في مشهد سياسي ما زال عالقًا في ذاكرة السودانيين، قدّم الدكتور كامل إدريس نفسه، عقب أدائه القسم رئيسًا للوزراء، بثلاث لغات، حاملًا بين يديه كتابًا ضخمًا وصفه بأنه “خطة شاملة لإدارة المرحلة الانتقالية”، وخلفه كتاب ثانٍ يتناول آليات التنفيذ. بدت اللحظة وكأنها إيذان بمرحلة جديدة، تستند إلى التخطيط والرؤية والعقلانية والحوكمة والمرجعية المؤسسية.

غير أن أكثر من شهرين مرّا على ذلك المشهد، وما زال الكتاب مغلقًا؛ لم يُنشر للعامة، ولم يُطرح للنقاش، ولم يُعتمد كمرجعية سياسية أو إدارية لخطط الحكومة. لم يُقرأ ببساطة، حتى من قِبل السودانيين الذين وُعدوا بأنه سيكون خارطة طريق نحو الاستقرار.

وهنا يتجلى أحد أبرز مظاهر الارتباك في “حكومة الأمل”: غياب الاستراتيجية المعلنة في الفضاء العام، وانحصارها في دائرة النخبة التنفيذية، في وقت تدخل فيه البلاد مرحلة خطة العام 2026 وميزانيتها الجديدة، التي يُفترض أن تشكّل أساسًا لعقد اجتماعي جديد يعالج تحديات الانتقال.

إدارة مرحلة انتقالية بهذا التعقيد دون مشاركة حقيقية من الرأي العام تعكس خللًا مفاهيميًا يصعب أن يغيب عن رئيس الوزراء؛ فلا يمكن لحكومة جاءت بتفويض شعبي ضمني أن تستند إلى خطة غير معلنة، وتُدار بأدوات لا يراها الناس ولا يشاركون في تقييمها.

فالخطة التي لا تُعرض للنقاش لا يمكن أن تكون محل اتفاق، والخطاب الذي لا يقوم على الشفافية يتحول سريعًا إلى عبء سياسي قد يعرقل النهوض بدل أن يدفعه.

هذا الغموض تجاوز حدود الخطة الغائبة، ليشمل قرارات تنفيذية مثيرة للجدل، أبرزها دمج وزارة الري مع وزارة الزراعة، مع إغفال واضح لجانب الموارد المائية. قرارٌ قوبل بانتقادات واسعة من المختصين باعتباره تهديدًا مباشرًا للأمن المائي القومي، في بلد يرتبط مصيره الاقتصادي والبيئي والسياسي بمنظومة مائية إقليمية معقدة، على رأسها ملف سد النهضة ومفوضية حوض النيل.

أما على صعيد العلاقات الخارجية، فالمشهد لا يقل ارتباكًا؛ إذ لا تزال وزارة الخارجية بلا وزير، رغم أنها الجهة المعنية بقيادة جهود السودان لاستعادة وضعه الإقليمي والدولي، وفي مقدمتها عضويته المجمّدة في الاتحاد الإفريقي.

رئيس الوزراء نفى مؤخرًا توليه المنصب بنفسه، مؤكدًا أن “الخارجية تتطلب تفرغًا كاملًا”، لكنه لم يفسر سبب غياب التعيين، رغم أن وزير الدولة المعيّن في هذا المنصب سبق الإعلان عنه وزيراً قبل تكليف إدريس بتشكيل الحكومة.

ويتكرر النمط ذاته في قضية تعيين الدكتور أحمد التجاني وزيرًا للثروة الحيوانية، إذ أثار التعيين جدلًا واسعًا بسبب حمل الوزير المعيّن للجنسية الإماراتية. وفي القاهرة أعلن إدريس سحب التكليف دون أن يوضح سبب الترشيح من الأساس، أو كيف فاتت هذه المعلومة فريق الاختيار الحكومي.

