صراحة نيوز- بقلم: عاطف أبو حجر
بالأمس فقط، كنتُ طفلًا أركض في شوارع وادي الأكراد والحارة، ألعب بلا همّ، أضحك من قلبي مع أولاد الجيران، لا أفكر في الغد، ولا أحمل بيدي سوى قطعة كُنافة بدون جبنة، أمام محل الحارس بشارع الحمام… وبعض الأحلام الصغيرة.
مرت الأيام كما تمر نسمة خفيفة، لا نشعر بها حتى تختفي. واليوم… أنا جد!
نعم، لقد أصبحتُ جدًّا، وهذه الجملة وحدها كفيلة بأن تجعلني أبتسم وأتأمل.
حفيدتي الأولى، “ماسة”، جاءت كهدية من ربّ العالمين، وكأن الحياة قررت أن تعيد لي طفولتي على هيئة ضحكة منها، على شكل خطواتها الأولى.
وكأن الحياة أعادت ترتيب نبضها، فجاءت “ماسة” تحمل ملامح الطفولة التي فقدتها، وصوت البراءة الذي غاب في زحام الأيام. نظرتها الصغيرة تكفي لتذيب تعب السنين، وابتسامتها تُشعل في داخلي شعورًا لا يشبه إلا البداية… بداية حياةٍ جديدة.
حين تركض نحوي “ماسة”، بكل براءتها، وتحتضنني بقوة، أشعر أن الدنيا كلها تحتضنني، وأن عمري كله يُعاد كتابته.
تلك اللحظة التي تضمني فيها بشوقٍ لا يشيخ، تشبه الهدوء بعد العاصفة، الدفء بعد البرد، والفرح الخالص الذي لا يُكتب ولا يُوصف.
صدقوني إن قلت: لا تريد ترك حضني… وأنا كذلك، لا أريد أن أتركها.
هي ليست حفيدتي فقط، بل هي نبضٌ جديد لحياتي.
تأملتُ في عمري، فوجدته غمضة عين، سنوات مرّت كأنها دقائق.
أتذكّر صوت أمي توقظنا للمدرسة، والكتب المدرسية، وأوراق الامتحانات، أول نجاح، أول إكمال، أول “هوشة”، أول وظيفة، أول حب، يوم خطبتي، يوم زفافي… يوم وُلدت ابنتي الأولى، البكر دينا، ثم ابنتي الثانية كيان، أم حفيدتي “ماسة”.
أحداث كثيرة مرّت بمراحل حياتي: بين الأهل والأحبة، في الأفراح والأتراح، بالتعب والراحة، في الصيف والشتاء، في الفقر والجوع، ومع كل من نحب من الجيران والأقارب.
نقاشات عمي إبراهيم ،
“مرافقة أبي أيام الحراث ومواسم حصيدة القمح لموارس أم زيتونة وبطنا، وبيادر طبلوج والمغاريب وزغيب.”
وضحكة عمّتي أمينة، وطيبة عمّي مبارك، وأحداث أخرى كثيرة.
كل تلك اللحظات تتزاحم في ذهني وأنا أرى حفيدتي “ماسة” تبتسم لي.
وكأن كل ذلك الماضي لم يكن إلا طريقًا يقودني إلى هذه اللحظة بالذات: لحظة وجودها في حياتي.
أنا الآن تجاوزتُ الخمسين. قد يراه البعض عددًا كبيرًا، لكنه في عيني لحظة واحدة ممتدة، رحلة من الطفولة حتى الطفولة مجددًا، لكن هذه المرة… مع حفيدتي.
“ماسة” أعادت لي شبابي، أعادت لي بهجة الأيام الأولى.
صرت أعدّ الأيام التي سأقضيها معها، أفتّش في ذاكرتي عن حكايات أحكيها لها، وأصنع في خيالي عوالم تشبه طفولتها، مليئة باللعب والضحك والدفء.
قمة سعادتي عندما أشاهد “ماسة” تلوّح بالعلم الأردني على أنغام أغنية عمر العبداللات “علا علم بلادي”، وأيضًا وهي تقلد المشية العسكرية على أنغام أغنية الطابور.
وكيف لا تفعل ذلك، والأب في الجيش العربي، والأم في الأمن العام؟
أقولها من قلبي: أنا جدّ سعيد… وجدّ ممتن… وجدّ فخور.
لأن “ماسة”، حفيدتي الأولى، جعلتني أعيش الحياة من جديد، بحبٍ جديد، وعينٍ جديدة، وقلبٍ لا يشيخ.
وهذا الشيب الذي يكسو رأسي، وهذا الوقار الذي تراكم على ملامحي، لا أراهما نهاية… بل بداية أخرى.
بداية مليئة بالحكمة، بالنضج، وبأملٍ متجدّد.
فكل شعرة بيضاء تحمل قصة، وكل تجعيدة تخفي ضحكة أو دمعة، أما “ماسة”، فهي النور الذي يجعلني أرى هذا العمر تاجًا، لا عبئًا.
