تاريخ ميكنة الخوارزميات: بين الفكرة والآلة والعمل
تاريخ النشر: 18th, June 2025 GMT
مصطلح «الخوارزمية» (Algorithm) الذي يشكّل حجر الزاوية في علوم الحوسبة والرياضيات اليوم، له جذور تاريخية تمتد لأكثر من ثمانية قرون، وتنبثق من تلاقي عميق بين الرياضيات، واللغة، والتاريخ. لم يولد هذا المفهوم داخل مختبرات السيليكون فالي، بل من صلب تفاعلات ثقافية وحضارية امتدت من بغداد العباسية إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، ومن شعراء العصور الوسطى إلى فلاسفة التنوير الأوروبيين.
في أوروبا العصور الوسطى، كانت الحسابات تتم باستخدام الأرقام الرومانية، وهي نظام عددي محدود وغير عملي في إجراء العمليات الحسابية المعقدة. وبفضل الطرق التجارية التي ربطت أوروبا بالعالم العربي، بدأت الأرقام «الهندية – العربية» تنتقل إلى الغرب. هذا النظام الموضعي، الذي يعبر عن الكميات وفقًا لمواقع الرموز وقيمها، كان أكثر فاعلية ودقة، مما جعله ملائمًا لعمليات الحساب والقياس والتمويل المتزايدة في تلك الحقبة.
الكلمة اللاتينية «algorismus» التي ظهرت في أعمال مثل قصيدة Carmen de Algorismo لألكسندر دي فيليديو (1240)، كانت في الواقع ترجمة لاتينية مشوهة لاسم عالم الرياضيات الفارسي محمد بن موسى الخوارزمي، الذي كتب في بغداد كتابًا حول الحساب باستخدام الأرقام الهندية قرابة عام 825 ميلادي. رغم أن النص الأصلي بالعربية فُقد، فقد تُرجمت أعماله إلى اللاتينية وانتشرت في أرجاء أوروبا، حاملة معها المفاهيم الأساسية للنظام العددي الجديد. واحدة من هذه الترجمات تبدأ بعبارة DIXIT algorizmi – «قال الخوارزمي»، وهي صيغة تأكيد على نقل مباشر للمعرفة.
وبمرور الوقت، ومن خلال الترجمات المتعددة في اللغات الرومانسية مثل الإسبانية والفرنسية، تطور لفظ algorismus إلى ما أصبح لاحقًا «algorithm» في اللغة الإنجليزية، ليأخذ مدلوله الحديث في سياقات الرياضيات وعلوم الحاسوب.
لم تكن الكتب وحدها الوسيط الوحيد لهذا الانتقال المعرفي، بل التجار، خصوصًا أولئك القادمين من المراكز التجارية مثل فلورنسا والبندقية، كانوا من أوائل من اعتمدوا الأرقام الهندية في معاملاتهم المالية. لقد احتاجت الحسابات المالية لرؤوس أموال كبيرة، وأسواق متسعة، إلى نظام عددي يسمح بسرعة وسهولة إجراء العمليات الحسابية. وهكذا، كان الدافع الاقتصادي والتجاري جزءًا من التحول الثقافي نحو «الخوارزمية».
في ستينيات القرن العشرين، كان علم الحاسوب لا يزال يحاول إثبات نفسه كتخصص أكاديمي شرعي. وسط هذا السياق، ظهر دونالد كنوث كمُنظِّر كبير لمفاهيم هذا العلم، عبر سلسلة مؤلفاته الشهيرة فن برمجة الحاسوب. لكن طموحه لم يتوقف عند البرمجة الحديثة، بل امتد إلى التنقيب في تاريخ الرياضيات القديمة، وخصوصًا تقنيات البابليين الحسابية، حيث لاحظ وجود إجراءات منهجية لحل المسائل شبيهة بما نعرفه اليوم بالخوارزميات، وإن كانت مكتوبة بالكلمات اليومية لا بالرموز الجبرية.
