باريس- في مشهد دولي مشحون بالتوترات، جاءت الضربة الأميركية الأخيرة على مواقع إيرانية لتعيد تشكيل خريطة المواقف الدولية، لا سيما موقف دول الترويكا الأوروبية، وهي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.

وبينما بدت مواقف هذه الدول الثلاث حذرة في تصريحاتها ومتوازنة في خطابها، غير أنها لا تزال قلقة أيضا من تداعيات التصعيد العسكري على واقع واستقرار منطقة الشرق الأوسط والعالم.

فمن جهة، تحاول الحفاظ على التحالف التاريخي الوثيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن جهة أخرى، تجد نفسها عالقة بين مفترق استقلالية السياسة الخارجية الأوروبية وتطبيق المعايير القانونية الدولية، فضلا عن تفادي الانخراط في سياسة المواجهة المفتوحة مع إيران.

لغة التهدئة والحياد

وفي بيان مشترك صدر عن وزارات خارجية دول الترويكا الأوروبية، أمس الأحد، أكدت فيه فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا التزامها بالسلام والاستقرار لجميع دول المنطقة، مؤكدة في الوقت ذاته دعمها لأمن إسرائيل.

وجاء في البيان "لطالما أكدنا بوضوح أن إيران لا يمكن أن تمتلك سلاحا نوويا، ولا يمكنها أن تشكل تهديدا للأمن الإقليمي"، وطالبت الدول الثلاث إيران بالدخول في مفاوضات تؤدي إلى اتفاق يعالج جميع المخاوف المتعلقة ببرنامجها النووي، ولكن دون أن تمنح أي ضوء أخضر للضربة الأميركية، سواء بالتأييد أو التنديد الصريح.

وقد تبنت باريس خطاب الحلول السياسة من خلال تصريحات وزير خارجيتها جان نويل بارو، الذي دعا إلى "عودة فورية لطاولة التفاوض ضمن إطار الاتفاق النووي والمعاهدات الدولية"، معتمدا على مبادئ بلاده التي تقدم نفسها كراعية للتوازن الدبلوماسي في الشرق الأوسط.

أما ألمانيا -المعروفة بنهجها البراغماتي- فقد دافع مستشارها فريدريش ميرتس بشكل صريح، اليوم الاثنين، عن قرار القادة الإسرائيليين والأميركيين قصف المنشآت النووية الإيرانية.

إعلان

وأكد ميرتس -في كلمته خلال قمة صناعة في برلين- أنه "لا يوجد سبب لنا، ولا لي شخصيا، لانتقاد ما بدأته إسرائيل قبل أسبوع، ولا سبب أيضا لانتقاد ما فعلته أميركا نهاية الأسبوع الماضي"، مشيرا إلى أن "الأمر لا يخلو من المخاطر، لكن تركه على حاله لم يكن خيارا مطروحا أيضا".

في المقابل، بدت المملكة المتحدة -المرتبطة إستراتيجيا بالولايات المتحدة عبر حلف شمال الأطلسي (ناتو)- أكثر قربا من واشنطن من الناحية الخطابية، لكنها لم تتبنَّ الموقف الأميركي صراحة، وقد أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أنه لم يكن لبلاده أي دور في الإجراء الأميركي، لكنه أبلِغ به مسبقا.

تصريحات فضفاضة

ويبدو أن التصريحات الصادرة تخلو من أي حماس عسكري واضح، مما يعكس سياسة "القلق البناء" التي تنتهجها العواصم الأوروبية، وذلك من خلال مراهنتها المستمرة على التحفظ الإستراتيجي والتشبث بفكرة أن إيران لا تزال قابلة للاحتواء بلغة الحوار بدل الصواريخ.

وفي هذا الإطار، يرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في باريس الدكتور زياد ماجد أن موضوع الوساطة الأوروبية أصبح لا طائل منه، لأنه يستخدم عبارات ومصطلحات فضفاضة في اللغة الدبلوماسية بدون أي مضمون جدي، بمعنى أن هذا الخطاب الدبلوماسي لا يملك القدرة على تبديل موازين القوى أو فرض ضبط النفس أو تراجع التصعيد.