الأدهى أن التراجع بُرّر بوجود “الطابور الخامس” داخل مؤسسات الدولة، وهو توصيف يضع ادريس نفسه امام مسؤلياته، كما يفتح الباب أمام نظرية المؤامرة أكثر مما يقدّم إجابات موضوعية.

في هذا السياق، تبدو حكومة الأمل عاجزة عن إكمال تشكيلها الوزاري أو عقد اجتماع رسمي لمجلس الوزراء بكامل أعضائه. قرابة ثلاثة أشهر مرّت على تشكيل الحكومة، ولا تزال الملفات الكبرى معلقة: لا خطة منشورة، لا وزير خارجية، لا رؤية معلنة لإعادة الإعمار – رغم الوعود بتخصيص مئات المليارات – ولا خطوات ملموسة لتفعيل ما وصفه إدريس بمشروع “مارشال السوداني”.

حتى المبادرات المعلنة، مثل “الوحدة الخاصة للشباب” و”مجلس السلم الاجتماعي “،لم تتحول إلى هياكل قائمة أو سياسات واضحة.. كما أن الوزارات الجديدة لم يصدر لها منشور بالمهام والاختصاصات ، ويُذكر أن رئيس الوزراء أعلن أن أي وزير لا ينجز خلال ثلاثة أشهر سيتم إعفاؤه، ما يطرح سؤالًا مباشرًا: هل ستُطبّق هذه القاعدة على الجميع؟

في المقابل، تُسجَّل للحكومة بعض الإشارات الإيجابية، مثل تأكيد إدريس عودة الحكومة إلى الخرطوم في أكتوبر، والتقدم في ملف عودة الخدمات الأساسية، والتنسيق مع مصر في قضايا التعليم والصحة والأمن المائي، إضافة إلى تحسن الوضع الأمني في بعض الولايات. غير أن هذه المكاسب ستظل محدودة ما لم تُبنَ على أساس مؤسسي وخطة واضحة.

بحسب #وجه_الحقيقة، يبقى التحدي الأكبر أمام حكومة الأمل هو تحويل الخطط إلى واقع ملموس، وترجمة الوعود إلى أفعال قابلة للقياس والمساءلة. فالثقة في إمكانيات رئيس الوزراء – مهما بلغت مكانته العلمية وخبرته الدولية – لا تغني عن الشفافية والرؤية المشتركة. السودانيون لا يتفاعلون مع من يرفع مشروعًا نظريًا، بل مع من يشاركهم تطبيقه، ويقودهم بإرادة تنفيذية يقظة من أجل التغيير. وإن لم يُخرج الدكتور كامل إدريس مشروعه من حيز التصورات إلى ميدان الفعل التنفيذي والسياسي، فستظل حكومته حبلى بالأمل، لكنها عاجزة عن الولادة.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
السبت 9 أغسطس 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: رئیس الوزراء حکومة الأمل رئیس ا

إقرأ أيضاً:

حكومة كامل .. حكومة السودان

ليس من خطة واضحة و ملامح ستقوم عليها حكومة الدكتور كامل إدريس غير مفاهيمه الشخصية من حياته و ممارساته و أحلامه و أمنياته، فقد بدأ عمله بتسمية حالمة للحكومة أنها حكومة (الأمل) و ذلك في حديث كأنه حملة إنتخابية لجذب الناخبين و ليس لحكومة تعمل في ظل أزمات و أوضاع معقدة .

هذه التسمية هي معنى مسمى كتابه (تقويم المسار و حلم المستقبل) الذي قرر هو بمفرده أن يكون هادي الحكومة و نهجها في العمل.

تظهر ملامح تأثر د. كامل بحياته الطويلة في الغرب في قرارين إستقاهما من تأريخ الولايات المتحدة، أولهما قراره بأن أي وزير لا يقدم منجزات واضحة خلال ثلاثة أشهر سيتم عزله و هذا تطبيق ما ابتدعه روزفلت كأساس لتقييم فترة الرئيس من المائة يوم الأولي من حكمه..