من خلال هذا الجهد، حاول كنوث فصل الخوارزمية عن سجنها الزمني داخل عصر الحاسوب، ليُظهر أنها ممارسة إنسانية سبقت بكثير العصر الرقمي. لقد كانت محاولة لإعطاء الشرعية لعلم الحاسوب من خلال تأصيله في تاريخ طويل من المعالجات الرمزية، حيث تُقدَّم الخوارزمية بوصفها استمرارًا لممارسات بشرية عمرها آلاف السنين في التعامل مع العالم من خلال خطوات محددة وقابلة للتكرار.
يعود أصل العمليات الحسابية إلى حاجات اقتصادية مبكرة: تقسيم المحاصيل، وحساب الضرائب، وإدارة المخازن. حتى كلمة «عدد» numerus مأخوذة من الكلمة اللاتينية التي تعني «حصة من الطعام». فالعدد ليس فقط فكرة، بل نتيجة حتمية لحاجة مادية: إدارة الندرة أو الوفرة. لقد وُلد الحساب من البطن، لا من الدماغ.
ويمضي بعض فلاسفة الرياضيات إلى أبعد من ذلك، مقترحين أن العدد وُلد من علاقة الجسد البشري بالعالم المادي، ومن خلال الإيقاعات التي تولدها حركات العمل، خصوصًا في الأعمال الجماعية. لقد نشأت الأشكال الرمزية الأولى للأعداد والزمن من الغناء أثناء العمل.
من أغاني النسّاجين، والمزارعين، والملاحين. بهذا المعنى، لا يُفهم العدد بوصفه مجرّد أداة للقياس، بل كتحوّل في وعي الجسد بالزمن، تجسّده اللغة والإيقاع.
إذا أخذنا هذه الحجة إلى نهايتها المنطقية، فقد نصل إلى نتيجة مدهشة: الخوارزميات، أي الإجراءات المنهجية، سبقت حتى مفهوم «العدد» ذاته. ففي مجتمعات ما قبل الأعداد الرمزية، كان البشر ينفذون إجراءات متكررة لتحقيق أهدافهم: خلط مكونات، تقسيم حصص، اتباع قواعد في الطقوس. هذه الإجراءات – على بساطتها – كانت خوارزميات، وإن لم تُسمَّ كذلك.
لطالما نُظر إلى الأعداد على أنها كيانات أصلية، خالدة، وغير قابلة للتجزئة أو التحليل إلى عناصر أخرى. ففي التقليد الأفلاطوني والحدسي، يُفترض أن الأعداد موجودة في عالم المثل، لا تتغير ولا تتأثر بالعالم المادي أو التاريخي، ويمكن للعقل إدراكها دون الحاجة إلى التجربة أو العمل. هذه النظرة المتعالية للأعداد، شكّلت، عبر قرون، القاعدة التي بُنيت عليها الكثير من الفلسفات، من فيثاغورس إلى كانط، ومن الرياضيات الكلاسيكية إلى المنطقية الوضعية والرياضية البنائية.
لم يكن مفهوم العدد معطى عقليًا سابقًا على التجربة، بل هو ناتج عن سيرورة تاريخية معقدة من التعلم الجماعي. العدد، في هذا السياق، ليس انعكاسًا لحقيقة متعالية بل هو نتاج العمل البشري، تفاعل الإنسان مع محيطه من خلال أدوات ولغة وممارسات رمزية. ومن هنا، يصبح العدد فكرة مكتسبة، نمت وتطورت داخل فضاء اجتماعي ومادي.
يمكن أن نرى من هذا المنظور أن التعلم ليس مجرد عملية معرفية فردية، بل هو سيرورة اجتماعية، مادية وتاريخية، يتم فيها تطوير «نماذج ذهنية» تستبطن الأفعال المادية التي يقوم بها البشر، ومن ثم تُبنى فوقها طبقات من التجريد. هذه النماذج الذهنية لا تنبع من تأملات عقلية خالصة، بل من التفاعل العملي مع أدوات العالم، وتتم عبر التمثل التدريجي للأفعال على أشياء حقيقية.
