مع كل لقمة أو جرعة ماء يزدردها المرء يتذكر المظلمة الواقعة على الفلسطينيين في غزة اليوم، لا يمكننا إدارة وجوهنا عن ذلك ولا تجاهله، بل علينا أن نراه، وعلى الإعلام أن يحاصرنا به، فهذا حال الإنسانية اليوم، ومأساة الفلسطيني الذي كتب عليه أن يكون رمزها وضحية انفصام العصر، كما قال فرانك بارات في مقدمة كتابه (عن فلسطين) ٢٠١٤، الذي هو حوارات مع نعوم تشومسكي وإيلان بابيه: «القضية الفلسطينية ليست إلا تجسيدًا لكل ما هو خاطئ في هذا العالم».
هكذا ارتفعت الأسبوع الماضي، أخيرًا، أصوات الدول الأوروبية مهددة بالاعتراف بدولة فلسطين، في وسيلة للضغط على إسرائيل من أجل فك الحصار عن غزة، في خطوة تليق بالساسة الغربيين، وكأن الساسة الغربيين يقولون للفلسطينيين المقتلين المدمرين والجوعى المحاطين بالموت كأنهم في لعبة فيديو، تحملوا شهرًا آخر فربما نعترف لكم بدولة تحمل اسمكم أو تحملون اسمها، وسنفعل ذلك لا لشيء إلا لإغاظة إسرائيل التي تحرجنا تصرفاتها.
أما وسائل الإعلام الغربية فما تزال مترددة في تسمية ووصف حرب الإبادة الحالية في غزة، فيما التطهير العرقي حقيقة مثبتة منذ عقود، لكنها مغيبة غربيًا في الخطاب العام، هكذا عمد المؤرخ الإسرائيلي البريطاني المعاصر إيلان بابيه لإصدار كتابه عام ٢٠٠٦، والذي وثق بالأدلة المستقاة من الأرشيف الإسرائيلي خطط التطهير العرقي (التطهير العرقي في فلسطين) بترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ويقول في خاتمته: «قد يكون كتب على إسرائيل أن تبقى بلدًا مملوءًا بالغضب، وأن تظل أفعالها وسياساتها محكومة بالعنصرية والتعصب الديني».
إن ما يجري في غزة اليوم ليس إلا حلقة جديدة من مبادئ إسرائيل التأسيسية، تصفية الفلسطينيين وطردهم، بغرض سرقة الأرض من أهلها بالقوة، وتوطين اليهود، وحبذا الغربيين، فهذا هو المشروع الصهيوني باختصار، وهو سرقة فلسطين بدعوى أساطير عجزت كل التنقيبات الآثارية طوال هذه العقود الثمانية عن إثباتها، كما يؤكد المؤرخ المعاصر كيث وايتلام في كتابه (اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني): «إسرائيل ليست إلا مجرد كينونة في الزمان الفلسطيني الكاسح.. إسرائيل لم تكن إلا خيطًا رفيعًا في نسيج التاريخ الفلسطيني الغني». ص١٠٤، ترجمة سحر الهنيدي، منشورات عالم المعرفة الكويتي.
كل هذا الجهد الجمعي الهائل الذي تقوم به إسرائيل طوال عقود هو من أجل خلق شيء من لا شيء، أو بالأحرى خلق كيان أمة من خيط تاريخي مهترئ، في مشروع معاكس لمجرى التاريخ الطبيعي، مدفوع بمحركات استعمارية، مشفوعة بتصورات لاهوتية ودينية موغلة في القدم، تعود لجماعات حاولت في الشتات لم تفرقها وتذويب اختلافاتها عبر النصوص اللاهوتية، وها هي الآن بالعكس تعمل على تشتيت نفسها بشرعنة الجريمة والاختلاق المعرفي والادعاءات الباطلة والدعاية الإعلامية، بينما لا تحصد إسرائيل المعاصرة غير فشلها، حتى الساعة، رغم الدعم الغربي المفتوح، وعجزها في إقناع ذاتها بذاتها، لإقامة دولة حقيقية آمنة ومستقرة، غير مضطربة ولا مرعوبة من جرائمها وكثرة أعدائها الداخليين قبل الخارجيين، دولة يمكنها البقاء دون إدمان الجريمة.
