غزة- متى يبدأ يوم الجائع؟ هل يكون مع شروق الشمس كغيره من البشر؟ أم في الليل، حين يأوي الإنسان إلى فراشه بلا طعام، وتحاصره أسراب البعوض، وتطارده أصوات القصف، وتلاحقه طائرات الاستطلاع التي تكاد تلامس رؤوس الخيام؟ وحينها يطلب بطنه الطعام، فيشعر بالهزال الشديد ويبحث عن أي شيء يسد رمقه، فلا يجد.
وفي الصباح، بعد ليلة بلا نوم، أسأل نفسي كحال كثيرين في قطاع غزة، سؤالا متكررا "ماذا سنأكل اليوم؟"، وتظل الخيارات محدودة ومتواضعة، وغالبا ما تتراوح -لعائلة كاملة- بين صحن من العدس بلا خبز، أو خبز بلا عدس، فالمُر الذي يتجرَّعه الناس في غزة يعيشه الصحفيون بطعم أمر وأشد قسوة، فهم غالبا ما يحكون معاناة الآخرين وينسون أنفسهم.
قبل اتخاذ القرار، تبدأ طقوس البحث اليومية عن الطعام: اتصالات بالأقارب والمعارف في مناطق مختلفة للسؤال عن أسعار الدقيق، أو العدس، أو الأرز، إن وُجد أصلا. ثم ينزل أحد أفراد الأسرة للسوق القريب، بحثا عمّا يمكن شراؤه.
ما يتوفر
قبل أسبوع أو أكثر، كانت بعض السلع متوفرة بأسعار باهظة. اليوم، اختفت معظمها من الأسواق، وإن ظهرت فإن أسعارها باتت فاحشة، إذ يفوق سعر كيلو الدقيق 30 دولارا، وسائر المواد الغذائية على المستوى ذاته.
ومع ندرة السيولة النقدية، وتعطّل البنوك، يغدو سحب المال مغامرة في حد ذاتها. فمن أراد أخذ 75 دولارا من حسابه البنكي، لا يستلم فعليا إلا 40 دولارا تقريبا، بسبب عمولات السوق السوداء التي وصلت إلى 44%، وهذا يعني أيضا أنك تدفع نحو 44 دولارا ثمنا لكيلوغرام واحد من الدقيق، وليس 30 دولارا.
هذا النزيف المالي يفاقم المجاعة في قطاع غزة، فمعظم العائلات باتت دون دخل، باستثناء فئة محدودة من الموظفين أو الأسر التي تتلقى تحويلات خارجية، لكنها أيضا لا تتسلمها نقدا، بل تخضع لنظام السحب عبر السوق السوداء، حيث تتآكل القيمة الشرائية للنقود إلى أقل من النصف.
إعلانوعندما تُقرر أخيرا شراء كيلوغرام من العدس أو الدقيق، تبدأ معركة أخرى: هي الطهي.
فغاز الطهي لم يعد متوفرا بأمر الاحتلال، والبديل هو الحطب، الذي ارتفع سعره إلى نحو 4 دولارات للكيلوغرام، ومع كل طهي، تُضاف تكلفة الحطب إلى فاتورة الوجبات اليومية.
أما الخبز، فلا تتخيله كما كان يوما: رغيفا كبيرا طريا شهيا، يملأ اليد ويفتح النفس، فما لدينا اليوم أشبه بـ"رُقاقة" أو "فرشوحة" كما يسميها أهل غزة، تُفرد بعناية، لتُطيل حجم العجين، وتؤخر نفاد المال.
ولا يجلس أفراد الأسرة إلى مائدة طعام كما بالسابق، بل يأخذ كل واحد حصته القليلة بصمت، إما أن يأكلها في وجبة واحدة، أو يقسمها على وجبتين تمتدان ليوم كامل، والبعض بدأ يفطر في منتصف النهار فقط، توفيرا للطاقة.
أما الشاي أو القهوة، فهي من الكماليات، وإن توفّر الشاي، فلن تجده مصحوبا بالسكر، الذي أصبح سلعة نادرة. أما الملح، فلا يزال متوفرا -رغم تضاعف سعره 10 مرات- لكنه ضروري، يذوّبه الناس في الماء ويشربونه، لتفادي الدوار وفقدان التوازن وانخفاض ضغط الدم، الناتج عن نقص الصوديوم.
أولادك هم المأساة الكبرى، تنظر إليهم، فتقرأ الجوع في عيونهم، وفي نحول أجسادهم؛ قدرتهم على "الدراسة المنزلية" تضعف، وأذهانهم تتثاقل مع استمرار نقص الطعام.
إلى هنا، قد تبدو الأمور قابلة للتحمّل، لكن ما لا يعلمه كثيرون أن حياة الحرب تتطلب منك بذل جهد بدني هائل، أكثره في تعبئة أوعية الماء والجري وراء العربات التي تحمله، وسط الحر الشديد، والمشي مسافات طويلة على الأقدام في ظل انعدام أو قلة وسائل المواصلات.
