لجريدة عمان:
2025-08-02@18:53:30 GMT

الرينيسانس: تأملات في عصر النهضة!

تاريخ النشر: 7th, June 2025 GMT

الرينيسانس: تأملات في عصر النهضة!

(1)

لا يمكن أبدًا كتابة تاريخ دقيق للفكر والثقافة المصرية في القرن العشرين، من دون الوقوف عند إحدى محطاته التكوينية الأساسية الفاعلة؛ فكرًا وثقافة وأدبًا وتاريخًا وفنًا وعلومًا وموسيقى! نعم. إننا بإزاء شخصية موسوعية تكاد تمثل "دائرة معارف عميقة وغزيرة" بكل ما تعني العبارة.

أتحدث عن طبيب العيون والبيولوجي وعالم البحار والموسيقيّ والفنان والمؤرخ الأديب الدكتور حسين فوزي (1900- 1988) الشهير بسندباد العلوم والمعارف والفنون والآداب؛ أحد أبناء الرعيل الأول من بناة النهضة المصرية الحديثة؛ جيل طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وأمين الخولي، وغيرهم،

وصاحب الاهتمامات العلمية والتاريخية والأدبية والموسيقية والفنية، الغزيرة، المتنوعة، والذي عاش عمره يدعو إلى التفكير العلمي، والنهضة والرقي الفكري والحضاري، كأحد رواد النهضة والتنوير في مصر في القرن العشرين.

والدكتور حسين فوزي مثقف واسع النظرة، يجمع بين العلم والأدب والموسيقى، ويعتنق رؤية حضارية مستنيرة أخلص لها في كل مراحل حياته وحتى وفاته؛ وتكشف مجمل أعماله رفيعة المستوى عن مفهوم مثالي للتنوير، كان يرى صورته المثلى في حركة النهضة الأوروبية التي تبلورت في الأراضي الإيطالية وعبرت عن نفسها كأحسن ما يكون التعبير فيما فعرف بنموذج "فلورنسا" الحضاري.

(2)

والدكتور حسين فوزي يمثل صورة نموذجية للمثقف الذي لا ينعزل في برجه العاجي ويكتفي بالنظريات المغلقة والقراءات لذاتها، فقد كان يحاول أن يؤثر ويغير ويخلق حالة من «الرينسانس» في مصر، وعلى مثال النموذج الأوروبي الذي أخلص له غاية الإخلاص؛ وكان سبيله إلى ذلك فن الموسيقى بنوع خاص، والذي سعى إلى غرسه في البيئة المصرية والعربية، على مثال الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وكانت له جهوده التأسيسية التي لا تنكر في هذا المجال، وعن إغرائه لطه حسين لكي يؤسس لهذا الفن في عهده، وتوالت جهوده بعد ذلك من خلال مؤلفاته وأحاديثه الإذاعية، وشرحه للأصول الأولى لهذا الفن، وتقديمه للأعمال الكلاسيكية الجليلة، حتى استطاع هذا الفن بفضل مجهوداته أن يصبح حقيقة ملموسة في مصر، ومن خلال مؤسسات تنافس المؤسسات العالمية.

جوانب إسهامات الدكتور حسين فوزي عظيمة ومتسعة ومتشعبة، وإن كان يربط بينها جميعًا من أقصى درجات الإبداع والخيال إلى أقصى درجات الانضباط العلمي والموضوعي "النهضة" و"فن صناعة الحضارة" والبحث عنها، والبحث عن صيرورتها واتصالها.

(3)

والدكتور حسين فوزي من كبار مثقفي مصر والعالم العربي الذين أولوا هذا العصر اهتماما كبيرا وخصوه بمزيد من القراءة والدراسة والمعايشة؛ وقد تجلى هذا الاهتمام في إنتاج حسين فوزي ونشاطه الثقافي والمعرفي الكبير؛ وإن كان قد تجلى بشكل أكثر بروزا وحضورا في كتاب له صدر عن دار المعارف قبل ما يزيد على نصف القرن بعنوان «تأملات في عصر الرينسانس».