في تحليل بعض مؤرخي الرياضيات مثل بيتر دامرو لمفهوم العدد، يقترحون سلسلة من المراحل الرمزية التي تنمو عبر ما يسموه بـ«السقالات المعرفية» :
1. التمثيلات من الدرجة الأولى: العدّ بالأصابع، الحصى، أو الأدوات التي تمكّن من أداء عمليات ملموسة.
2. أنظمة الترقيم: تطوير رموز تشير إلى كميات (كالنقوش على الطين أو الرموز على النقود).
3. تقنيات الحساب: تطوير طرق منهجية لحل المسائل (اللوغاريتمات، طرق الضرب والقسمة).
4. العدد كنظرية: بروز الحساب كعلم مستقل، يوصف عبر اللغة الطبيعية أولاً ثم يُرمز له لاحقًا.
لكن هذا التطور لا يحدث بشكل خطي، بل يتضمن حركة جدلية مستمرة بين التمثيل الرمزي والتجريد. كل قفزة معرفية تحدث كردّ على مشكلة عملية ما، وتنتج عنها طبقة جديدة من التمثيل الرمزي.
هذا التجريد لا يعني إهمال التفاصيل أو الانسحاب من العالم المادي إلى عالم المثل والتأملات، بل هو عملية إنتاج معرفة جديدة مرتبطة بمشكلات واقعية. إنه نشاط موجه نحو غاية محددة، ويتشكّل داخل حدود مادية، كالأدوات والموارد والتقنيات المتوفرة. وبهذا المعنى، يصبح التجريد نفسه نتاجًا للعمل والإنتاج المادي، لا نتيجة لتأمل عقلي خالص. فالرموز والمفاهيم والأدوات لا تُنتج في فراغ، بل داخل سياقات اجتماعية مشروطة بالصراع، بالموارد، وبالحاجة إلى التنظيم والمعرفة. وبهذا، ينتقل مفهوم العدد من كونه جوهرًا مجردًا ومثاليًا إلى كونه أداة عمل اجتماعية ونتاجًا لصراعات بشرية حول الأرض، والموارد، والسلطة، والتوزيع. في سياق أوسع يمكن رؤية أن تطور العلوم يتبع تطور أدواتها المادية. الأدوات ليست فقط وسائل لحل مشاكل، بل هي وسائط تفتح مجالات جديدة للوجود والمعرفة. فالآلة البخارية، مثلًا، لم تُبتكر من نظرية الديناميكا الحرارية، بل العكس: الحاجة إلى تشغيل الآلة والصعوبات المرتبطة بها دفعت إلى تطوير هذا الحقل العلمي.
هذه العلاقة الجدلية بين العمل – الأدوات – المفاهيم تؤسس لفهم مادي ومعقد للتطور العلمي، حيث تنتج المفاهيم من واقع مشحون بالمقاومة، بالعقبات، وبالرغبة في السيطرة والتحكم. الأداة، حين تُستخدم، تُنتج معرفة أكثر مما كان متوقعًا منها عند اختراعها. وهكذا تتجاوز المعرفة الشروط التي نشأت فيها.
ما ينطبق على العدد ينطبق أيضًا، بحسب هذا المنظور، على مفاهيم مثل الخوارزمية. فهذه الأخيرة ليست سوى شكل من أشكال التجريد الذي ولد من تفاعلات مادية – اجتماعية – معرفية لحل مشكلات معينة. الخوارزميات لم تنشأ في فراغ، بل تطورت من داخل حاجات محددة لتنظيم العمل، وضبط الزمن، وإدارة الموارد، ومراقبة السكان، أو حل مسائل تجارية وإدارية.
