رسائل من خيمة تهزّها الريح: كيف تعلّمتُ أن أتنفّس تحت الحرب؟
تاريخ النشر: 8th, July 2025 GMT
أنا من مدينة الحب.. والحرب. مدينةٌ لم تعرف الهدوء يوما، نعيش فيها داخل خيام بلا جدران، لا تحمينا من حرّ الصيف، ولا من برد الشتاء المتسلل من كل جهة. مع كل موجة حر، ومع كل عاصفة باردة، تنسكب الذكريات علينا كالمطر، لكنها ليست ذكريات حنونة.. بل مؤلمة، دامية، تجرّ وراءها الخوف.
لا أمان هنا.. لا استقرار.
أعيش بين الأنقاض، لكنني لا أنتمي إليها. روحي ترفض أن تتحوّل إلى حطام، ما زلت ألتقط الأمل كما نلتقط إشارات ضعيفة من شبكة ميتة. أنا لست خارقة.. أنا فقط إنسانة تحاول أن تبقى إنسانة، في عالم يريدها أن تصبح حجرا
كيف تعلّمت أن أتنفّس؟ الأمر لم يكن صمودا خارقا.. بل كان كارثيا، طاغيا، فوق طاقة بشرية، كل شيء حولنا يدعو للانهيار، للجنون، ومع ذلك.. بقينا. ليس لأننا أبطال خارقون، بل لأن الله كان أقرب إلينا من صوت القذيفة. دعاؤنا كان نافذتنا حين سُدّت النوافذ، صلاتنا لم تكن مجرد فرض، بل استغاثة، نضع جباهنا على الأرض، نهمس: "يا الله.. نجِّنا من الليل".
كنا نتنفّس ببطء.. كما لو أننا نخشى أن يلتقطنا الموت من شهقة زائدة. في كل شهيق دعاء، وفي كل زفير نجاة. أنقذتنا أشياء بسيطة، صديقٌ حنون لم يهرب حين تهشّمنا، يدٌ على الكتف تقول دون صوت: "أنا هنا". أنقذنا تأمل السماء.. كنا ننظر نحوها لا بحثا عن نجمة، بل عن دليل حياة. نراقب غيمة تمرّ فوقنا.. فنهمس: "هذه الغيمة حرّة، فربما سنكون كذلك يوما". في لحظة قهر، كانت السماء طوق نجاة. نبحث فيها عن إشارة، عن لون، عن ومضة، أي شيء يقول: "أنتم لستم وحدكم".
كنا ننجو لأن في داخل كل واحدٍ منا بقعة ضوء صغيرة.. لا يراها أحد، لكن الله يراها. تلك البقعة كانت تصرّ على الحياة، حتى لو انهار كل شيء.
رسالة من قلب الحرب إلى تلك التي لا تعرف الخيام عزيزتي المدلّلة، أنتِ التي لم تعرفي من قبل سوى الكاميرا، واللابتوب الذي كنتِ تستخدمينه لمعالجة الصور، ثم تحتارين.. أي مطعم تقضين فيه وقتك، وأي قهوة تستحق "الاستراحة" مع صديقاتك. دعيني أخبرك شيئا لم تتوقعيه يوما: أنا الآن أعيش كأني عائدة إلى العصور الأولى. أُشعل النار بيدي لأطهو ما تبقى، أبحث عن الحطب كما تبحثين عن شبكات الواي فاي. أعيش في خيمة هشّة، يحركها الريح كما تحرّكنا أصوات الانفجارات، وكما تهتز قلوبنا برنة هاتف مفاجئة.. إن كنت تقرأ كلماتي الآن.. فاعلم أنني تنفّست ببطء، وانتظرت الكهرباء، وحاولت ألّا أبكي على لوحة المفاتيح، فقط لأكتب هذا السطر لك. أنا أمل، وما زال في اسمي وعدٌ صغير.. بأن شيئا جميلا سيولد من هذا الركامنخاف أن تحمل خبرا لا تُحتمل قراءته. أتنقّل الآن بعربة يجرّها حمار، نعم.. لم أعد أعرف الطرق الإسفلتية، فقط دروب ترابية، غبار، وحواجز من الحنين. كابوسي ليس رواية خيالية.. بل واقع أتنفسه. شاهدتُ الانفجارات بعيوني، وخرجت من تحت الركام بشقّ الروح، أعدّ أنفاسي، وقد تشبعت برائحة الإسمنت المتناثر..
صحيح يا عزيزتي.. فقدتُ صديقة كانت جزءا من قلبي. رفيقة العمل والضحك والهمس، رحلت فجأة، بلا وداع، بلا عودة، بلا حتى صورة أخيرة تجمعنا.
رغم كل شيء.. أنا هنا رغم الليل الطويل، ورغم الأصوات التي لا تُشبه إلا الموت، ورغم أن قلبي صار يعرف صوت الطائرات أكثر من صوت الموسيقى.. أنا ما زلت هنا. أكتب، لا لأنني قوية.. بل لأن الكتابة هي ما تبقّى مني. أعيش بين الأنقاض، لكنني لا أنتمي إليها. روحي ترفض أن تتحوّل إلى حطام، ما زلت ألتقط الأمل كما نلتقط إشارات ضعيفة من شبكة ميتة. أنا لست خارقة.. أنا فقط إنسانة تحاول أن تبقى إنسانة، في عالم يريدها أن تصبح حجرا.