لا شك أن هناك خطابا يهوديا مضادا لهذه النزعة الصهيونية، ويرى جرائمها بوضوح، ويدرك أنها تقود نفسها بمباركة الإمبريالية الغربية وتشجيعها لحفرة تاريخية تطمرها، لكن غرور القوة المطلقة، بالتفكير الديني التقليدي، يجعل قادة إسرائيل يتصورون أن بين أيديهم ما يكفي لامتلاك الأرض والتاريخ المعاصر وإبادة البشر ونهب الأرض، وهذا نفس المنطق الاستعماري الغربي قبل خمسة قرون، وبنفس الدوافع الدينية المسيحية التي كانت تصطحب الرهبان والقساوسة على متن سفن حملاتها الاستعمارية لإضفاء شرعية دينية على عملياتها المنظمة لنهب ذهب العالم.
إن الخرافة الصهيونية التي تدعمها وتدعيها الصهيونية، كقومية يهودية متطرفة وإرهابية، أخطر من الإرهاب الإسلامي والمسيحي بمراحل بما أن تلك مجرد جماعات مسلحة وهذه دولة مسلحة، هي خرافة بلهاء بمعاييرنا المعاصرة، فأي إله هذا الذي يعطيها الحق في إبادة واستعباد بقية الجنس البشري لمصلحتها الضيقة، فهذه الخرافة تليق بقبيلة بدائية في عصور ما قبل التاريخ، وليس بدولة معاصرة. مع احترامنا للاعتراض على تعبير «ما قبل التاريخ»، وهي خرافة بدائية وأسطورة تسقط أمام أول تمحيص حقيقي، حتى التمحيص الديني.
إن القتل والإبادة والتطهير العرقي جرائم يعرفها الإنسان بالفطرة، ولا يختلف في ذلك الملحد المعاصر أو الدولة الإلحادية التي تبرر فعلها بمصلحة الحزب والأمة، عن الدولة الدينية التي تبرر فعلها بالصك الرباني؛ فالجريمة واحدة، ولا يمكن أن تقوم على مبررات غيبية، أو علمية، ولا فرق في المحصلة بين حملات أوروبا الاستعمارية التي أبادت شعوب العالم، من أمريكا اللاتينية إلى الصين، ولا حملات هتلر النازية لقتل اليهود، ولا حملات الاتحاد السوفيتي لتعذيب الناس واعتقالهم وقتلهم، أو اليابان القومية أو الصين الشيوعية، ولا ما تقوم به إسرائيل اليوم، فالمحصلة واحدة، وليست أكثر من تطهير عرقي وحرب إبادة من أجل النهب والسلب.
إن الدعوات الأوروبية اليوم للاعتراف بفلسطين تأتي متأخرة جدًا، وهي رغم أنها مجرد تصريحات، ما تزال متذبذبة، تعبر عن خطى مترددة إن لم نقل جبانة، أمام حجم الآلام المعاصرة للفلسطينيين، بكل تغريبتهم المعاصرة في الداخل أو في المنافي والمهاجر، وهذه الجريمة المعلنة والمشهرة اليوم تعلمنا، بقدر ما تلقي من الضوء، على حجم التورط والعقل السياسي الغربي المنغلق الذي صدر للشرق هذا التوحش الغربي «الأبيض»، الغارق في ظلامية قرونه الوسطى، حتى أنه من شدة ظلاميته لا يرى ولا يريد أن يرى حجم المأساة المستمرة.