إن مفهوم الخوارزمية، بوصفه سلسلة من التعليمات لحل مشكلة، ليس فقط تقنية حسابية بل هو نتاج لجدلية مادية، تتقاطع فيها حاجات السلطة، والعمل، والمعرفة. الخوارزميات التي تحكمنا اليوم، من خوارزميات الأسواق إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، ما هي إلا استمرارية لهذه العلاقة الجدلية بين التجريد والمادة، بين الحاجة والاختراع، بين العمل والتحكم.
لا تنحصر الخوارزميات في المعادلات أو الكود البرمجي، بل هي مضمّنة في الأعداد نفسها. الطريقة التي نكتب بها الأعداد – أي نظام الترقيم – هي بحد ذاتها خوارزمية. فمثلاً، الرقم 101 في النظام العشري يعني:
(1 × 100) + (0 × 10) + (1 × 1)
بينما في النظام الثنائي يعني:
(1 × 4) + (0 × 2) + (1 × 1) = 5
هذا التحول لا يحتاج إلى إعادة تفسير للرموز، بل إلى تغيير بسيط في القاعدة – من قوى العشرة إلى قوى الاثنين. ما يعني أن النظام الترقيمي، سواء كان عشريًا أو ثنائيًا، هو ببساطة مجموعة من التعليمات – خطوات – أي خوارزمية. الطرق الحسابية التي نُدرّسها في المدارس – كالقسمة الطويلة، والضرب العمودي، أو استخراج الجذر التربيعي – هي في الحقيقة مجموعة من الخوارزميات اليدوية. حتى العمليات البسيطة مثل تحويل الكسور العشرية الدورية، لا يمكن إجراؤها أو التعبير عنها دون خوارزمية.
من الناحية الفلسفية، يمكن القول إن كل عدد هو خوارزمية متجسدة، وكل نظام ترقيم هو طريقة لصناعة الأعداد. فالرموز لا «تعدّ» شيئًا بطبيعتها، بل تعمل كحوامل للمواقع في عملية حسابية منظمة. كما للجملة قواعد نحوية تنظم بناءها، فإن للأعداد خوارزميات تنظم وجودها. هذه الخوارزميات لم تُخترع مع ظهور علوم الحاسوب، بل هي جوهر النظام الرمزي للكم، منذ أن خط الخوارزمي سطور حسابه في بغداد العباسية ويمكن القول إن الخوارزمية، منذ نشأتها كطريقة لحل المسائل العددية، وحتى شكلها المعاصر في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، قد مرت بسلسلة من التغييرات العميقة التي تعكس تحولات أوسع في أنماط التفكير البشري، وتنظيم العمل، وعلاقة الإنسان بالآلة.
في أوروبا القرن السابع عشر، بدأ مفكرو الطبيعة أمثال بليز باسكال وغوتفريد لايبنتز في تصميم آلات حاسبة يدوية لأتمتة العمليات الأربع الأساسية باستخدام النظام العشري. هذه الأجهزة لم تكن مجرد فضول تقني، بل كانت تمثل تحولات إبستمولوجية عميقة؛ حيث أصبحت الآلة لا تُستخدم فقط لحل المشكلات، بل لتشكيل طريقة التفكير ذاتها. فطريقة ديكارت الشهيرة في التفكير، التي تقوم على تحليل المشكلات إلى عناصر بسيطة، يمكن رؤيتها كتمثل للمنطق الميكانيكي.
ربط الاقتصادي البولندي هنريك غروسمان بين الرياضيات والآلة من منظور اقتصادي: «كل قاعدة رياضية لها طابع ميكانيكي يوفر العمل الذهني ويوفر الحسابات». وقد استمرت هذه الفكرة – أي توفير الوقت والموارد – كمبدأ أساسي في كل ما يتعلق بالتفكير الخوارزمي وتطبيقاته.