إن كنت تقرأ كلماتي الآن.. فاعلم أنني تنفّست ببطء، وانتظرت الكهرباء، وحاولت ألّا أبكي على لوحة المفاتيح، فقط لأكتب هذا السطر لك. أنا أمل، وما زال في اسمي وعدٌ صغير.. بأن شيئا جميلا سيولد من هذا الركام.
(كاتبة ومدونة من غزة)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الحياة الموت غزة فلسطين غزة موت حياة امل مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات تكنولوجيا صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کل شیء
إقرأ أيضاً:
رسائل إيران لواشنطن.. هل تبدد خلافاتهما أم تفاقمها؟
تجدد إيران موقفها الرافض للتفاوض على ما تسميه حقها في تخصيب اليورانيوم أو قدرتها الصاروخية خلال أي مفاوضات مقبلة مع الأميركيين، وهوما أكدت عليه تصريحات مسؤولين إيرانيين بمختلف المستويات. ويأتي ذلك بينما ترى واشنطن أن إيران تم إضعافها بشدة في الهجوم الأميركي الأخير على منشآتها النووية وأنها مضطرة للتنازل عن طموحاتها النووية.
وعبّر عن الموقف الإيراني مكتب الرئاسة الذي قال إن طهران لن تفاوض حول قدرتها الصاروخية والمعرفة النووية والتخصيب، وأنها إذا عادت للتفاوض، فإنها لن تسمح باستخدام طاولته للخداع مرة أخرى، ونفس الموقف أعلن عنه رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، بقوله إن "تخصيب اليورانيوم بات إرثا وطنيا إيرانيا لا يمكن القضاء عليه بالقنابل أو باغتيال الأفراد".
كما قال قاليباف -في حديث مع التلفزيون الإيراني- إنّ القدرة الصاروخية تمثل ما سماه خطا أحمر بالنسبة لطهران و لن تتراجع عنه في كل الظروف.
وتأتي هذه التصريحات في سياق رد إيران على رسائل وصلتها من الإدارة الأميركية، كما تقول الدكتورة فاطمة الصمادي، الباحثة الأولى في مركز الجزيرة للدراسات والخبيرة في الشأن الإيراني في حديثها لبرنامج "ما وراء الخبر".
ونفت طهران الثلاثاء الماضي أن تكون قد تقدمت بأي طلب للتفاوض مع واشنطن، خلافا لما صرّح به الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد الهجمات الإسرائيلية والأميركية على المنشآت النووية في إيران.
ويثار داخل إيران جدل واسع حول موضوع العودة للمفاوضات مع واشنطن بعد الهجوم الأخير، فهناك من يرى في التفاوض خيارًا إستراتيجيًا، وهناك من يعارض هذا الموضوع من الأساس، باعتبار أن الهجوم الإسرائيلي والأميركي حدثَ في خضم مباحثات بين واشنطن وطهران حول البرنامج النووي الإيراني، تحفظ عليها المرشد الإيراني علي خامنئي، كما تؤكد الصمادي.
إعلان
وقد تعرض الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في وقت سابق لانتقادات حادة من عدة صحف محافظة في البلاد، وذلك بعد تأييده استئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة خلال مقابلة مع الصحفي الأميركي تاكر كارسون.
ويذكر أنه في 13 يونيو/حزيران شنّت إسرائيل حربا على إيران بهدف "منعها من حيازة السلاح النووي". وجاء ذلك في حين كانت الولايات المتحدة وإيران تخوضان مفاوضات بشأن برنامج طهران النووي.
ولاحقا تدخلت الولايات في الحرب، وقصفت في 22 يونيو/حزيران موقع تخصيب اليورانيوم تحت الأرض في فوردو جنوب طهران، ومنشأتين نوويتين في أصفهان ونطنز (وسط).
تغيير النهجوإذا قبلت إيران بالعودة إلى المفاوضات مع الأميركيين، فستطرح على طاولة التفاوض -تضيف الصمادي- فكرة التخصيب خارج أراضيها، وستبدي استعدادها للعودة للتخصيب بنسبة منخفضة كما حدث في اتفاق 2015.
أما بالنسبة للقوة الصاروخية فستكون نقطة خلاف جوهرية في أي مفاوضات قادمة، لأن الحرس الثوري الإيراني -تواصل الصمادي- لن يسمح بطرحها على التفاوض لأنه يعتبرها إنجازه الكبير، وإن حصل الأمر فسيطيح برؤوس كثيرة.
وفي حسابات الإدارة الأميركية التي يقودها ترامب، فإن إيران قد ضعفت جراء الضربات الأخيرة، وبالتالي لن يكون هناك تخصيب لليورانيوم ولن يكون لديها برنامج صاروخي، وعليها -كما يوضح الكاتب الصحفي المختص بالشأن الأميركي، محمد المنشاوي- أن تغير النهج الذي تعتمده منذ سنوات وتكون أكثر واقعية، كما أنها (أي الإدارة الأميركية) ترفض إحياء اتفاق 2015.
ورغم أن النطاق الفعلي للأضرار التي ألحقها القصف الأميركي بالمواقع النووية الإيرانية لم يعرف بعد، إلّا أن إسرائيل تشارك حليفها الأميركي في أن إيران قد ضعفت، لكنها تتصور أنه يجب تغيير المشهد السياسي في هذا البلد ولو بأدوات غير عسكرية، وحول هذه النقطة يقول رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الخليل، الدكتور بلال الشوبكي لبرنامج " ما وراء الخبر" إن إسرائيل لديها قناعة بأن إيران هي الأخطبوط الذي ينفذ عمليات ضدها.