وأضاف ماجد -في حديث للجزيرة نت- أن "الخطاب الأوروبي للإيرانيين يتمثل في قولها إن واشنطن قد تلجأ إلى مزيد من الضغط السياسي والاقتصادي وحتى العسكري، إذا لم توافق طهران على عدد من الشروط، من ضمنها توقف الرد العسكري على إسرائيل، فضلا عن إعادتها النظر بكل سياسة تخصيب اليورانيوم".

ويعتقد أن ذلك سيكون بمنزلة "إذعان سياسي" للواقع الجديد الذي تحاول أن تفرضه أميركا بعد إسرائيل بالنار، معتبرا أنه لا يوجد أي دور أوروبي آخر مطروح على الطاولة السياسية اليوم.

الرئيس الأميركي ترامب سبق أن صرح بأن واشنطن هي من يفاوض طهران وليس أوروبا (الفرنسية) تهميش صارخ

وبين الضربة الأميركية والحذر الأوروبي، اختارت الترويكا الأوروبية التحدث بصوت الدبلوماسية، رغم أن المستقبل وحده كفيل بالكشف عن مدى فعاليتها في كبح جماح التصعيد العسكري القائم.

ومن ثم، لم يصف زياد ماجد دور كل من فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا بـ"المؤثر" بل بـ"المُيسّر" لمفاوضات مستقبلية قد تكون مجدية بعد إرساء موازين القوى لمعادلة جديدة بشأن الملف النووي الإيراني.

وفي اعتقاد أستاذ العلوم السياسية أن حالة التهميش التي تجد أوروبا نفسها فيها اليوم ليست مفاجئة، لأنها لم تأخذ أي موقف واضح تجاه الإبادة الجماعية في غزة خلال العامين الأخيرين، ولم تلعب أي دور مختلف جذريا عن الدور الأميركي، وذلك مع إمكاناتها الأقل من أميركا والانقسامات في صفوفها والهاجس المرتبط بالحرب الأوكرانية.

من جانبه، يسلط توماس غينولي، الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية في مدرسة "سنترال سوبيليك"، الضوء على التناقض الواضح في الموقف الأوروبي، قائلا إن "الترويكا الأوروبية تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وتعارض امتلاك إيران الأسلحة النووية، لكنها تعارض أيضا التصعيد العسكري الحالي وتريد استئناف المفاوضات، مما يجعلها مهمشة في هذا الشأن".

إعلان

وأشار المحلل السياسي غينولي -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن "حجة الدفاع عن النفس تُعتبر باطلة"، لأن إيران لا تمتلك أسلحة نووية ولا تملك القدرة الوشيكة لتحقيق ذلك، وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، موضحا أنه "لا يبرر الضربات الاستباقية إلا التهديد الوشيك، بموجب القانون الدولي".

مصداقية مهددة

وفي سياق التصعيد الإيراني الإسرائيلي، أصبح موقف الترويكا الأوروبية في موضع شك متزايد، حيث تحوم حوله التساؤلات بشأن مدى اتساق أوروبا وتطبيقها للمعايير القانونية الدولية، مما يقوض مصداقيتها كممثلة للنظام العالمي المعتمِد أساسا على القواعد والمبادئ.

ويشير مفهوم "القوة المعيارية" -التي لطالما عَرّفت أوروبا نفسها به- إلى الجهة الفاعلة الدولية التي تشرع سياستها الخارجية من خلال الالتزام بالقانون الدولي، والتأكيد على حظر استخدام القوة واحترام سيادة الدولة، وفق ميثاق الأمم المتحدة.