إن هذه الورطة الغربية اليوم في الوقوف ودعم إسرائيل في جريمتها هو التخلف بعينه، ولا يمكن لمن يدعم مثل هذه الجريمة المستمرة أن يدعي الحضارة، ولا شك أن المواقف المشرفة التي يقوم بها الناس العاديون في الغرب هي أكبر دليل وحجة على أن المسلك الحضاري يقوم على المبادئ الأخلاقية العامة للإنسانية الشاملة، لا الحصرية، وعلى التحرر من ظلامية الخطاب إلى نور المعرفة، ولكن حتى هذا المسعى الشعبي النبيل يصطدم اليوم بتلك الظلامية نفسها عبر التضييق والحصار ويتعرض للسجن والملاحقة، وهو ما يبين عمق تغلغل الخطاب الظلامي في النسيج السياسي الغربي، ولنا أن نتساءل ما المبرر الأخلاقي الذي تستخدمه هذه الطوائف المهيمنة؟ لنجد أنه ليس إلا المبرر الظلامي الديني نفسه.
لكن أي خلاص ينتظره الغرب المسيحي اليوم من هذه الجرائم الصهيونية، وما سيكون مستقبل إسرائيل نفسه ما دامت أسسها مبنية على جريمة مؤكدة ومعلنة، وأي خلاص يأمله الإنسان اليهودي الإسرائيلي اليوم لنفسه وأبنائه وأجياله القادمة من هذه الورطة المعمدة بالجرائم المفضوحة، والتي لا تستحي إسرائيل ولا تخجل من ارتكابها على الملأ؟ ولماذا في المحصلة لا تخجل الصهيونية اليوم من نفسها؟ هل لأنها في الحجاج الديني تنظر لبنوتها للغرب المسيحي الاستعماري بوصفه أمومة تاريخية سالفة في الأصل تجسدها هي كدولة؟ فهي أم الحضارة الغربية المغرورة وبالتالي فإن تلك الأمومة تعطيها الحق في قتل ونهب وإبادة كل من عداها. فهل بلغت الحضارة الغربية اليوم هذه الدرجة من الانحطاط؟
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
النخلة تراث عبر التاريخ مبادرة مجتمعية لطلبة سمد الشأن بالمضيبي
العُمانية/ نُظِّمت اليوم في نيابة سمد الشأن بولاية المضيبي بمحافظة شمال الشرقية، المبادرة المجتمعية الطلابية بعنوان "النخلة تراث عبر التاريخ، نفّذتها دائرة المواطنة بوزارة التربية والتعليم، بمشاركة أكثر من 50 طالبًا وطالبة من البرنامج الصيفي بقرية الصويريج في نيابة سمد الشأن.
وأوضحت صبحا بنت سليمان الهيملية، باحثة تربوية أولى بدائرة المواطنة بوزارة التربية والتعليم، أن المبادرة تأتي لما تمثله النخلة من أهمية في المجتمع العماني وحفاظًا على تاريخها، وتهدف إلى تعريف الطلبة بأهميتها ومكوناتها وما تمثله من مصدر رزق للإنسان العُماني على مر العصور، لافتة إلى أن المبادرة تعزز قيم المواطنة وتحافظ على السمت العُماني الأصيل في التعامل مع النخلة واستغلالها في كافة مراحلها.
وأكدت أن المبادرة تسلط الضوء على مكونات النخلة وأهمية كل منها، والتعريف بالموروث التاريخي للنخلة عبر التاريخ، وتعريف المشاركين بأنواعها وأصنافها، وأبرز الصناعات المنبثقة منها وأهميتها الاقتصادية، إضافة إلى دور المبادرة في تعزيز ضرورة الحفاظ على النخلة ومزاولة المهن المرتبطة بها باعتبارها جزءًا من الهوية والثقافة الوطنية بالمجتمع العُماني.
كما تضمنت المبادرة التعريف بأنظمة الري القديمة كالأفلاج، وطرق قسمة المياه بين المزارعين، والتعريف بطرق بيع حصص الأفلاج، وأوقات الري بالطرق التقليدية التي تعتمد على معرفة الأوقات قديمًا عن طريق النجوم أو ما يسمى بـ"الصوار".
واختتمت المبادرة بالتطرق إلى التعريف بـ"موسم القيظ" وما يصاحبه من فعاليات مجتمعية، مثل "طناء النخيل"، و"جداد النخيل"، و"التبسيل"، وغيرها من الفعاليات الموسمية المصاحبة لموسم القيظ في سلطنة عُمان.