حين يفضل المعتقلون الموت على الحياة

من أكبر المآسي التي تمر بها مصر مأساة المعتقلين السياسيين، ستون ألفا أو يزيد تكتظ بهم السجون المصرية التي تم إنشاء المزيد منها لاستيعاب الوافدين الجدد الذين يتدفقون عليها تباعا.. مأساة بدأت مع انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 واستمرت حتى الآن، اقتصرت في البداية على طيف واحد (الإخوان وأنصارهم) لكنها اتسعت لاحقا لتطال بقية القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ليس ذلك فحسب، بل إنها شملت أقواما ليس لهم علاقة بالسياسة ومناكفاتها، بل هم مجرد فئات مجتمعية متضررة من سياسات النظام، حاولوا التعبير عن غضبهم بطرق سلمية؛ مثل أهالي جزيرة الوراق، أو بلقاس، أو الضبعة، أو عمال بعض الشركات والمصانع.

. الخ.

تنكر السلطات الحالية كعادة أسلافها وجود معتقلين سياسيين، وتدعي أنهم سجناء جنائيون، مستندة إلى شكليات قانونية تصنف الأعمال المتعلقة بمناهضة النظام جرائم جنائية، بينما العالم كله يعرف أن هؤلاء الـ60 ألفا هم من المعارضين السياسيين، وحتى الحكومة التي تنكر علنا وجود معتقلين سياسيين تخصص سجونا لهم تميزهم عن الجنائيين التقليديين، غير أنها حولت سجون السياسيين إلى "جهنم حمراء"؛ تنكر السلطات الحالية كعادة أسلافها وجود معتقلين سياسيين، وتدعي أنهم سجناء جنائيون، مستندة إلى شكليات قانونية تصنف الأعمال المتعلقة بمناهضة النظام جرائم جنائية، بينما العالم كله يعرف أن هؤلاء الـ60 ألفا هم من المعارضين السياسيين، وحتى الحكومة التي تنكر علنا وجود معتقلين سياسيين تخصص سجونا لهم تميزهم عن الجنائيين التقليديينتعذيب نفسي وبدني، زنازين انفرادية أو مكتظة فوق طاقتها، إضاءة مستمرة على مدار 24 ساعة تمنع النوم، المنع من التريض، الحرمان من العلاج. بالمجمل، قتل بطيء، وقد توفي بالفعل عدد من المعتقلين نتيجة هذا الإهمال الطبي، مع منع الأهالي من الزيارة، أو إجرائها خلف حواجز سلكية أو ألواح زجاجية.

كل ما سبق من انتهاكات هو انتهاك في حد ذاته للائحة السجون التي وضعتها السلطة بنفسها. تختلف المعاملة بين السجناء، فبينما يتمتع الجنائيون (من قتلة ولصوص وتجار مخدرات وسلاح.. الخ) بمعاملة إنسانية، حتى أنهم يقتنون أجهزة تبريد وتلفزيونات، ويستقبلون أهاليهم في زيارات طبيعية، ويتناولون وجبات ساخنة من خارج السجن، فإن السياسيين يتفاوتون في الحرمان من هذه الحقوق، حيث يتمتع البعض بجزء منها، بينما يحرم البعض منها كلها.

منذ مطلع تموز/ يوليو المنصرم دخل بعض المعتقلين في سجن بدر 3 (قطاع 2) إضرابا مفتوحا عن الطعام، اكتسب المزيد من المشاركين تباعا، طلبا لفتح الزيارة لأهاليهم المحرومين من الزيارة منذ 8 سنوات. هؤلاء المعتقلون هم قادة الصف الأول في حكومة الرئيس الراحل محمد مرسي؛ سواء ممن كانوا في الفريق الرئاسي، أو رئيس البرلمان الأسبق، وبعض النواب الآخرين أو بعض الوزراء والمحافظين، أو قيادات جماعة الإخوان المسلمين، ومعهم بعض الرموز الإسلامية الأخرى. وقد أبلغ هؤلاء المعتقلين رئيس المحكمة خلال جلسة يوم 5 تموز/ يوليو الماضي بإضرابهم عن الطعام بسبب حرمانهم من الزيارة، كما أثبتوا تعرض حالتهم الصحية للخطر، وطلبوا من رئيس المحكمة إثبات ذلك لكنه رفض.