ومشروع مارشال الذي يريد فرضه علي الوزراء عنوان خطة أمريكية وضعت عام 1948 لمساعدة أوروبا في أزمتها الإقتصادية.

هل طبق الدكتور كامل القواعد التي قررها علي نفسه؟ فقد شارفت مهلة الثلاثة أشهر على الإنتهاء دون أن يكتمل تكوين الوزارة و ما صدر من قرارات و (توجيهات) في قضايا مهمة و كبيرة كانت من شخصه فقط و ليس من الحكومة.

بل لا تزال أهم وزارة سيادية هي الخارجية شاغرة و أيضاً أهم وزارة خدمية هي الصحة شاغرة و أهم وزارة إنتاج و صادر هي الثروة الحيوانية تنتظر أيضا من يقودها .

و لا تزال الحكومة تنتظر تعيين (لسان) ينطق بإسمها .

كما أن رئيس الوزراء يعمل من خلال مكتب لم يتم تعيينه وفقاً لما أعلنه من معايير بأن يكون الإختيار للوظائف العامة بإعلان عنها و تنافس مفتوح .

مَن هم مَن يديرون عمله و يرتبون شأنه ؟ و من هم من يشيرون عليه بإختيار الوزراء ؟

التقديرات الشخصية في هذا المنصب الخطير تخلق إشكالات أكثر من أن تعالجها، فقد إشتكي رئيس الحكومة من وجود طابور خامس في أجهزة الحكم، يشتكي و هو مَن بيده تعيين و فصل كل من يتولى الوظيفة العامة بمن فيهم الوزراء الذين حدد لهم مهلة للإنجاز .

إن حكومة تصدر لها المحددات و المهام دون أن تكون شريكاً في وضعها و مناقشتها لا تحتاج لأن ينشط الطابور الخامس وسطها فستفعل هي ذلك دون أن تتعبه.

و كيف سيعمل الوزراء و قد سلط عليهم سيف العزل و مبرراته و إتخاذه بيد شخص رئيس الوزراء.

كل هذا سيؤدي لحكومة لا يصلح وصفها بأنها حكومة مدنية أو ليبرالية أو حرة في عملها.

ما تمر به البلاد من حرب لم تنته بعد و آثارها ممتدة لا يصلح معه ما يمكن أن نتوقعه من أعمال و قرارات ليست محكمة و لا مدروسة و لا تتخذ وفق شورى و دراسات و مشاركة من الوزارات و المؤسسات.

إذا لم يتخلي الدكتور كامل إدريس عن هذا النهج في عمله فلن تعمر الحكومة كثيراً و سندخل في مرحلة أخرى مكررة نفقد فيها زمناً ليس بالهين، و الزمن في بلادنا يقاس بمواسم الزراعة ، و أحكام المناخ تضييع أيام منها يعني ضياع أموال و عائدات و هلاك مشروعات و انتشار بطالة .

نريد حكومة تصلح أن نسميها حكومة السودان و ليس حكومة كامل إدريس .

راشد عبد الرحيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • حكومة كامل .. حكومة السودان
  • رئيس الوزراء ينعى الدكتور علي المصيلحي وزير التموين السابق
  • رئيس الوزراء ينعى علي المصيلحي وزير التموين السابق
  • رئيس الوزراء ينعى علي المصيلحي وزير التموين السابق: كان نموذجاً للمسؤول الجاد
  • إدريس: دعم المملكة للسودان مثال يُحتذى به في التضامن العربي والإسلامي
  • وزير الخارجية: الحكومة الإسرائيلية تنتهج سياسة الإبادة في قطاع غزة
  • عاجل | رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري: الاستهداف المتعمد للصحفيين لا يحجب الفظائع التي ترتكبها إسرائيل بقطاع غزة
  • النائب عبد الباسط الكباريتي يوجه كتابًا إلى رئيس الوزراء لمعالجة ارتفاع فواتير الكهرباء في العقبة
  • إبراهيم شعبان يكتب: جحيم احتلال غزة بالكامل يلوح في الأفق.. هذه أخطاره