في هذا الكتاب صغير الحجم عظيم الفائدة يتناول المؤلف عصر الرينيسانس أو ما يعرف بعصر النهضة أو عصر الإحياء، وهي تلك الحركة الزاهرة التي بدأت في التبلور والانتشار في إيطاليا العصور الوسطى. "عصر النهضة" هو الذي أعقب القرون الوسطى، التي كان مركز السلطة فيها والهيمنة للكنيسة، وباسم الدين وقدسية الدين كانت الكنيسة تسيطر على عقول ووجدان وسلوك الناس في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم وعلاقاتهم.. إلخ، جاء عصر النهضة بنظرة مغايرة تماما؛ عقب اهتزاز سلطة الكنيسة الكاثوليكية بظهور حركة الإصلاح الديني، وزاد في تصدع هذه السلطة وطأة ضربات التطورات العلمية والفكرية والاكتشافات الكونية.. إلخ،

وعرض الكتاب بإيجاز لهذه النظرة وقصة العلاقة بين الدين والسلطة، كما عرضها العالم المسيحي في الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة الأوروبية، ليخلص في النهاية إلى أن الفكر الأوروبي لم يتحرر إلا بعد أن خلع عن نفسه نير الوصاية الكنسية.

ويوضح حسين فوزي في كتابه القيم أن تقوُّض سلطة الكنيسة وانقشاع الهيمنة التي كانت لها على نفوس الناس، لم يكن يعني (كما يفهم الكثيرون أو يتصورون وهما) أن مكانة الدين في نفوس البشر قد انزاحت. أبدا لم يحدث هذا! ولم يتحول الناس إلى كفار أو ملحدين كما يشيع في كتابات المحافظين والمتدينين عن تلك الفترة!

ولم يكتف المؤلف بالمراجع الموثوق بها التي تناولت هذا العصر، لكنه جمع إلى جانب هذا تأمله الخاص، خلال مشاهداته، ومعايشته لهذه الحضارة، متنقلاً بين فنونها وآدابها وآثارها. ويشعر القارئ أن مثل هذا الكتاب ينقله إلى مناطق التاريخ والأدب والفن، ويقرب حضارة العالم البعيد ليجعلها بين يديه دون أن يبذل من نفسه غير الرغبة في القراءة والاستمتاع والمعرفة.

(4)

الغريب أن هذا الكتاب القيم من بين كتب الدكتور حسين فوزي لم يحظ بالشهرة ولا الاهتمام التي حظيت بها سلسلة كتبه الشهيرة السندباديات مثلا (سندباد مصري، سندباد عصري، حديث السندباد القديم.. إلخ)، ولا مثلما حازتها كتبه الأحرى في مجال الموسيقى (عن الموسيقى السيمفوني، وبيتهوفن.. إلخ)

وربما يعود ذلك إلى أنه من كتبه المتأخرة فقد صدرت طبعته الأولى عن دار المعارف عام 1984 أي قبل وفاته بأربعة أعوام فقط (وإن كنت أشك في أن طبعته الأولى قد صدرت في هذا التاريخ لأسباب وشواهد نصية قد تضيق بها مساحتنا المحددة)، وكما جاء في ديباجة التعريف بالكتاب:

"... أجاد فيه تصوير روح الحضارة التي تكفلت بالانتقال من العصور الوسطي إلى عصور الإحياء، مناقشًا في هذا الصدد فلسفات وآراء وتصورات كبار رجال النهضة، كما تجلت في أعمال ميكيافيلي، والشاعر بترارك، والبابا إسكندر السادس، وميراندولا، ومقدمًا نبذات مهمة ووافية عن هذه الشخصيات.

عن أثر هذا الكتاب وقيمته وأهميته، يقول المرحوم رجاء النقاش في مقال له بالأهرام:

"بالصدفة، وقع كتاب في يدي للعالم والأديب الكبير الدكتور حسين فوزي (1900-1988) صديق توفيق الحكيم الدائم، وأحد الأدباء والمفكرين الرواد منذ الربع الأول من القرن العشرين وحتى نهاية هذا القرن العشرين،‏

وللدكتور فوزي كثير من الكتب المهمة على رأسها كتابه الشهير «سندباد مصري» والذي يروي فيه تاريخ مصر منذ أيام الفراعنة حتى العصور الحديثة بطريقةٍ فاتنة،‏ تحتفظ للتاريخ بحقائقه الواضحة، ولكنها تقدم ذلك في أسلوب فني ساحر سهل بديع"‏.‏

"كان الكتاب الذي وقع في يد النقاش، وهو يفتش عن كتاب يخرج معه بالصدفة،‏ ويحمله إلى عصر غير عصره،‏ أملًا في أن يبعده ذلك ساعات أو أياما عن مشاغل الواقع الراهن،‏ هو كتاب الدكتور حسين فوزي وعنوانه «تأملات في عصر الرينيسانس»؛ الذي يصفه قائلا "والكتاب لطيف ومليء بالمعلومات الدقيقة،‏ وهو كتاب صغير لا يجد الإنسان تعبًا في قراءته،‏ ولا يستغرق وقتًا طويلًا في هذه القراءة. كتاب بسيط وممتع ومفيد وشديد التركيز في تقديم المعلومات الرئيسية عن عصر الإحياء أو عصر النهضة الأوروبية،‏ وكاتبه من هذه الناحية يعرف موضوعه حق المعرفة".

