الشهادة كما طرحها ليست أداة موت، بل وسيلة حياة ونهضة، ووسام فضل إلهي يُختص به من يحملون همّ الأمة ويجاهدون في سبيل الله، وفي زمن الغربة والانحراف، ما أحوج الأمة اليوم إلى استعادة هذا الفهم الراقي للشهادة، لتكون كما أراد الله لها، {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}.
المصادر / محاضرات ودروس الشهيد القائد رضوان الله عليه