وقد فسّر أستاذ العلوم السياسية زياد ماجد تراجع دور أوروبا ودور الترويكا الأوروبية بأنه لا يرتبط فقط بالضربة العسكرية الأميركية لإيران، بل قبل ذلك حين بدا أن واشنطن غير مكترثة بالاتصالات الإيرانية الأوروبية، وقد عبّر ترامب عن ذلك بقوله إن واشنطن هي من يفاوض طهران وليس أوروبا.

واعتبر ماجد أن أوروبا كانت تفضل عدم وقوع الهجوم الأميركي على المنشآت الإيرانية وأن تلعب دور الوساطة من باب المصالح الاقتصادية والرفع التدريجي للعقوبات، مقابل تنازلات إيرانية معينة.

وتعكس المواقف الدولية حتى الآن معضلة مستمرة تواجهها الترويكا الأوروبية منذ عقود، تتمثل في الحفاظ على توازن مصالحها بين حليفتها الكبرى واشنطن، وبين التزاماتها تجاه الأمن الإقليمي والعالمي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الترویکا الأوروبیة

إقرأ أيضاً:

كاتب نرويجي: 3 إجراءات على أوروبا اتخاذها لتقليل تبعيتها لأميركا

يرى الكاتب النرويجي مارتن ساندبو أن على أوروبا العمل على "فك ارتباطها" الإستراتيجي والاقتصادي والسياسي عن الولايات المتحدة، وذلك بسبب سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الابتزازية اتجاه القارة.

وأكد -في مقال نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية- أن أوروبا تواجه خيارا مصيريا، فإما الحفاظ على استقلالها أو الاستمرار في شراكة تجعلها معرضة لتقلبات واشنطن المزاجية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ذا هيل: 5 نقاط خلاف جوهرية بين ترامب والجمهوريين في الكونغرسlist 2 of 2عمروف.. تتاري مسلم يقود وفد المفاوضات الأوكرانيend of list

وأشار إلى 3 مجالات رئيسية وحساسة أكد أن على أوروبا العمل عليها لتقليل "الضرر الأميركي".

أولا: التجارة

اعتبر الكاتب أن الاعتماد على السوق الأميركية أصبح عبئا أكثر من كونه ميزة، ووجّه الاتحاد الأوروبي لتقليل دعم التصدير إليها وتشجيع الشركات على البحث عن أسواق بديلة.

كما نصح قادة أوروبا بعدم الدخول في معارك طويلة غير مجدية مع ترامب في حال فرضه رسوما جديدة، مشيرا إلى أن الخيار الأفضل هو الردّ بإجراءات مضادة تستهدف أنشطة أميركية حساسة داخل أوروبا، مثل بعض الخدمات الرقمية الكبرى.

وكان الاتحاد الأوروبي، أواخر شهر يوليو/تموز الماضي، قد وقع على اتفاق تجاري مثير للجدل مع الإدارة الأميركية، أوقف مؤقتا حربا جمركية وشيكة، لكنه في الوقت ذاته فتح الباب لموجة انتقادات داخلية حادّة لم تهدأ حتى الآن.

ونص الاتفاق على فرض رسوم أميركية بـ15% على صادرات أوروبية محددة، أبرزها السيارات والآلات الدقيقة، مقابل تخفيض الرسوم الأوروبية على السيارات الأميركية إلى 2.5%.

ورغم أن الاتفاق جنّب أوروبا رسوما كانت مهددة بأن تصل إلى 30 أو حتى 50%، وفق ما لوّح به ترامب في حملته الانتخابية، فإن كثيرين اعتبروا أنه يمثل خضوعا للإكراه الاقتصادي، لا صفقة تجارية متكافئة.

ثانيا: الصادرات

أشار ساندبو إلى أن تصدير أوروبا لرؤوس أموالها ومدخراتها إلى الولايات المتحدة يقلل التمويل المحلي ويدفع الشركات والمواهب الأوروبية للبحث عن فرص في أميركا.