ومادام في القلب نبض، وفي اليدين حنان، فالعمر وإن طال… لا يزال جميلًا.يا ترى، كم بقي من العمر لنعيش مع “ماسة” هذه اللحظات الثمينة؟ وهل ستتذكر “ماسة” بهذه الأحداث كما أتذكر أنا الآن؟
لا أخفي عليكم، مشاعري في هذه اللحظة جياشة، ودمعتي نزلت بلا سابق إنذار، من فرط الحب والامتنان والحنين.
فالحياة تحمل في طياتها الكثير، لكن حضور “ماسة” جعل كل شيء أجمل، وأعطى للزمن معنى جديدًا يستحق أن يُحكى ويُتذكر.
المصدر: صراحة نيوز
كلمات دلالية: اخبار الاردن عرض المزيد الوفيات عرض المزيد أقلام عرض المزيد مال وأعمال عرض المزيد عربي ودولي عرض المزيد منوعات عرض المزيد الشباب والرياضة عرض المزيد تعليم و جامعات في الصميم ثقافة وفنون نواب واعيان علوم و تكنولوجيا اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي نواب واعيان تعليم و جامعات منوعات الشباب والرياضة ثقافة وفنون علوم و تكنولوجيا زين الأردن أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام اخبار الاردن أقلام أقلام
إقرأ أيضاً:
"الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
غزة - خاص صفا
"ناجية وحيدة"، لكن صدمة فقد عائلتها قبل نحو شهر، في وقت وضعت فيه حرب غزة أوزارها، جردتها من معاني الكلمة، وتعيش أوضاعًا صعبة، تتمنى فيها "اللحاق بهم.
الفتاة بتول أبو شاويش "20 عاما"، واحدة من آلاف الناجين الوحيدين لأسرة كاملة ارتقت بحرب غزة، لكنها تُسقى أضعافًا من كأس الفقد، لكونها استبعدته يومًا.
"أنا لستُ ناجية، أنا وحيدة وتمنيتُ لو أني ذهبتُ معهم"، تقول بتول لوكالة "صفا".
وتضيف "استشهدت أمي وأبي وإخوتي في قصف بجانب بيتنا في أبراج عين جالوت قبل شهر، وكنت معهم في نفس البيت".
ولكن دقيقة بين مغادرة "بتول" غرفة إخوتها نحو غرفتها، كانت فاصلًا بينها وبينهم، بين حياتها ومماتهم، رغم أن أنقاض البيت وقعت عليها هي أيضًا.
وتصف تلك اللحظات "كنت بجانب محمد وجميعنا بغرفة واحدة، ذهبت لأبدل ملابسي، وفي لحظة وجدت نفسي تحت الأنقاض".
ما بعد الصدمة
وانتشلت طواقم الدفاع المدني "بتول" من تحت جدارين، مصابة بذراعيها، وحينما استفاقت داخل المستشفى، وجدت عمها بجانبها.
سألت بتول عمها عن والديها وإخوتها، وعند كل اسم كان جوابه "إنا لله وإنا إليه راجعون".
لم تتمالك نفسها وهي تروي اللحظة "لم أستوعب ما كان يقوله عمي، لقد فقدتُ أهلي، راحت أمي رغم أنني كنت أدعوا دومًا أمامها أن يكون يومي قبل يومها".
"بتول" تعيش أوضاعًا نفسية صعبة منذ فقدت أسرتها، ويحاول عمها "رفعت"، أن يخفف عنها وطأة الفقد والصدمة.
"لحظات لم تكتمل"
يقول رفعت "40 عاما"، لوكالة "صفا"، إنها "ليست بخير، لا تعيش كأنها نجت، ولا تتوقف عن التساؤل لماذا لم تذهب معهم".
ويضيف "هي تؤمن بالأقدار، لكن أن يفقد الإنسان أهله وفي وقت هدنة، يعني مفروض أنه لا حرب، والقلوب اطمأنّت، فهذا صعب خاصة على فتاة بعمرها".
وسرق الاحتلال لحظات جميلة كثيرة من حياة "بتول"، لم تكتمل، كحفلة نجاح شقيقها "محمد" في الثانوية العامة.
يقول عمها "بتول بكر أهلها، وهي تدرس في جامعة الأزهر، رغم كل الظروف، وقبل استشهاد أخي وعائلته، احتفلوا بنجاح محمد، وكانوا ينوون تسجيله معها في الجامعة".
ومستدركًا بألم "لكن كل شيء راح، وبقيت بتول وحيدة تحاول أن تنهض من جديد، لكن ليس بعد".
ولم تقدر "بتول" على وداع أهلها من شدة صدمتها، وحينما وضعوها بين خمسة جثامين، تحدثت إليهم، سألتهم لما "رحلتم وتركتموني"، وما قبلت إلا جبين شقيقتها الصغيرة، أما أمها "فعجزت عن الاقتراب منها"، تردد بتول وهي تهتز من استحضار المشهد.
ويوجد في غزة 12,917 ناجيًا وحيدًا، تبقوا من أصل 6,020 أسرة أبيدت، خلال حرب الاحتلال على غزة على مدار عامين، فيما مسح الاحتلال 2700 أسرة من السجل المدني بكامل أفرادها، البالغ عددهم 8,574 شهيداً.