الثورة الصناعية والخوارزميات الميكانيكية
في القرن التاسع عشر، ومع تصاعد الاقتصاد الصناعي، ظهرت أول محاولة ناجحة لميكنة الخوارزميات الحسابية مع طريقة دي بروني لحساب جداول اللوغاريتمات، والتي نفذها تشارلز باباج في «آلة الفرق». رغم أن هذه الآلة كانت محدودة بنوع واحد من الخوارزميات، فقد تخيل باباج آلة أكثر تعقيدًا: «الآلة التحليلية»، القادرة على البرمجة وتشغيل خوارزميات مختلفة – وهي التي كتبت لها أدا لوفلايس أول «برنامج» حاسوبي لحساب أعداد برنولي، والذي يعتبره البعض أول خوارزمية حاسوبية في التاريخ.
تكمن أهمية محركات باباج في التقاء خوارزميات الحساب مع الأتمتة الصناعية، رغم صعوبة تمثيل النظام العشري باستخدام تروس ميكانيكية. لكن القيود التقنية آنذاك منعت تحقيق هذا الحلم الكامل.
من الآلة الميكانيكية إلى النظام الثنائي
في القرن العشرين، حقق الحساب المؤتمت قفزات كبرى بفضل استخدام النظام الثنائي. فالحالة الكهربائية (تشغيل أو إيقاف) يمكن تمثيلها بسهولة بالأرقام 0 و1، ما يجعل تنفيذ العمليات الحسابية كالجمع والطرح أكثر بساطة مقارنة بالأنظمة العشرية الميكانيكية.
جاءت القفزة الحقيقية مع أطروحة كلود شانون في عام 1938، والتي اقترح فيها استخدام الخصائص الثنائية للمفاتيح الكهربائية لتمثيل ليس فقط الأرقام الثنائية وعملياتها، بل أيضًا الدوال المنطقية (AND، OR، NOT). لقد فتح هذا الباب أمام استخدام الكهرباء كوسيط للحوسبة المنطقية، وليس فقط الرقمية.
ثم، بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت بنية فون نيومان ونُفذت في الحواسيب باستخدام البوابات المنطقية المصغرة، مما مكن من بناء حواسيب سريعة وقوية. ولأول مرة، لم تعد الأرقام تمثل كميات فقط، بل أصبحت أيضًا تمثل تعليمات. الثورة الرقمية، إذًا، لم تكن فقط رقمنة للغة والمحتوى الإنساني، بل تسريعًا للعمليات الحسابية من خلال المنطق الثنائي.
تماهي الخوارزميات والآلة: من الصرامة إلى التكيف
في العصر الرقمي، ارتقت الخوارزمية إلى ما يشبه «الآلة المجردة» – متمثلة في البرنامج، والكود، والبرمجيات – التي تتحكم بالآلات الإلكترونية. فالتعريف الأكثر تداولًا للخوارزمية في علوم الحاسوب هو: «إجراء محدود من التعليمات خطوة بخطوة لتحويل مدخلات إلى مخرجات، بغض النظر عن طبيعة البيانات، وبأقصى كفاءة ممكنة».
هذا التعريف يعتمد على منطق التجريد؛ أي أن الخوارزمية يجب أن تعمل بغض النظر عن الظروف المحيطة أو مصدر البيانات. لكن هذا المنظور بدأ يتغير جذريًا مع ظهور التعلم الآلي، الذي قلب هذه النظرة رأسًا على عقب.
فبدلًا من أن تطبق الخوارزمية قواعد صلبة على بيانات ساكنة، أصبحت الخوارزميات الحديثة – كشبكات العصب الاصطناعية – تتعلم من البيانات وتعدل معاييرها الداخلية بناءً على خصائص البيانات نفسها. لم تعد البيانات مجرد مواد خام، بل أصبحت فعالة، تشكل منطق الخوارزمية ذاته، وتجعله متكيفًا وديناميًا. وهذا يشبه، إلى حد بعيد، الطرق الرياضية القديمة التي نشأت من محاكاة تكوينات المكان والزمان والعمل والعلاقات الاجتماعية.
