بقلم : الحقوقية انوار داود الخفاجي ..

تأتي زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام كل عام، لتكون أكبر تجمع بشري في العراق والعالم، وأعمق مناسبة روحية واجتماعية تعكس جوهر القيم الإنسانية التي نادى بها الحسين في كربلاء العدالة، الكرامة، ورفض الظلم. هذه الزيارة التي تتخطى حدود الطائفة والدين والمذهب، أصبحت رمزًا حيًّا لروح المواطنة العراقية، وجسرًا يربط بين أبناء البلد الواحد مهما تباعدت آراؤهم أو اختلفت مشاربهم.


إن مشهد الملايين من الزائرين وهم يسيرون على الأقدام نحو كربلاء، محملين بالمحبة والتضحية، يعكس وحدة نادرة في زمن الانقسامات. ففي الطريق، تذوب كل الفوارق الاجتماعية والطبقية، ولا فرق بين غني وفقير، أو عربي وكردي وتركماني، أو مسلم ومسيحي وصابئي. الجميع يخدم الجميع، والجميع يمشي من أجل مبدأ واحد نصرة الحق الذي مثّله الإمام الحسين.
روح المواطنة تتجسد في أبهى صورها على طول طرق المسير، حيث يفتح الأهالي بيوتهم، وينصبون السرادقات، ويقدمون الطعام والماء والخدمات مجانًا لكل من يمر، بلا سؤال عن الهوية أو الانتماء. إنها مدرسة عملية في التضامن الاجتماعي، تحيي القيم الأصيلة التي يحتاجها العراق لبناء مستقبله، وتؤكد أن قوة البلد تكمن في تلاحم شعبه.
هذه المناسبة أيضًا تُظهر قدرة العراقيين على التنظيم الذاتي، والتعاون الطوعي، والإيثار. ففي وقت الزيارة، تتحول المدن إلى ساحات عمل جماعي، يشارك فيها الجميع، من الشباب إلى كبار السن، من النساء إلى الأطفال، كلٌّ يسهم بما يستطيع، وكأن العراق كله جسد واحد وروح واحدة.
قدسية الأربعين لا تتوقف عند الجانب الديني فحسب، بل تمتد لتكون مناسبة وطنية جامعة، تُعيد تذكير العراقيين بأنهم أبناء أرض واحدة، وتزرع في الأجيال الجديدة إحساسًا بالانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية. كما أن هذه الروح الجامعة تمثل رسالة للعالم بأن العراق ليس بلد صراعات كما تصوره بعض الأخبار، بل هو بلد قادر على إنتاج أضخم تظاهرة سلمية على وجه الأرض، قائمة على الحب والتضحية والتعاون.
من الناحية المجتمعية، فإن ما يحدث في الأربعين هو نموذج عملي لإعادة بناء الثقة بين المواطنين، وإحياء حس المسؤولية تجاه الآخر. حين ترى العراقيين من مختلف المحافظات يقطعون مئات الكيلومترات لخدمة زائر لا يعرفونه، تدرك أن قيم الأخوة والإنسانية ما زالت حيّة في وجدان هذا الشعب.
إن زيارة الأربعين تمنح العراق قوة معنوية هائلة، فهي ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل مشروع أخلاقي وثقافي متجدد، يعزز التماسك الداخلي، ويقوي النسيج الاجتماعي، ويدعم فكرة أن المواطنة ليست شعارًا، بل ممارسة يومية تُبنى بالتعاون والاحترام المتبادل.

في الختام ، يمكن القول إن الأربعين هي نبض العراق، وراية وحدته، وسر تماسكه. وإذا استطاع العراقيون أن ينقلوا هذه الروح التي يعيشونها في أيام الزيارة إلى باقي أيام السنة، فسيكون لديهم عراق أقوى، وشعب أكثر اتحادًا، ومستقبل يليق بتاريخ هذه الأرض المباركة.