في الوقت نفسه، تمكن السجناء من تسريب مجموعة رسائل موجهة للرأي العام، نشرتها أسرهم تباعا، وتضامن معها العديد من الرموز الوطنية المصرية، وهو ما دفع وزارة الداخلية لإصدار بيانين تنكر فيهما هذا الإضراب، وتنكر تسريب رسائل، بل إنها استدعت رئيسة تحرير الموقع الصحفي "مدى مصر" لينا عطا الله لاستجوابها غدا أمام النيابة فيما نشرته حول هذا الإضراب.

لقد حاكم النظام هؤلاء المعتقلين باتهامات زائفة، وأصدر ضدهم أحكاما أكثر زيفا، وهم الآن مقيدو الحرية بين يديه، لكنهم يطلبون أبسط حقوقهم القانونية المشروعة، وهذا ما ينبغي أن يستنفر كل أصحاب الضمير الحي في مصر والعالم لدعم مطالبهم المشروعة داخل محابسهم
وحسبما نشرت لجنة العدالة (منظمة حقوقية مستقلة مقرها جنيف) فإن قيادات من وزارة الداخلية خاضت تفاوضا مع المعتقلين لفض إضرابهم نظير تحسين بعض الخدمات ولكن دون السماح بالزيارة، إلا أنها قوبلت برفض المضربين، فما كان من تلك القيادات إلا التهديد بتنفيذ أحكام إعدام نهائية صادرة بحق بعضهم، ورد عليها المضربون بأنهم ذاهبون للموت طواعية من خلال إضرابهم ولا يعنيهم التهديد بتنفيذ الإعدامات. وبالفعل وحسب تقرير اللجنة، فقد أقدم بعضهم على الانتحار وتم نقلهم إلى مستشفى السجن لإنقاذهم. هذا الإقدام الفعلي على الانتحار والذي يتوقع أن يتزايد بينهم ناتج عن تقديرهم بأن الموت بكرامة أصبح أفضل من هذه الحياة المهينة البائسة.

يفرض نظام السيسي معادلة صفرية في مواجهته مع جماعة الإخوان المسلمين، ويرسل بذلك رسالة للسجناء وخاصة القيادات بأنهم لن يخرجوا من محابسهم إلا إلى قبورهم. لا يمكن الإقرار بذلك بطبيعة الحال، فمقادير المعتقلين وغيرهم تجري بإرادة الله، وما بين غمضة عين وانتباهتها يغيّر الله من حال إلى حال، لكننا نتحدث عما قرره النظام حماية لنفسه، وانتقاما من خصومه. وطالما أن النظام قرر استمرار حبس أولئك القادة فعلى الأقل عليه أن يمنحهم حقهم في زيارة ذويهم، وبدلا من نفي وجود إضراب فإن عليه قبول دخول وفد من مجلس حقوق الإنسان الدولي، ومصر عضو فيه، أو لجنة الصليب الأحمر الدولي أو حتى مجلس حقوق الإنسان المصري؛ إلى زنازين المعتقلين المضربين عن الطعام، والتأكد من ذلك، والاستماع إلى مطالبهم، وإذاعة ذلك عبر وسائل الإعلام.

ليس من شرف الخصومة أن يقتل النظام خصومه الأسرى، فهذا لا يحدث حتى في الحروب مع جيوش الأعداء، لقد حاكم النظام هؤلاء المعتقلين باتهامات زائفة، وأصدر ضدهم أحكاما أكثر زيفا، وهم الآن مقيدو الحرية بين يديه، لكنهم يطلبون أبسط حقوقهم القانونية المشروعة، وهذا ما ينبغي أن يستنفر كل أصحاب الضمير الحي في مصر والعالم لدعم مطالبهم المشروعة داخل محابسهم.

x.com/kotbelaraby

المصدر: عربي21