من خلال هذا المنظور التاريخي، يمكننا أن نرى أن الخوارزمية ليست مجرد أداة تقنية، بل شكل معرفي نشأ في سياقات اقتصادية وثقافية محددة. أول انتقال – من الخوارزميات اليدوية إلى النظام العشري – ارتبط بالتوسع التجاري في العصور الوسطى. والثاني – من النظام العشري إلى الثنائي – ارتبط بالصناعة والرأسمالية الحديثة، وخاصة في مسعاها لتسريع الاتصال وأتمتة العمل العقلي. إنها تحولات لا تعكس فقط صيغًا رياضية، بل أنماطًا جديدة من تنظيم المعرفة، والعقل، والعمل.
إن قراءة تاريخ الأعداد والخوارزميات تعيدنا إلى الأرض، تُنزل العدد من عليائه الفلسفي إلى ورشة العمل، إلى الحقول، إلى الألواح الطينية، إلى الأيادي التي عدّت الحصى وسجّلت الصفقات. في زمن تزداد فيه الحاجة لفهم كيف تُنتج المعرفة، ولمن تُنتج، ولماذا، فإن تأريخ التجريد، يتيح لنا تحليلًا جدليًا للأفكار بوصفها جزءًا من السيرورة المادية للصراع الاجتماعي.
وبذلك، لا يصبح العدد والخوارزمية فقط وسيلة للعدّ أو الحساب، بل وثيقة تاريخية، تشهد على ما فعله البشر، وما كانوا يريدونه من العالم: النظام، والتوزيع، والسيطرة، أو ربما العدالة.
بيشوي قليني كاتب ومهندس بيانات
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العملیات الحسابیة النظام العشری هذا المنظور لیس فقط من خلال
إقرأ أيضاً:
كاش كوش.. حين تعيد العظام المطمورة كتابة تاريخ المغرب القديم
على مرتفعات الحجر الجيري المطلة على وادي لاو في شمال المغرب، وتحديدا في موقع يعرف باسم "كاش كوش"، كان فريق من الباحثين المغاربة الشبان يزيح الغبار عمّا تبقى من زمن منسي. لم يكونوا يبحثون عن كنوز، بل عن دلائل. ولم تكن الأدوات الفاخرة ولا القصور القديمة مبتغاهم، بل عظام بشرية متهالكة، وقطع فخارية متآكلة، وآثار نباتات وأطعمة حملتها أيدي أناس عاشوا هنا منذ آلاف السنين. هؤلاء الباحثون، وفي مقدمتهم حمزة بنعطية، انطلقوا في مغامرة علمية هدفها قلب فرضيات قديمة ظلت سائدة عقودا.
لطالما اعتقد بعضهم أن شبه جزيرة طنجة، في أقصى شمال غربي أفريقيا، كانت منطقة معزولة هامشية في عصور ما قبل التاريخ، مجرد ممر أو فراغ حضاري. لكن هذا الاعتقاد بدأ يتهاوى تحت وطأة الأدلة المتزايدة التي كشف عنها الموقع. كانت البداية مع تأريخ بالكربون المشع لطبقات الأرض، ثم التنقيبات التي كشفت عن وجود ثلاث مراحل استيطانية متتالية، تعود إلى ما بين 2200 و600 قبل الميلاد. مجتمع زراعي مستقر كان يعيش هنا، قبل زمن الفينيقيين، بل ويتفاعل مع الثقافات المتوسطية دون أن يذوب فيها.
تتميز السواحل الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط بديناميات اجتماعية ثقافية واقتصادية معروفة جيدا خلال العصر البرونزي والعصر الحديدي المبكر (2200–550 قبل الميلاد)، لكن في المقابل يظل فهمنا للسواحل الأفريقية غامضا نسبيا. يؤكد موقع "كاش كوش" فاعلية المجتمعات المحلية، متحديا فكرة أن شمال غربي أفريقيا كانت أرضا خالية قبل وصول الفينيقيين.