هذا الجهد اليومي القاسي، دون طعام كافٍ، يجعل أجسادنا تضعف ببطء، تفقد توازنك إن نهضت فجأة، وتشعر بالدوخة من مجرد خطوتين.
ونتيجة لكل ما سبق، تبدأ بالشعور بنتائج هذه الحمية الإجبارية، نقص كبير في الوزن، لا تدري هل هو حرق للدهون أم تآكل للعضلات؟
منذ بداية الحرب وأنا أراقب نفسي في المرآة دون أن أحتاج إلى ميزان، فقد خسرت 12 كيلوغراما في شهور النزوح من غزة، ثم فقدت 6 أخرى مؤخرا مع اشتداد الحصار، ولا أظن أنني وصلت إلى القاع بعد، فالكل يفقد وزنه هنا، من دون استثناء: الكبار والصغار، النساء والرجال.
وفي نهاية اليوم، تعود إلى الفراش ذاته، هزيلا، وتغمض عينيك، وتحلم -كأي جائع- برغيف خبز.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات غوث
إقرأ أيضاً:
اسماء عبدالعظيم تكتب: «حين سبقنا التطوير.. ونسينا الإنسان»
في السنوات الأخيرة تغيّر شكل التعليم عندنا، تبدّلت المناهج، وتقدّمت التكنولوجيا، وظهر ما يسمّى بالمنظومة الحديثة، لكن شيئًا واحدًا لم يتغير… الإنسان. فالطفل الذي لم يُهَيّأ، والمعلم الذي لم يُدرَّب، ووليّ الأمر الذي فوجئ بما لا يفهمه، جميعهم وجدوا أنفسهم داخل تجربة أكبر منهم، تجربة تبدو متطورة على الورق لكنها متعبة على الأرض.
أردنا أن ندخل التعليم عصر الحداثة قبل أن نُدخل الإنسان نفسه في التجربة. أردنا أن نلحق بالعالم بينما نسينا أن الخطوة الأولى تبدأ من الداخل، من النفس، من التربية، من الوعي الذي يسبق كل تطور. وهكذا أصبح المشهد مضطربًا، كمن يبني بيتًا بأدوات ذهبية على أرض غير ممهدة… فيبدو البيت جديدًا، لكنه لا يصمد.
لم تكن المشكلة في الكتب ولا في الامتحانات ولا في شكل الفصول. المشكلة كانت في الفلسفة. يوم قررنا أن نغيّر طريقة التعليم بينما تركنا التربية تتآكل بصمت. المعلم الذي كان قدوة أصبح منهكًا، يواجه نظامًا لا يعرف كيف يحتويه. والطالب الذي كان يدخل المدرسة ليبحث عن معنى أصبح يدخلها ليواجه قلقًا لا يعرف سببه. ووليّ الأمر الذي كان سندًا أصبح يسير في طريق لا يرى بدايته ولا نهايته.
سقطت التربية قبل أن يسقط الدرس، وتاه التعليم لأنه فقد بوصلته. فما قيمة العلم إذا غابت عنه الروح؟ وما فائدة التطوير إذا دخل الطفل المدرسة حاملًا خوفًا بدلًا من شغف؟ وما جدوى المنظومة الحديثة إذا كان الإنسان القديم لم يُعَدّ لها بعد؟
التعليم ليس سباقًا في تغيير المناهج، ولا استعراضًا للأجهزة، ولا ضوءًا يلمع فوق منصة. التعليم هو الإنسان، وهو القلب الذي يحتضن الفكرة قبل أن تصل إلى العقل، وهو السلوك الذي يتربى قبل أن تُفتح أول صفحة في الكتاب. التعليم رحلة أخلاقية قبل أن يكون رحلة معرفية، وهو بناء للضمير قبل بناء الدروس.
إن خسارتنا الكبرى اليوم ليست في مستوى التحصيل ولا شكل الامتحان، بل في أننا نُخرج جيلًا يعرف الكثير ولا يشعر بشيء. جيلًا يحفظ المعلومات لكنه لا يعرف كيف يضعها داخل ضمير حي، ولا كيف يرى الإنسان قبل المادة، ولا كيف يفهم أن العلم رسالة وليس عبئًا.
وبداية الإصلاح لن تأتي من تعديل المناهج، بل من إعادة الروح إلى الإنسان نفسه: معلم يشعر بقيمته قبل أن يُطلب منه العطاء، وطفل يجد من يفهمه قبل أن يحاسبه، ووليّ أمر يعرف الطريق بدلًا من أن يسير فيه معصوب العينين. نريد مدرسة تُعيد تشكيل النفس قبل شرح الدرس، وتزرع الأخلاق قبل أن تقدّم المعلومة، وتُعيد للتربية مكانتها التي كانت أصل كل شيء.
وعندها فقط… حين يعود الإنسان إلى قلب العملية التعليمية، سيصبح الطريق واضحًا، وسيعود التعليم كما يجب أن يكون: بناءً للعقل، وتزكيةً للروح، وتأهيلًا لجيل يعرف أين يقف… وإلى أين يسير.