إعلان

واقترح الكاتب تعديل القواعد التنظيمية لتشجيع توجيه المدخرات نحو الاستثمار داخل الاتحاد الأوروبي، بهدف سد الفجوة المالية، وتعزيز الاكتفاء الذاتي للقارة، وتقليل تأثير أي ضغوط أميركية مستقبلية على الاقتصادات الأوروبية.

تبعية أوروبا للولايات المتحدة لم تكن يوما قدرا محتوما، بل هي "عجز مكتسَب تشرّبته القارة على مدى ثمانين عاما، وما ينبغي الآن هو التخلص منه"

رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد (الفرنسية)

وبدورها شددت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، على ضرورة أن تعيد أوروبا النظر في خريطة شراكاتها التجارية.

وقالت -في كلمة ألقتها خلال جلسة في المنتدى الاقتصادي العالمي بجنيف في أغسطس/آب الماضي- إن الولايات المتحدة ستظل شريكا تجاريا مهما، إلا أن على أوروبا أيضا أن تسعى لتعميق علاقاتها التجارية مع شركاء آخرين، مستفيدة من قوة اقتصادها الموجه نحو التصدير.

ثالثا: الدفاع

وأوضح المقال أن أوروبا بحاجة إلى تطوير بديل محلي للقدرات العسكرية الإستراتيجية التي تعتمد، حاليا، على الولايات المتحدة لتوفيرها.

ولفت إلى إطار تمويل مشترك اقترحه اقتصاديون أوروبيون بين الدول القادرة والراغبة، بهدف تطوير قدرات عسكرية محلية تحقق الاكتفاء الدفاعي. ويجري تداول المخطط حاليا على أعلى المستويات في فرنسا وألمانيا.

يذكر أن المفوضية الأوروبية أطلقت الشهر الماضي "خريطة الطريق الدفاعية الأوروبية" لعام 2030 لتعزيز القدرات الدفاعية والاستعداد لمواجهة أي عدوان محتمل، بالتكامل مع حلف شمال الأطلسي (الناتو).

الكاتب أكد ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها لتوفير حاجاتها العسكرية وتقليل خطر تقلبات السياسة الأميركية (غيتي)

وتنص الخطة على امتلاك أوروبا قوة ردع لحماية أراضيها، وعلى مشروع لحماية المجال الجوي الأوروبي من الصواريخ والطائرات المسيّرة.

كما أعادت بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، إحياء الخدمة العسكرية، وسط زيادة مناقشات زعماء الاتحاد الأوروبي حول سبل النهوض بالصناعة العسكرية وزيادة الإنفاق في قطاع الدفاع.

وخلص الكاتب إلى أن تبعية أوروبا للولايات المتحدة لم تكن يوما قدرا محتوما، بل هي "عجز مكتسَب تشرّبته القارة على مدى 80 عاما، وما ينبغي الآن هو التخلص منه".

مقالات مشابهة

  • مايكروسوفت: نحن نستثمر في التكنولوجيا الأوروبية
  • بعد عقوبات واشنطن.. الجنائية الدولية: نرفض المساس باستقلالنا
  • أوروبا تترقّب بقلق.. مفاوضات واشنطن وموسكو تضع الملف الأوكراني أمام اختبار حاسم
  • كاتب نرويجي: 3 إجراءات على أوروبا اتخاذها لتقليل تبعيتها لأميركا
  • الناتو يدرس إجراءات ردع جديدة ردا على التصعيد الروسي في الأجواء الأوروبية
  • زيلينسكي: نُحافظ على اتصال وتنسيق كامل مع المفوضية الأوروبية
  • أزمة التأشيرات.. تهديد مبكر لمشاركة إيران في مونديال 2026
  • عاجل .. ياسر العطا مساعد قائد الجيش السوداني يعلن التصعيد .. أعددنا العدة العسكرية وإنطلاق متحركات عسكرية حتى الحدود الدولية للسودان
  • موقف الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا أنسب من أوروبا
  • إيران تقاطع قرعة كأس العالم جراء أزمة التأشيرات