(5)

وقارئ كتاب (تأملات في عصر الرينسانس) يخرج بانطباع له شواهده وإثباتاته على أن الدكتور حسين فوزي مثقف واسع النظرة، يجمع بين العلم والأدب والموسيقى، ويعتنق رؤية أوروبية أخلص لها في كل مراحل حياته وحتى وفاته. وسيجد قارئ الكتاب صورة للمثقف الذي لا ينعزل ويكتفي بالنظريات والقراءات، فقد كان يحاول أن يؤثر ويغير ويخلق حالة من «الرينسانس» في مصر، وعلى مثال النموذج الأوروبي الذي أخلص له غاية الإخلاص.

وكان سبيله إلى ذلك فن الموسيقى بنوع خاص، والذي سعى إلى غرسه في البيئة المصرية والعربية على مثال الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وقد ركز في دعوته لهذا الفن على المفهوم الإنساني المشترك، الذي يخاطب الإنسان في كل مكان، دون محاولة منه للوقوف على «خصوصية» هذا الفن، التي اكتسبها خلال مسيرته في تاريخ الحضارة الأوروبية.. (وللحديث بقية)

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القرن العشرین عصر النهضة هذا الکتاب هذا الفن على مثال فی هذا

إقرأ أيضاً:

(حسين خوجلي .. المتهم الأول في بحري)

على غير موعد وجدتني فجأة في قلب مكالمة جماعية عبر خاصية الواتس آب تجمع ثلة من أبناء وبنات بحري المغتربين و النازحين ،لوهلة، اعتراني ذلك الوجس الذي يسبق الأخبار السيئة فمكالمات كهذه لا تأتي في الغالب إلا وهي تحمل على أكتافها الفواجع ،تماسكت، ورددت في سري اللهم اجعله خيراً، ثم أجبت.

استقبلني الجمع بترحاب دافئ، لكن سرعان ما تبيّن لي أن سبب اجتماعهم ليس سوى شكوى جماعية من الأستاذ حسين خوجلي وقد اتضح أن الرجل نشر مقالاً استعاد فيه إحدى طرائف شاعرنا الراحل أبو آمنة حامد ، عليه ألف رحمة ونور ، فأشعل بكلماته فتيل الذكريات و الطرائف .

بدأ الجميع يستدعون الطرائف، وكل طرفة تنجب احد ابناء بحري فتتم إضافته للمكالمة ، حتى صار مجلسنا أشبه بمهرجان صغير للضحك والذكريات ومع كل ضحكة، كان الحنين يحفر مجراه في الصدور، فيقود إلى حكاية أعمق، وذكرى أدفأ واسم غائب تشتاقه الأرواح وحين جاء دور احدهم في الحكاية، تسلل الحزن من ثغرة صغيرة و كحال أفراحنا التي لا تكتمل مؤخراً ،فجأة، انفجرت إحداهن في نوبة بكاء حار وما هي إلا لحظات حتى انتقلت العدوى إلى أخريات، وتحوّل الضحك المتوهج قبل قليل إلى صمت مبلّل، و تحولت القصص الى غصة في الحناجر و تسربت دموع الجميع و جعلتنا ننسحب واحداً تلو الآخر من المكالمة ، هذه المكالمة التي جعلتنا نعبر من ضفاف الضحك إلى مجرى البكاء، لم تكن كسابقاتها، وكأنما بحري نفسها كانت بيننا، تربّت على أكتافنا بينما عيناها تدمع معنا.

طرفة شاعرنا الراحل أبو آمنة حامد قادتنا إلى أسرته، وحنان وكرم الحاجة فاطمة زوجته، وشهامة ورجولة الشهيد أيمن ابنهم. وأخذتنا إلى قفشات هشام درماس في الشعبية، وعذوبة صوت كمون، و”مندلين” عاطف بحلة خوجلي، وهناك أيضًا أشرف فريني، أسطورة بحري الفنان الذي ضل طريقه إلى الملاعب ليُطلق عليه أبو اللول، أجمل القفشات في استاد التحرير.