يعرف هذا العصر البرونزي أفضل بفضل مشاريع في مناطق أخرى على طول المغرب الأطلسي والمتوسطي، بما فيها رشقون في الجزائر، وقرطاج وليكسوس وعتيقة (أوتيك) في تونس. لكن المرحلة التي تسبقه مباشرة (المعروفة إقليميا بالعصر البرونزي المتأخر، نحو 1300–900 قبل الميلاد، وهي فترة حرجة لدراسة المجتمعات المحلية القائمة) تبقى مجهولة تقريبا. وفي أماكن أخرى من المغرب الكبير، تبقى هذه الفترة غامضة أيضا؛ ففي تونس يرتبط طراز سكني من الهياكل الحجرية بفترة تسبق الواردات الفينيقية، لكنه لا يعود لأكثر من 1000 عام قبل الميلاد.
إعلان"خلافا لما كان يعتقد، لم تكن هذه المنطقة خالية، بل كانت مليئة بالحياة والطقوس والنشاط الزراعي"، يقول حمزة بنعطية، الباحث في جامعة برشلونة، في حديث لوكالة الأنباء الألمانية. ويضيف: "أظهرت تحليلاتنا أن الناس هنا لم يكونوا معزولين، بل كانوا جزءا من شبكة واسعة تشمل جنوب إيبيريا وشرق المتوسط".
اهتزت الأوساط العلمية العالمية عام 2017 لاكتشاف مذهل في منطقة جبل إيغود قرب مدينة آسفي وسط المغرب. هناك، تحت طبقات من الصخور الرسوبية، عثر على بقايا عظام بشرية وأدوات حجرية. لم تكن مجرد بقايا، بل كانت أقدم ما عثر عليه للنوع البشري العاقل (Homo sapiens)، تعود إلى 300 ألف عام.
لم يعد شرق أفريقيا وحده مهد الإنسان الحديث، كما كانت تعتقد النظرية السائدة، بل أصبح المغرب فاعلا رئيسيا في فهم بداية الإنسان وتطوره. لم تكن هذه الجماجم سوى البداية لسرد طويل ومتشعب عن حياة كانت تدب هنا، حين كانت الأرض بكرا والسماء أرحب.
تظهر نتائج الأبحاث الأخيرة المنشورة في عدد من المجلات العلمية أن سكان "كاش كوش" مارسوا الزراعة بانتظام، وربوا الماشية، واستعملوا أدوات متقدمة نسبيا. وحتى في غياب الكتابات أو المدونات، فإن ما تبقى من طعامهم، وأدواتهم، وهياكلهم العظمية، كان كافيا لرسم صورة عن مجتمع متوازن ومستقر. ومع مقارنة هذه النتائج بمواقع أخرى مثل جبل إيغود وسط البلاد، وتافوغالت في شرقها، ودروة زيدان شمالا، تبرز صورة أكثر ثراء عن تاريخ المغرب ما قبل التاريخ.
لكن المفاجآت لم تتوقف عند حدود الزراعة والاستقرار. فداخل إحدى المغارات المكتشفة في "كاش كوش"، وجد الفريق العلمي ثلاثة هياكل عظمية تعود إلى العصر الحجري الحديث، نحو 4900 عام قبل الميلاد. وإذا ما تمكن العلماء من استخراج الحمض النووي من هذه البقايا، كما يطمح حمزة بنعطية، فسنكون أمام واحدة من أهم المحطات في إعادة بناء تاريخ الهجرات البشرية.
"نحن نبحث حاليا عن أدلة جينية تؤكد وجود تزاوج واختلاط بين سكان جنوب أوروبا وشمال أفريقيا عبر مضيق جبل طارق"، يقول بنعطية، موضحا أن هناك شواهد تدعم هذه الفرضية، تعود إلى ما بين 5000 و7000 عام قبل اليوم. الأمر لا يتعلق فقط بتفاعلات ثقافية أو تجارية، بل بعبور أناس، واستقرار، ودماء امتزجت. هذه الهجرات، كما يقول بنعطية، لم تكن طارئة ولا محدودة، بل كانت جزءا من دينامية طويلة الأمد تربط بين ضفتي المتوسط.