انوار داود الخفاجي

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات

إقرأ أيضاً:

من همس متقطع إلى صوت يصل إلى الجميع.. رحلة شفاء من التأتأة بالكتابة

بيروت- لم تكن التأتأة بالنسبة للبنانية كارين الحر، ابنة بلدة حومين الفوقا في جنوب لبنان، مجرد اضطراب لغوي عابر، بل تجربة عميقة شكّلت طفولتها ورافقت محاولاتها الأولى لفهم العالم والتواصل معه. فمنذ سنواتها المبكرة، كانت الكلمات تتجمع عند طرف شفتيها قبل أن تتشابك، معلقة بين رغبتها في التعبير وخوفها من ردود الفعل من حولها.

وفي كل مرة حاولت فيها المشاركة في أحاديث الصف، كانت النظرات الفاحصة والنصائح الجاهزة من نوع "احكي على مهلك.. خدي نفس" تزيد الفجوة بين صوتها وما تريد قوله. ومع مرور الوقت، لم يعد تعثر الكلام مجرد صعوبة لغوية، بل عبئا اجتماعيا يربط بين الطريقة التي يخرج بها الصوت وبين الشخصية والثقة والقدرة.

كبرت كارين وهي تتساءل بصمت: لماذا يُعامل التلعثم كعيب؟ ولماذا تتحول الهفوة الصوتية إلى معيار للحكم على الإنسان؟ لم تكن تبحث فقط عن طريقة تتجاوز بها التأتأة، بل عن مساحة ترى فيها نفسها كاملة، حتى لو خرج صوتها متقطعا.

ومع تقدمها في العمر، تغيّر منظورها. فتحولت التأتأة من مصدر قلق إلى رحلة اكتشاف ذاتي، أدركت خلالها أن صوتها، بكل ارتباكاته، يحمل شجاعة خاصة لا يشعر بها إلا من عاش التجربة فعلا.

في كتابها الأول "ت ت تَأتأة" تقدّم كارين رحلة مصالحة مع الذات تتجاوز مجرد اضطراب لغوي (الجزيرة)رحلة شفاء

في كتابها الأول "ت ت تَأتأة"، لا تقدّم كارين الحر حكاية عن اضطراب لغوي فحسب، بل مسارا شخصيا طويلا نحو التصالح مع الذات. أرادت منذ اللحظة الأولى أن يكون الكتاب صادقا إلى حد يعرّي التجربة دون تزيين، وأن يسمح للقارئ بالاقتراب من عالمها الداخلي كما هو، لا كما يُفترض أن يكون.

كتبت بلغتها التي تشبهها، وتركت الأفكار تتدفق على الورق من دون رقابة. تقول في حديثها للجزيرة نت: "كنت أكتب وأترك الأشياء تخرج وحدها، كأن الورق كان ينتظر هذه المشاعر التي حملتها سنوات". وبذلك تحوّل النص إلى مساحة تحرّر، أسقطت عليها ما ظل عالقا بين الصوت والقلب لوقت طويل.

إعلان

اختارت كارين عنوان الكتاب بعناية. تكرار حرف التاء لم يكن زخرفة لغوية، بل إعلان مواجهة. فما كانت تخجل منه يوما جعلته في الواجهة، كأنها تقول للقارئ: "هذا صوتي الحقيقي، بهذه التأتأة أوجد وأحكي". لقد أرادت استعادة ملكية صوتها، ووضعه في مكانه الطبيعي: جزءًا من هويتها لا يمكن فصله عنها.

وراء هذه الرحلة، كانت هناك عائلة احتضنتها دون شروط. وتؤكد كارين أن ثبات والدتها وأختها منحها القدرة على الوقوف في وجه العالم، وأن إيمانهما المتواصل بصوتها كان حجر الأساس في بنائها الداخلي. هذا الدعم ذكّرها دائما بأن المشكلة لم تكن يوما في صوتها، بل في الطريقة التي يتلقى بها المجتمع اختلافه.

وتعود بذاكرتها إلى سنوات المدرسة الأولى، حين كانت تحاول نطق كلمة بسيطة، فتتقدمها ضحكات أو نظرات شفقة. تقول: "الضحك كان يؤلمني، لكن كلمة يا حرام كانت أشد وجعا". وتضيف: "مع الوقت صار الخوف من ردّة فعل الناس أصعب من التأتأة نفسها".