مجرد طرفة داخل مقال، جابت بنا شوارع حي الدناقلة حيث خالد نحل و( الهلالي)و( السربندية) وخراطيشو، وأزقة الديوم، وحكاوى قشلاق البوليس، وبيت ود أبكر العامرة.
هذه المدينة التي تسكننا، حتى الآن لا نعلم إلى أي قبيلة ينتمي ( الحوت ) ولا لأي قبيلة ينتمي (فرفور) فهناك في حي الصبابي يستظل الفقراء والأغنياء تحت ظلال أشجار المانجو، وبين حقول الجرجير كأسرة واحدة فالقبيلة عندنا هي بحري، والحي الذي نسكنه هو العائلة. فنجد طه سليمان الشمباتي، وفرفور ود الصبابي، والحوت ود المزاد و شمسها التي غابت .
لم تخلُ مكالمتنا من بعض النميمة في هدى عربي، حينما تحدثنا عن سرقتها لصوت وموهبة والديها، وعن دموع عوض احمودي القريبة جدًا. كانت نميمةً ذات بُعد خامس، لم ترحم عاطف بلو، ولم تترك (اليمانية) في حالهم. ولم ننسَ (آل طُلبة)، و(آل جردل)، ومحجوب عبد الحفيظ، ويسرية محمد الحسن.

بحري لا تحتاج لأن تعرفها بنفسك ، فهي التي ستتعرف عليك. وإن جئتها غريبًا، ستصبح ابنها في أقل من ساعة. فبحري ليست مجرد أحياء سكنية، بل هي عائلات عريقة، بدايةً من أبو العلا، ومعوض، ورستم، والسناهير، والكوارته، والخواض، وآل عامر و حمد و خوجلي، ولن تكفي المساحة لذكر البقية، فجمهورية شمبات وحدها تحتاج مجلدات لفرقانها وعائلاتها، وقد تجف أقلامنا إن تحدثنا عن الحلفايا والهجرة والمزاد و (توتي )، نعم، توتي فبحري إبنة توتي الشرعية .
أما المغترب البحراوي، فهو يجرّ بحري معه أينما حلّ في لهجته، في قهوته، وفي ضحكته التي تبدأ قبل أن تمتد يده للمصافحة، وفي سخريته التي يهاجم بها الغرباء قبل أن يتعرف إليهم، ليكسر الحواجز ويفتح الأبواب ، وعندما يلتقي ببحراوي آخر في الغربة، فلا مجال للحديث في السياسة أو أي شأن آخر فالحديث كله لبحري وحكاويها، حتى وإن كانوا يلتقون يوميًا.
المؤلم في الأمر، أن بحري الآن تحتاج إلى أبنائها، وتتألم لفراقهم… بحري تحتاج لــ( رامبو ) جديد فجميع أبنائها المغتربين ينامون على صوت إبن البادية وهو يردد…
حسنك أمر
أحمل صبابات الهوى
و أحضن براي نار الجوى
لا كل قلبي و لا فتر
حسنك أمر
واااا لهفة القلب الحنين
وااااا لوعتو
شايل عذاب الغربة
يحلم
و ينتظر يوم رجعتو
أبكاهو في دربك سفر
لكنو حابس دمعتو
وااااااا ضيعتو
واااااااااا ضيعتو
لو ما رجع من غربتو
واااااا ضيعتو
نزار العقيلي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • انخفاض معدل الأمطار على النيل الأزرق.. ما تأثيره على سد النهضة؟
  • محسن البلوشي يعتذر عن التدريب هذا الموسم
  • المنتخب الأولمبي يلاقي النهضة في نهائي بطولة الخريف.. غدا
  • أيمن حسين يوقع رسمياً مع الگرمة قادماً من الدوري القطري
  • الأحمر الأولمبي ونادي النهضة في نهائي بطولة الخريف
  • (حسين خوجلي .. المتهم الأول في بحري)
  • تأملات قرآنية
  • مجدي أبوزيد يكتب: الجامعات الأهلية.. إحدى ركائز النهضة العلمية والاقتصادية في مصر
  • “إلى أين؟”.. عرض ليبي يُجسّد القلق الوجودي ضمن مهرجان المونودراما العربي في جرش 39 اللجنة الإعلامية لمهرجان جرش بحضور ممثل عن السفارة الليبية في عمان، وجمع غفير من عشاق المسرح، وضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان المونودراما المسرحي، قدّمت ا
  • النهضة يشارك في سحب قرعة دوري أبطال الخليج