اللافت أن تاريخ هذه المنطقة لم يتوقف عند المجتمعات الزراعية، بل استمر في التطور ليفرز مع مرور الوقت تنظيمات أكثر تعقيدا. بداية من القرن الرابع قبل الميلاد، شهد المغرب، بحسب بنعطية، نشوء نظام ملكي مبكر، أطلق عليه اسم "الملكية المورية". وهو نظام لم تعرفه الضفة الشمالية للمتوسط في تلك المرحلة، حيث كانت تسود المدن-الدول الصغيرة. ويضيف: "كانت المملكة المورية تمتد من طنجة إلى وليلي وربما أبعد، ما يجعلنا نتحدث عن كيان سياسي قوي ومنظم".
هذه المعطيات تفتح نقاشا تاريخيا مهما: لماذا احتل الرومان شبه الجزيرة الإيبيرية قبل 200 عام من الميلاد، بينما لم يدخلوا إلى المغرب إلا بعد 40 عاما من الميلاد؟ الجواب، وفقا لبنعطية، يكمن في قوة الدولة المغربية آنذاك، مقارنة بتشتت إسبانيا إلى دويلات صغيرة. وقد اقتصر الوجود الروماني في المغرب على منطقة محدودة جنوب وليلي قرب مدينة مكناس، وتركزت آثارهم في قلاع محددة.
إعلانلكن ما توصل إليه الفريق العلمي لا يمثل سوى البداية، كما يؤكد حمزة بنعطية: "ما نراه اليوم ليس إلا واجهة الواجهة. ولو أتيحت لنا الإمكانيات والوقت الكافي، فأنا أضمن لكم أن ما سنكتشفه قادر على إعادة كتابة تاريخ شمال أفريقيا والمتوسط وغرب أوروبا بأكمله".
ويشير إلى وجود مواقع أثرية هائلة لم تمس بعد، خاصة في محيط مراكش وعلى امتداد الساحل الأطلسي من الرباط إلى الجديدة، قائلا: "نحن نتحدث عن أراض ممتدة على عشرات الهكتارات، وقد تحتوي على مقابر جماعية ومراكز حضرية مجهولة. ثلاث سنوات فقط من البحث العلمي الجاد كفيلة بإحداث ثورة معرفية".
يضع الباحثون آمالا كبيرة على استخراج الحمض النووي من أحد الهياكل التي عثر عليها في الموقع الأثري. "هذا الاكتشاف سيكون الأول من نوعه في شمال أفريقيا إذا نجحنا في الحصول على الحمض النووي. لكن الأمر مرهون بنسبة الكولاجين، التي نأمل أن تكون كافية، وسنعرف ذلك خلال ثلاثة أشهر"، يوضح بنعطية.
وتكمن أهمية هذه العينات في ارتباط العصر البرونزي بهجرات كبيرة شهدتها أوروبا من الشرق إلى الغرب، وتحديدا من مناطق مثل روسيا وأوكرانيا نحو غرب أوروبا، وهو ما أثبته علم الجينات سابقا. في حال التأكد من وجود روابط جينية مشابهة في المغرب، سيكون ذلك مؤشرا دامغا على أن شمال أفريقيا كان جزءا من هذه الموجات البشرية الكبرى، لا مجرد مستقبل سلبي لها.
كل هذا يعيد صياغة موقع المغرب القديم في السردية العالمية لتاريخ البحر الأبيض المتوسط. لم يكن المغرب مجرد هامش أو صدى لما يجري في الشمال، بل كان مركزا قائما بذاته، يشع حضارة وتنظيما سياسيا واجتماعيا مبكرا.
من "كاش كوش" إلى "جبل إيغود"، ومن طقوس العصر الحجري إلى تشكل الممالك، يتضح أن شمال المغرب لم يكن أرضا خاملة كما ساد الاعتقاد، بل كان قلبا نابضا في ذاكرة المتوسط. ولا يزال في جعبة الأرض أسرار كثيرة، تنتظر من ينبشها بعين الباحث وشغف المؤرخ.