كارين تواصل إطلاق مشاريع جديدة لتعزيز الوعي بالتأتأة (الجزيرة)بين التأتأة والمرض

ورغم أن التأتأة انتزعت من كارين الكثير في طفولتها وشبابها -من جرأتها ومن اندفاعها الفطري نحو الكلام- فإنها منحتها في المقابل حساسية عالية تجاه الآخرين وقدرة استثنائية على الإصغاء. وتوضح قائلة: "أحب التواصل والكلام، لكن الخوف كبلني لفترة طويلة. لاحقا أدركت أن المشكلة لم تكن في الصوت بل في الخوف نفسه. ومع ذلك، التأتأة منحتني القدرة على أن أسمع بصدق".

ولا تخفي كارين أن المجتمع لا يزال يخلط بين التأتأة والمرض، فحين يتحدث شخص يتأتئ أمام الآخرين، يسارع البعض إلى تقديم نصائح عفوية تثقل عليه أكثر مما تساعده. وتقول: "نحن نعرف كيف نتعامل مع التأتأة، لسنا بحاجة لمن يعلّمنا كيف نتكلم. هذه العبارات تضع الشخص تحت ضغط كبير". لكنها ترى في الوقت ذاته أن الوعي يتحسن تدريجيا، وأن السخرية يجب أن تتوقف تماما. وبالنسبة إليها، يأتي كتابها خطوة في مسار أطول لنشر الوعي، لا خاتمته.

وعندما جاء يوم توقيع الكتاب، شعرت كارين للمرة الأولى بأن صوتها يُستقبل كما هو، بلا تصحيح ولا مقاطعة. وتقول: "كان أجمل يوم في حياتي. أحبّ الناس من حولي، وشعرت بفخر وراحة، وخوف جميل، ذلك الخوف الذي يرافق كل بداية حقيقية".

بالنسبة إلى كارين، كانت الكتابة مسارا شِفائيا كاملا. جلست أمام الورق لتُفرغ ما ظل محبوسا لسنوات: الخوف، الوجع، وانكسارات الصوت. ومع الوقت تحولت الكتابة من فعل تعبيري إلى ملجأ يومي، طقس يعيد ترتيب الداخل ويهبه قدرا من الطمأنينة. تقول: "حين أكتب، أتنفّس. وأترك خوفي على الورق".

واليوم، بعد صدور كتابها، تمضي كارين في العمل على مشاريع جديدة تُعنى بالتوعية حول التأتأة، ساعية إلى خلق مساحة أوسع تتقبل اختلافات الصوت واللغة وطريقة التعبير، وتتيح لمن يعيش التجربة أن يشعر بأنه مسموع بلا أحكام.

وفي ختام حديثها، توجّه رسالة إلى كل من يمر بالطريق نفسه: "أصواتكم جميلة، وطريقتكم ليست خطأ. على المجتمع أن يسمعكم كما أنتم، لا كما يريدكم أن تكونوا. وإذا لم يسمعكم جيدا. فالمشكلة ليست فيكم".

إعلان

مقالات مشابهة

  • الأردن.. الأمير علي بن الحسين يهنئ المنتخب بعد الفوز على العراق
  • أزمة منتصف العمر عند المرأة بعد الأربعين.. طرق فعالة في التعايش وتقليل التوتر النفسي
  • الحسين إربد يتخذ قراراً بأشن مدربه 
  • دعم الصحة مسئولية الجميع
  • بعد تطويره ورفع كفاءته.. محافظ سوهاج يفتتح نادي الإيمان لذوي الإعاقة
  • واشنطن تبحث عن حل يرضي الجميع في أوكرانيا
  • جائزة الحسين… وسامُ العطاء
  • من همس متقطع إلى صوت يصل إلى الجميع.. رحلة شفاء من التأتأة بالكتابة
  • جلسة حوارية تناقش المواطنة الرقمية وتحديات التفاعل في المنصات الاجتماعية
  • وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تستقبل النائب الأول لرئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لبحث نتائج الزيارة ومستقبل العلاقات الاستراتيجية مع البنك